شعيب البطار
الحياة لحظتان؛ إما ألم وعناء وإما متعة وهناء،
والألم لحظة لا تشبه باقي اللحظات، ففيها يتباطأ الزمن؛ لينقسم إلى أجزاء صغيرة، كعُقد أُبرمت على طول حبل يمسكه العليل، لا يبارح عقدة إلا بعد أن يمسك بها ويضغط عليها بشدة وكأنه يحاول أن يصب فيها جام ألمه، فيشعر وكأن اللحيظة من الألم دامت زمنا طويلا.
فالكون رحب فسيح لكن المتألم يكتفي بهذه اللحظة ملاذا و مسكنا له، فهي أرضه وسماؤه وعالمه الذي لا يُحَصِّل فيه سوى الوصب والنصب والمعاناة و والأنين.
لكن؛ هل كل الألم ألم، أم أن للأمر ظاهر وباطن؟
إن الوجع الذي يكسو الألم في الحقيقة لا يمثل جوهره، بل فقط القشرة التي تحجب ما يقبع في العمق، وعمق الألم وجوهره لا يمكن إدراكه إلا بسبر أغوار هذا التأوه،
و السبر يحتاج لا شك إلى سفر بالروح لا بالجسد دون الفصل بينهما، لأن الفصل دون بقاء الوعي يظل فعلا تراجيديا يتمرد على سلطة القدر، وبطله لا ينتشي لذة الانتصار، فالمجابهة تقوده إلى حتفه، موت يكتب بمداد التضحية وجوده على خط التاريخ، لكنه وجود مزيف مادام البطل حرم متعة الصفاء الثاوي في أعماق الألم، وقد قضى نحبه وترك كل ذلك للمتفرج بفعل التطهير catarsis .
فإذا كانت التراجيديا تعجز عن إدراك السعادة بفعل وضع حد للذات الواعية، فهل من سبيل آخر لتجاوز هذه اللحظة الانطولوجية والهروب من ربقة هذا الضنى القابع بين حنايا الضلوع إلى محراب الهناء والصفاء؟
إن الطريق الآخر يكمن في تطهير المتألم نفسَه بدل تطهير الجمهور ، والوصول إلى الطهر يمكن تحقيقه انطلاقا من
من بناء عمران سيكولوجي يمتح من يقين إيماني بخالق الوجود، يقين قادر على استشراف ما بعد الألم، يرى المتألم من خلاله ما هو أجل وأعظم، عظمة إجلال وإبهار وجمال، يصغر حينها كل ألم مهما كان موجعا.
طريق مقاصدية تروم تزكية النفس، من طريق الصبر والمصابرة؛ تقوم على اقتحام العقبات بتشمير سواعد المجاهدة والامساك بحبل الذكر النوراني الذي يربط الوَجد بالواجد والمعبود بالعابد، وأما الحبل الذي اُبرمت عليه عُقد الأسى فيصير حينها سُبحة طرفها الأول مشدود في أعماق النفس وطرفه الآخر في الماوراء .
و الألم لحظة تشع بأنوارها إلى الآخرين، تطرق باب وجودهم فيتألمون لألم المتألم، ويشفقون من حاله فيُهرعون إليه بالدعاء، طارقين باب السماء، مما يجعل الألم نورا وبركة وسفرا وحركة، حركة تضع قدمي الوجود على سكة الخلود .
في الحديث القدسي يقول الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة: (يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني. قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين!؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟
إن الألم لحظة قادرة على استجلاب الآخر وشد قلبه؛ فيتحول الوجود من وجود فردي إلى وجود جماعي، تنبثق فيه نسمات التآزر و المواسات لتبسط جناح الرحمة وتنثر ريشات الأمل، صانعة أجنحة المحبة والسلام، سلام يطال كل الناس، فيمضي المتألم حينها منتشيا بطعم المساندة والمشاركة بعد أن رسم وشق طريقه اللاحبة في الأنجاد والأغوار على زورق الإنسانية الطاهرة، غير آبه بعباب الضنى، لا يؤوده الكدح والأسى، فالصاحب رفيق والمؤنس صديق .
الألم لحظة تجتمع فيها الرحمة والرأفة والحب والجمال، تنبض الروح فيها بالخير والإحسان.
إن الألم لحظة فريدة تمنع القلب من أن يظل سادرا في غياهب الغفلة، تضع قدميه في طريق الذكر ، الذكر الذي يجعل من الألم مجرد حامل suport للانطلاق إلى الوجود النوراني.
فكلما تخلصت الآهات من أدران الأرض، أصبحت خفيفة شفافة، وارتقت في سلم العشق الذي نُحتت مدارجه بإزميل النور والجمال، محلقة تراقص الحوريات رقصة الطهر والنقاء، فقد تأدبت النفوس وصقلت صقلا وتبدد ما كان يخفيه الخنوع لهذا الوثن الموجع، وقد تحررت الأصابع من الحبل وعقده لترتفع في العلياء وتسمو لاهجة مبتهلة.
إن الوجود الحقيقي هو تجاوز الألم الى اللحظة الانسانية الطاهرة التي تمتح من مشكاة السماء، لحظة الصفاء والأنس الروحي .
وحياة الانسان في قبضة الرحمان وقد وهب الله عز وجل لعباده نعمة الحرية فهي اليراعة التي يخط بها وجده ووجوده، حرية تكتنفها المسؤولية.
فكن كما قال جلال الدين الرومي رفيقا للألم حتى يبدي لك الطريق.