السبت. نوفمبر 23rd, 2024

أمة القراءة …لا تقرأ  ” الأسباب والنتائج “

 

الدكتور عثمان كضوار.

باحث في الفكر الإسلامي ومقاصد الشريعة

 

الأمة التي لا تقرأ تموت قبل أوانها ، مقولة اقتطفتها من  كتاب ” فقدان التوازن الاجتماعي ” للمفكر جودت سعيد ، وأنا صغير  كنت شغوفا حينها بأفكار أمثال هذا الرجل ، ولم أستوعب هذه المقولة إلا بعد مرور السنين حيث واقع الأمة الإسلامية ارتباطا بالعلم والمعرفة بات يفسر بصورة واضحة المقولة سالفة الذكر؛  فلقد ماتت الأمة الإسلامية منذ أن فقدت مشعل المعرفة ، ماتت منذ أن تربعت على عرش الفتن، ماتت منذ أن تحول الكتاب إلى عدو وباتت الرفوف تزين به، لتنوب عنه وسائل التواصل الاجتماعي  التي قتلت ولاتزال  كل أشكال  البحث العلمي.

إن للقراءة والمطالعة ” الورقية ” طعم خاص   في  تأصيل المعلومة وترسيخها من جهة، وإدراكها في شموليتها من جهة  أخرى ، فشتان من يسترخي على الفراش وهو ينصت إلى شيخ، جاهلا وجهته العلمية، وخلفيته الإديوليجية  وانتماءه المذهبي والكلامي ، وبين من ينقب في المعاني ويقلب الكتب هنا وهناك ، مدركا أسرار اللفظة وأبعادها ، لينتقل بعد ذلك إلى مقام أرفع من ذي قبل ، حتى يستوفي شروط القراءة المتبصرة .

إن حديثي عن القراءة لا أقصد به لونا معينا من القراءة ، وإنما أود الإشارة إلى القراءة في شموليتها من حيث اعتبارها وسيلة للرقي العلمي والاجتماعي في أعلى المستويات ، القراءة التي يستطيع من خلالها الأستاذ اكتساب المهارات وقسط من الإبداع البيداغوجي ، مع تطوير معارفه وإنضاجها، غير أن الواقع الحالي لدى العديد من المدرسين – وللأسف-  يدعو إلى القلق والتساؤل ، حيث عدد لا يستهان به منهم يعانون بدرجات متفاوتة من  القدرة على إيصال المعلومة ، بقدر معاناتهم من إدراك كنهها ودلالاتها ، لتنقل العدوى إلى المتعلمين فتضيع المعلومة ويضيع معها العلم ، فرب مدرس ليس له من المعرفة إلا قشورها .

وهذا لا أعني به عامة المدرسين فمعظمهم على وعي بالمسؤولية الملقاة على عاتقه ، تجده منغمسا في البحث انغماسا، سعيا إلى تطوير معارفه على جميع المستويات، ولا يختزل البحث في  مجرد ماهو مهني ،

والأمر نفسه يقال إلى من يحسب نفسه منتميا إلى زمرة العلماء ، لا يتردد في إصدار الفتاوى دون لحظة تأمل أو استشارة ، ناهيك عن غياب آليات الاجتهاد التنزيلي الذي بات من الضروري استحضاره أثناء عملية الإفتاء ، والنتيجة كما أصبحت واضحة للجميع ، التسارع  والتصارع على الكراسي العلمية للتباهي بشتى أنواع القضايا التي تفسد أكثر مما تصلح ، وأقصد بذلك ما أصبحنا نراه صباح مساء بالمنابر الإعلامية ببعض الدول ، حيث تدافع المصالح الدنيوية واستغلال الدين بكل ماأوتوا من إمكانات بتوظيف لغة التملق لأجل التورق.

وقس على  ذلك كل القطاعات المعنية باستخدام المعرفة كوسيلة إصلاحية ” الطب ، الهندسة ، … ولنتيجة ضياع المصالح البشرية كما يشهد على ذلك واقعنا الحالي ، فما أكثر المفسدين باسم العلم باسم الاحترافية والمهنية .

الحديث عن المعرفة تحت مسمى القراءة هي دعوة إلى الجميع كل من موقعه ومجاله، حتى تعود الأمة الإسلامية إلى المكانة التي تبوأتها خلال عقود من الزمن ، حيث كان من الصعب تصنيف العلماء من جهة تخصصاتهم نظرا لسعة علمه ، وبروزهم في عدة مجالات  كان لها الأثر الكبير على المسلمين وغيرهم في العالم أجمع ، والأمثلة على ذلك كثيرة أذكر على سبيل المثال  :

– ابن سينا : أحد أعظم العلماء المسلمين الذين أثروا في أوروبا على الإطلاق. كان ماهرا بشكل كبير في العلوم القرآنية منذ أن كان في العاشرة من عمره. وقد كان مثال للعلماء الموسوعيين ، كان كثير المعرفة في الفيزياء والفلسفة والرياضيات والفلك بالإضافة إلى الطب الذي اشتهر به بشكل كبير.

من أهم كتب ابن سينا “القانون في الطب” والذي يعد المرجع الأول والأكبر في طب الدواء فهو ليس مجرد تجميع لبعض الأمراض ودوائها ، ولكنها تجميع لخلاصة تجارب كثيرة قد مرت على ابن سينا لذلك فهو كتاب متفوق في الطب لمدة تزيد عن ستة قرون.

وفي مجال الفيزياء كانت له أبحاث في الزمن والجاذبية والضوء والفراغ كما كان يدرس الموسيقى.

-أبو ريحان البيروني:كان البيروني طالبا للعلم وعالما في نفس الوقت ، فهو يحمل الكثير من الخبرات في الفيزياء وعلوم ما وراء الطبيعة والرياضيات والجغرافيا والتاريخ  ، وهو أحد أهم العلماء المسلمين في العصر الذهبي. ومن أهم كتبه “القانون المسعودي “والذي يتحدث عن كثير من نظريات الفلك والفضاء والشمس والقمر وحركة الكواكب وكل المواضيع المرتبطة بهذا.

كما له كتاب آخر أكثر شهرة وهو ” الآثار الباقية” والذي يتحدث عن التاريخ القديم للأمم مع بعض الحقائق الجغرافية  ، وهذا الكتاب يناقش دوران الأرض ويضع أرقام دقيقة لحساب المرتفعات في العديد من الأماكن والجدير بالذكر أن هذا العالم قد حدد أرقام دقيقة لكثافة 14 نوع من الأحجار المختلفة كما أن له الكثير من الأبحاث عن الضوء والموجات

أبو النصر الفارابي:

شارك هذا العالم في الكثير من المجالات ، منها العلوم والفلسفة والمنطق وعلم الاجتماع والدواء والرياضيات والموسيقى !! فهو يعد أحد أكثر العلماء الموسوعيين امتيازًا.

والجدير بالذكر أن الأوروبيين يعتبرون الكتب التي ألفها الفارابي في الفلسفة ذات نفس القيمة الخاصة بكتب أرسطو فقد جعل من دراسة المنطق مهم أكثر سهولة عن طريق تقسيه إلى فرعين التخيل والإثبات وقد كان هو من مهد العمل لابن سينا فيما بعد.

فهؤلاء وغيرهم كثير محمد بن موسى الخوارزمي و  أبو بكر الرّازي ، الكندي ، ابن النفيس ، ابن رشد… ساهموا في إقامة حضارية إسلامية ظلت قائمة إلى أن أتى عليها حين من الدهر لم تعد شيئا مذكورا ، وسبب ذلك راجع إلى فقدان المسلمين للبوصلة العلمية .

وأحب في نهاية هذه الورقة أن أختم بما حرص عليه الإمام الشاطبي  والإمام الغزالي وهما يتحدثان عن أهمية العلم والتحصيل ، ارتباطابالعمل الصالح ، إذ لا قيمة للعلم بدون عائد نفعي .

فهذا الأمام الشاطبي قد خصص المقدمة السابعة والثامنة والتاسعة من الجزء الأول من كتابه الموافقات ، للحديث عن   ماهية العلم النافع  ، مشيرا إلى أن العلم ليس مقصودا لذاته ف ” كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون حيث هو وسيلة إلى التعبد ….وأن كل علم لا يفيد عملا فليس في الشرع ما يدل على استحسانه ”  الموافقات : للشاطبي ، المجلد الأول ، المقدمة السابعة ، ص 41. دار الكتب العلمية

كما يبين رحمه الله أقسام العلم حيث ” من العلم ماهو من صلب العلم ، ومنه ماهو ملح العلم لا من صلبه ، ومنه ماليس من صلبه ولا ملحه ، فهذه ثلاثة أقسام.” – نفسه : المقدمة التاسعة ، ص 53-

أما الإمام الغزالي فمن أجمل ما قرأت له رسالته إلى تلميذه  ” أيها الولد ” ، حيث وجه له نصائح عدة ، من بينها ما تعلق بتحصيل المعرفة وترشيدها لتكون صالحة منجية صاحبها من الهلاك ، أذكر من ذلك قوله رحمه الله : ”  أيها الولد ، – اعلم أن علماً لا يبعدك اليوم عن المعاصي، ولا يحملك على الطاعة، لن يبعدك غداً عن نار جهنم، وإذا لم تعمل اليوم، ولم تدارك الأيام الماضية تقول غداً يوم القيامة: [فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً] السجدة: 12، فيقال: يا أحمق أنت من هناك تجيء.

– لو كان العلم المجرد كافياً لك ولا تحتاج إلى عمل سواه – لكان نداء الله -تعالى- : “هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ هل من تائب؟” ضائعاً بلا فائدة.

-أيها الولد، خلاصة العلم: أن تعلم أن الطاعة والعبادة ما هي؟ : اعلم أن الطاعة والعبادة متابعة الشارع في الأوامر والنواهي بالقول والفعل، يعني: كل ما تقول وتفعل، وتترك قوله وفعله يكون باقتداء الشرع، كما لو صمت يوم العيد وأيام التشريق تكون عاصياً، أو صليت في ثوب مغصوب -وإن كانت صورة عبادة – تأثم.

-أيها الولد، ينبغي لك أن يكون قولك وفعلك موافقاً للشرع؛ إذ العلم والعمل بلا اقتداء الشرع ضلالة” – أيها الولد : لأبي حامد الغزالي ، ص 65-77 ، دار النشر الإسلامية -.

لقد تبين الآن أن أسباب الوضعية المزرية التي تعاني منها الأمة الإسلامية ، تعزى إلى فقدانها للعلم الرصين أولا ، و فقدان ثماره التي قطفها الأولون حيث استطاعوا مزج العلم كيفما كان نوعه بالعمل الصالح.

لقد باتت الأمة الإسلامية تعاني من الأمية ليس بمفهومها الأبجدي  فحسب، ولكن من جهة الجهل  بآليات العلم وطرق التحصيل ، وتفعيل آثاره على الفرد والمجتمع ، فحري بنا مراجعة ما تبعثر من الأوراق ، وإعادة الاعتبار لهذه الأمة المباركة ، أمة القراءة والعلم والمعرفة ، أمة المجد والنصر ، أمة الإبداع والابتكار ، حتى نستطيع إعمال وظيفة العقل بدل تعطيله ، استثماره عوض تخريبه ، فالعقل كباقي الكليات الخمس في حاجة اليوم إلى حمايته من جهة والوجود والعدم كما هو مصرح به في كتب الأصول والمقاصد.

Related Post

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *