اسماعيل الحلوتي
بالإضافة إلى أنصار ومحبي الغريمين التقليديين نادي الرجاء ونادي الوداد البيضاويين، كان كل عشاق المستديرة بالعاصمة الاقتصادية، ينتظرون بشوق كبير حلول موعد مباراة “الديربي” البيضاوي، حيث لم يكن يعرف الشارع من حديث وسط الأسبوع عدا عن أدق تفاصيله من جاهزية اللاعبين إلى الحكام، سواء في مرحلة الذهاب أو مرحلة الإياب، وكانت مدرجات المركب الرياضي محمد الخامس تمتلئ عن آخرها منذ الساعات الأولى من يوم اللقاء في أجواء احتفالية رائعة ودافئة بالشعارات الراقية، مما جعل الديربي البيضاوي يعد من بين أقوى ديربيات العالم لما يتميز به من حضور جماهيري كبير وندية وتشويق، فضلا عما كان يرافق ذلك من عروض رفيعة المستوى على رقعة المستطيل الأخضر
وبصرف النظر عن نتائج الديربي البيضاوي، كانت جماهير الناديين العريقين تغادر الملعب في أجواء من الهدوء والانشراح، دون أدنى مناوشات أو معارك جانبية، كما صار عليه الحال اليوم، بعد أن عرفت فرقنا الكروية دخول بعض العناصر المشاغبة في أوساط مناصريها، الذين أساؤوا كثيرا لتاريخ وأمجاد الفرق الكبرى وخاصة فريقي الرجاء والوداد البيضاويين وأضروا بصورة بلادنا في عديد المناسبات، لما يأتون عليه من ممارسات إجرامية خطيرة داخل وخارج الملاعب الرياضية، ويخلفون من خسائر فادحة في الممتلكات العامة والخاصة وإصابات متفاوتة الخطورة حتى في صفوف رجال الأمن.
فطالما قامت السلطات العمومية بمجهودات جبارة في اتجاه مواجهة ظاهرة الشغب في الملاعب الرياضية ومحاولة تطويقها والحد من تداعياتها، معتمدة في ذلك على استراتيجيات وطنية، حملات إعلامية تحسيسية واسعة، مقاربات أمنية استباقية وإعداد عدة نصوص قانونية، ومنها القانون رقم 09.09 الذي تم بموجبه تعديل وتتميم القانون الجنائي عبر إضافة الفرع الثاني مكرر، وتحديد الفصول من 308-1 إلى 308-19 لردع المتسببين في الأعمال التخريبية خلال أو بعد التظاهرات الرياضية، من خلال تجريم عدة أفعال وسن عقوبات. كما أصدرت الحكومة مرسوما جديدا تحت رقم 155.23.2 يتعلق بتشكيل لجن محلية لمكافحة العنف بالملاعب الرياضية، حيث تنص المادة الأولى منه على “إحداث لجنة محلية لمكافحة العنف بالملاعب الرياضية على صعيد كل عمالة أو إقليم بمدن المملكة”، وتقول المادة الثانية منه: “يرأس اللجنة المحلية عامل العمالة أو الإقليم أو من يمثله، وتتألف من الممثلين الإقليميين من السلطة الحكومية المكلفة بالرياضة، والقيادة العليا للدرك الملكي، والمديرية العامة للأمن الوطني، والمفتشية العامة للقوات المساعدة، والمديرية العامة للوقاية المدنية، وقاض يعينه المجلس الأعلى للسلطة القضائية طبقا للمادة 80 من القانون التنظيمي رقم 13.100 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية”
وهو ذات المرسوم الذي منح للجن المحلية الحق في “تتبع نظام التذاكر واقتراح آليات تجويده، واقتراح وتتبع تنفيذ برامج التأهيل الأمني للملاعب الرياضية، وإبداء الرأي الاستشاري بخصوص برمجة المباريات الرياضية، وإعداد تقرير سنوي عن أشغال اللجنة المحلية، يرفع إلى كل من وزير الداخلية ووزير العدل والسلطة الحكومية المكلفة بالرياضة والوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بإدارة الدفاع الوطني” لكن لا شيء تحقق مما كانت الحكومة والقائمون على الشأن الكروي ببلادنا يطمحون إليه، في ظل استمرار أحداث العنف والشغب في الملاعب الرياضية، وما يترتب عنها من خسائر وأضرار بليغة تسيء بكثير إلى صورة بلدنا، الذي ما فتئ يحتضن تظاهرات رياضية كبرى، جعلت منه قبلة لنجوم الرياضة والمهتمين بها عبر العالم، ولاسيما بعد أن حظي بشرف تنظيم نهائيات كأس أمم إفريقيا 2025 ونهائيات كأس العالم 2030 في ملف ثلاثي مشترك مع إسبانيا والبرتغال.
ففي ظل تواصل مسلسل العنف داخل الملاعب الرياضية وخارجها، لم يجد القائمون على الشأن الكروي بدعم من السلطات العمومية من وسيلة لمواجهة هذه الظاهرة المقلقة وما يترتب عنها من خسارات، سوى إشهار سلاح “المنع” من خلال إجراء مباريات بدون جمهور أو التنقل من مدينة لأخرى تحت مبرر “دواعي أمنية”. والأكثر من هذا إجراء أهم الديربيات الكروية أمام مدرجات فارغة وفي مقدمتها ديربي الدار البيضاء بين الغريمين الرجاء والوداد، وكأن الجمهور الرياضي أصبح فجأة يشكل تهديدا لأمن البلاد والعباد، والحال أنه ليس سوى جمهور عاشق لكرة القدم ويسعى إلى دعم أنديته، وليس له أي ذنب إذا ما كانت هناك عصابات مندسة وسط الجماهير من المنحرفين ضحايا الهدر المدرسي والسياسات العمومية الفاشلة، هي من تقوم بالسلب والنهب والتخريب والاعتداءات باستعمال الحجارة والأسلحة البيضاء…
إن المغرب الذي استطاع بفضل الإرادة الملكية القوية والتعليمات السامية تطوير كرة القدم المغربية بالنسبة للجنسين معا وجميع الفئات العمرية، والنهوض بالبنيات التحتية، قادر كذلك على رفع المزيد من التحديات وكسب رهان القضاء على ظاهرة شغب الملاعب، إذا ما تضافرت الجهود على مستوى قنوات التنشئة الاجتماعية، وخاصة الإعلام والأسرة والمدرسة والتربية على المواطنة الحقة، دون الحاجة إلى الاستمرار في حرمان الجماهير الرياضية من دخول الملاعب والتنقل بين المدن من أجل تشجيع أنديتها، لما في ذلك من تأثير سلبي ليس فقط على المداخيل، بل حتى على مستوى اللاعبين أنفسهم، مما يفقد المقابلات إشعاعها ويفرغ الديربيات الكروية من الندية والتنافس في غياب الأجواء الحماسية.