بقلم : مصطفى الطالب / ناقد سينمائي
تقديم:
يعتبر الممثل حلقة أساسية في حلقات الإبداع المسرحي والسينمائي والتلفزي. بل إن هذا الإبداع لا يمكن ان يترجم من دون وجود ممثل، فهو حلقة وصل بين المؤلف أو المخرج والمتفرج أو المتلقي. ولأهمية التمثيل ودور الممثل فقد كان لزاما أن تظهر نظريات التشخيص والأداء المسرحي ابتداء من أفلاطون إلى وودي ألان مرورا برواد كوميديا ديل ارتي ووانطونا ارطو وبريخت وبيتر بروك وستانيسلفسكي وغيرهم.
وكلما كان الممثل الذي ولد من رحم المسرح، موهوبا وبارعا وذو حس درامي قوي واع بطبيعة وكيفية التحولات التي تصاحب عمله، كلما نجح في إيصال فكرة المبدع في بعدها الفني والجمالي والوظيفي، وفي إبراز مكامن الشخصية التي يقوم بتقمصها أو تجسيدها بأبعادها النفسية والجسمية والاجتماعية. واستطاع أن يجذب المتفرج بكل جوارحه وعقله. فليس من قبيل الصدف أن نجد أحيانا ممثلا محترفا يتحمل عبء ونجاح فيلم أو عمل مسرحي بأكمله لقدراته ومواهبه التي تميزه عن باقي الممثلين الآخرين.
ومن بين الممثلين المغاربة الموهوبين والمتألقين في التمثيل نجد ربيع القاطي إبن مدينة تازة، وهو من الممثلين القلائل الذين لهم حضور قوي في الساحة الفنية المغربية والعربية، و يحضون بإجماع جماهري وباحترام المتفرج المغربي لوزنه الفني والثقافي.
مميزات الممثل ربيع القاطي
أ-مهارة الإقناع أو الاحترافية
قد أبدأ حديثي عن ربيع القاطي من آخر تتويج له حيث فاز بجائزة احسن ممثل في مهرجان “نجمة كريستال” للفيلم المغربي، المقام ببلجيكا،عن دوره في فيلم “النزال الأخير” للمخرج المغربي محمد فكران والذي يتناول موضوع حلم بعض الاطفال بالهجرة نحو أوروبا لكنها هجرة غير شرعية. وهو دور يختلف عن باقي الأدوار التي رأيناه فيها من قبل وهي أدوار إما تاريخية أو اجتماعية مرموقة أو مثقفة، حيث يتقمص شخصية “هشام المانشو” الحالم والمنكسر نفسيا بسبب عدة مشاكل اجتماعية مما يجعله يتعاطى المخدرات والسرقة بمدينة طنجة مدينة العبور للمهاجرين السريين. مما يجعله يتميز بمواصفات ومؤهلات نفسية وجسدية قلما نجدها عند ممثلين آخرين.
يتميز الممثل ربيع القاطي خريج المعهد العالي للمسرح والتنشيط الثقافي بمهارة اقناع المشاهد من خلال حضوره الجسدي التعبيري وصفاء صوته ونطقه ووضوح كلامه وقدرته على أداء العديد من الأدوار المختلفة، هذا الصفاء يمكنه من إبراز عمق وملامح الشخصية التي يجسدها فضلا عن سهولة فهم نفسيتها وعوالمها الدفينة.
فمن شخصية المتسكع الذي يعيش على الهامش مثل شخصية “هشام” في فيلم “النزال الأخير” إلى شخصية المجاهد في مسلسل “دار الضمانة” أو المقاوم في فيلم “أحمد كاسيو”، ومن دور كوميدي في فيلم “الطريق إلى كابول” أو فيلم “كورصا” إلى دور شخصية تاريخية بارزة مثل شخصية سليمان الباروني في المسلسل اللليبي “الزعيمان” أو شخصية القائد إسماعيل آغا في المسلسل السعودي “هبوب”، ومن شخصية المثقف المتعال في الفيلم التلفزي “الماضي لا يعاد” إلى شخصية الزوج الخائن في فيلم “الآنسة فريدة” وغيرها من الأدوار التي أداها وجسدها ربيع القاطي بنجاح، والتي تختلف اختلافا تاما في الزمان والمكان وفي الدلالات الرمزية والاجتماعية التي تحملها.
وهذا يدل على عمق حسه الفني الذي يجعله ينغمس كليا وبتلقائية في أي عمل فني، وعلى حسه الاحترافي القوي الذي يمكنه من الانتقال من الأسلوب الكلاسيكي في الأداء الذي يعتمد على التعبير الجسمي الخارجي (صوت وحركات الجسد ) لأداء الشخصية أكثر من تركيزه على الشعور بها والانفعال معها، إلى المدرسة الأسلوبية التي تجعل من الممثل المحور أو المرجع الأساسي في أداء الدور أو الشخصية بطريقة انفعالية وشعورية تجمع بين الذاتية والموضوعية تتجاوز ما هو مكتوب في السيناريو وأحيانا المخرج عندما يكون عطاء الممثل مقنعا.
وهذا الأمر نلمسه طبعا في جل أعماله وادواره التلفزية والسينمائية التي نلاحظ فيها إما تفاعله الذاتي مع الشخصية التي يؤدي دورها أو تسخير تعابير جسده للشخصية فقط وهذه كذلك تتطلب أيضا مجهودا احترافيا جبارا. طبعا هناك بعض الأدوار التي لم يكن ربيع القاطي مقنعا فيها مثل دوره في فيلم “المليار” للمخرج محمد رائد المفتاحي الذي ربما كانت له رؤية مختلفة للفيلم ربما لم تبلور بشكل جيد.
إن نجاح ربيع القاطي في إقناع المشاهد من خلال الأدوار التي يؤديها في أعماله خاصة السينمائية، يعكس أيضا قدرته على العمل في الظروف الصعبة التي قد تعترض أي عمل فني، وهذه ميزة من مميزات الممثل المحترف والمتمكن من “حرفته” وهي ميزة تمكن الممثل من المشاركة في أعمال عالمية.
ب–المشاركة في الأعمال العالمية
يقال بقدر ما تعطي للفن بقدر ما يعطيك. بمعنى أن التضحية والتفاني في العمل يعودان بالنفع على الممثل من خلال حضوره المحلي والعالمي. وهذا ينطبق على الممثل ربيع القاطي الذي استطاع في ظرف وجيز أن يفرض وجوده كممثل مغربي له مواصفات ممثل عالمي، وهو شيء قلما يصادف الممثلين إلا بعد فترة طويلة من مشوارهم الفني.
فمنذ بداية مشواره الاحترافي شارك القاطي في أعمال درامية عربية مثل المسلسلين السوريين “ربيع قرطبة” (2003) و”ملوك الطوائف” (2005) من تأليف وليد سيف وإخراج الراحل حاتم علي. ثم ستتعزز مشاركته في الأعمال العربية من خلال بعض الأعمال الدرامية الليبية كمسلسل “غسق” للمخرج الليبي أسامة رزق (2021) والذي يسلط الضوء على محاربة الشعب الليبي لتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) ومسلسل “الزعيمان” لنفس المخرج سنة 2020، وهو المسلسل التاريخي الذي يتناول قصة حياة الزعيمان الليبيين سليمان الباروني (أدى دوره ربيع القاطي) وبشير السعداوي، ونضالهما ضد الاستعمار الإيطالي. وقد أبان القاطي على علو كعبه في ميدان التمثيل بحيث أعطى لشخصية سليمان الباروني قوتها السيكولوجية وهيبتها وبعدها التاريخي والنضالي بفضل فصاحته وبينته الجسمية وتمكنه من دراسة الشخصية والتأثر بها كما هو الشأن في مسلسل “دار الضمانة” المغربي لمخرجه محمد علي المجبود والذي يؤدي فيه ربيع القاطي دور شخصية تاريخية “القايد سليمان”.
وهنا تبرز خاصيتان في شخصية القاطي الممثل: الأولى حنكته في التمثيل باللغة العربية الفصحى التي يتقنها ويدافع عنها في كل لقاءاته الفنية والتي تعزز مكانته في الدراما العربية، وهذه تحسب له بين العديد من الممثلين المغاربة الذين لم يطوروا ادائهم على المستوى الدرامي. الثانية هي حس الانتماء إلى الوطن والدفاع عن تاريخه ونضاله وكذلك الانتماء إلى الوطن العربي من خلال تبني قضاياه المصيرية والتاريخية على المستوى الفني. وهذا من الأمور التي تجعله يحضى باحترام وتقدير الجمهور المغربي والعربي عند كل عمل أو مهرجان فني.
أما على المستوى السينمائي فقد شارك الممثل ربيع القاطي في أفلام دولية كشفت عن صفات احترافية اخرى لديه من بينها قدرته على مسايرته لمتطلبات الإنتاجات الدولية والتمثيل باللغتين الفرنسية والإنجليزية وليس فقط باللغة العربية كما يعتقد البعض، مثل الشريط المغربي – الفرنسي “أحمد كاسيو” لمخرجه أحمد السعيدي (2010)، الذي أجاد التمثيل فيه باللغة الفرنسية ، فضلا عن مشاركته بالانجليزية (إلى جانب الممثل المغربي مراد الزاوي) في فيلم “سمايل” (2009) للمخرج الإيطالي فرسيسكو كاسبيروني والفيلم انتاج مشترك بين انجلترا وإيطاليا صور بالمغرب، وهو من أفلام الرعب. وقد أدى القاطي دوره بامتياز أمام أسماء عالمية مثل الممثل المشهور أرمون أصانطي. دون ان ننسى أيضا مشاركته مؤخرا في الفيلم الفرنسي “قلوب سوداء” لمخرجه زياد دويري.
وهذا يؤكد أن حضور القاطي على المستوى الدولي جاء عن جدارة واستحقاق وعن جهد مستمر حتى وإن كان هذا الحضور السينمائي يبدو أحيانا متقطعا أو متباعدا في الزمن. ولا شك أن هناك أعمالا سينمائية دولية تنتظر الممثل ربيع القاطي الذي يتوفر على مهارة التواصل والتفاعل مع الآخرين.
ت –الكاريزما
إن للممثل المغربي ربيع القاطي كاريزما كإنسان في تواصله مع الجمهور، وكفنان في أداء اعماله الدرامية والسينمائية، ولا شك أنها هبة ربانية لا يحظى بها كل الفنانين أو الممثلين. وهذه الكاريزمة نجد لها صدى عند الجمهور الذي يتابع أعمال الفنان ربيع القاطي، من خلال العديد من الشاهادات الحية في حقه.
لكن في عالم الفن الموهبة لا تكفي لابد من صقلها بالعمل الدؤوب والاستفادة من تجارب الآخرين (المحلية والدولية) ومخالطة الرواد والتكوين الذاتي (بما فيه الدراسة والقراءة) الذي يمكن من مسايرة متطلبات العمل الفني المعاصر التي تؤطره النظريات الفنية الحديثة من فلسفة الجماليات وسوسيولوجية الفن وأنثروبولوجية الثقافة وغيرها. وفوق هذا وذاك تصقل الموهبة أيضا بتواضع الفنان وحسه الإنساني الذي يمكنه من الانفتاح على محيطه الخارجي: فنانين ومثقفين ونقاد وجمهور.
و المتتبع لمسيرة الفنان ربيع القاطي يحس بهذه الجوانب في شخصيته الكاريزماتية التي تذركنا برواد مغاربة وعرب مثل الممثل اللبناني عبد المجيد مجدوب الذي اشتهر بدوره في مسلسل “عازف الليل” بصوته الجهوري وأسلوبه البليغ في التعبير أو التمثيل، حتى أصبح أيقونة فنية لدى جيل كان يعي أهمية الفن والثقافة في حياته ودورهما في تحقيق التغيير داخل المجتمع. كما يذكرنا بالممثل المغربي المقتدر الراحل الفنان محمد حسن الجندي في فصاحته وهيئته ودفاعه عن اللغة العربية وحضوره المتميز في أفلام عربية خالدة “كالرسالة” للمخرج الراحل مصطفى العقاد، و”القادسية” للمخرج الراحل صلاح أبو سيف، وفي مسلسلات عربية متميزة “كصقر قريش” ومسلسل “عمر بن الخطاب” للمخرج الراحل حاتم علي. وكأن الممثل ربيع القاطي يربط الماضي بالحاضر على المستوى الفني وعلى مستوى الأجيال التي صنعت مستقبل الفن العربي المسؤول، والتي تؤمن أن الفن جمال وحب ووفاء وصدق وأخلاق ورسالة واستمرارية.
ومن دون شك فإن الممثل المتألق ربيع القاطي واحد من هذه الأجيال التي بصمت ولازالت تبصم المشهد الفني المغربي والدولي باحترافيتها ونبل شخصيتها.