عبد الرحيم بودلال
ارتبطت وظيفة المعلم في الحضارات القديمة بمهمة مقدسة، حيث يتم اختيار أحسن المعلمين للأسر المالكَة؛ أصحاب القيم النبيلة والخلق الحميد التي على منوالها يأتي الحكام. كما يتم اختيار مدربي الرماية وفنون الحرب ومعلمي الاستراتيجيات بعناية فائقة. يتم مراقبة المعلم أشد المراقبة من أجل عدم التلاعب بمشاعر الأمراء أو استغلالهم من أجل ضمان حضوة أو منزلة في ظل الحكم الجديد. يحكي حسن أوريد في رواية سِينترا أن السلطان محمد الخامس كان يحضر بعض دروس المدرسة المولوية ليتفقد مستوى ابنه، مرة كان الأستاذ يشرح بيتاً لأبي تمام:
قد يُنعم اللهُ بالبلوى إن عظُمت … وقد يبتلي اللهُ بعض القوم بالنعم
فاستزاد السلطان الشرح، فأردف وجلاً: كل نقمة في طيها نعمة، وكل نعمة في طيها نقمة، تدخل الأمير واستشهد بالآية: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم. انقشعت أسارير السلطان وعقب بالقول، “الله يرضي عليك ألفقيه”. كما يحكي أوريد أن الحسن الثاني بدوره فرض على مدير المدرسة المولوية أن يهتم فقط بالتعليم، وأن وظيفة التربية هي من اختصاص الملك، لهذا كان يحضر الفصل وبعض الأنشطة باستمرار.
كذلك ارتبط دور المعلم في الإسلام بدور الرسول؛ وظيفته القيام بالإصلاح مثل الرسول بالتأسيس لدعوة ومشروع مجتمعي جديد خلافاً للمشاريع البائدة. فكان دور الفقيه هو تقديم الدروس في المساجد وتعليم اللغة للأجيال وتوريث علوم الأنبياء للمتعلمين. وأكثر من ذلك أنه كان يقوم بالتربية والتنشئة الاجتماعية ويقدم الفتاوى والنصائح ويراقب الحكام، لقد كان رمز السلطة المجتمعية الموازية لسلطة الحاكم.
إلا أنه مع الدولة الحديثة تحول الفقيه إلى موظف لدى الدولة يقبض مقابل عمله راتباً رسمياً، فارتبطت مهمة الرسول الجديد بأهداف الدولة وسياساتها، ووضعت الدولة الشمولية استراتيجيات ومؤسسات من أجل إعادة إنتاج نفس النظام. في التمثلات الشعبية وفي ظل الحداثة لازال الأستاذ يحظى بشخصية الفقيه، وينظر إليه أنه الفقيه المجتهد صاحب الفتوى والمدرك للواقع الاجتماعي الجديد والقديم. هذا في البوادي، لكن في المدن أصبح الأستاذ جزءاً من منظومة التعليم، يجاري التلاميذ في تصرفاتهم ويجاري أيضاً الدولة في استراتيجياتها، يؤدي وظيفة الحراسة ويلعب دور الشرطي بدل وظيفة المصلح. يقوم بمحاباة التلاميذ من أجل ضمان سلامته، كما يقوم بمحاباة الوزارة من أجل الحصول على الراتب الشهري، ليس لديه مشروعاً إصلاحياً ولا يريد أن يلعب دور المناضل.
تمكنت مواقع التواصل الاجتماعي من السيطرة على الأجيال الصاعدة وعوضت المدرسة في التنشئة، وتشارك الأستاذ والتلميذ نفس الهواجس وشملتهم نفس القيم، لا يوجد أيديولوجيات يمكن لها أن تُحدث الفوارق، ولا يوجد اعتبارات جديدة، فقط مسايرة عامة لنظام التفاهة. حيث التفاهة كنظام اجتماعي لا يتعلق بتدني مستوى الذوق العام وقلة الوعي وعدم الجدية، بل التفاهة مستويات ودرجات، أدناها اتباع رواد مواقع التواصل الاجتماعي واعلاها اتباع المتعلم دون المثقف. لم يعد الأستاذ برجل الطبقة المتوسطة الذي يلعب دور المثقف صاحب المبادئ، المنخرط في الأحزاب والجمعيات المدنية، يقوم بتكوين الأجيال في المقرات ثم أيضاً داخل نوادي المؤسسة، الأستاذ الذي كان يكتب الشعر والزجل وينظم القصائد التي تؤطر الجماهير. لم يعد الأستاذ يقرؤ أو يكتب كما كان في السابق، لهذا لم يعد يمتلك أدوات التحليل الرصينة للظواهر الاجتماعية والسياسية ولم يعد في استطاعته الجمع بين الجماهير في مشاريع مجتمعية إصلاحية. بهذه الطريقة تم اختزال مسار الأستاذ من الأستاذ الرسول المصلح إلى الفقيه الداعية إلى الموظف الذي يقوم مقام الشرطة والاصلاحيات في حراسة التلاميذ داخل الفصل.