بقلم: أحمد سيف النصر.
يُعَدّ أبو حامد الغزالي، من أكثر الشخصيات التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، قديماً وحديثاً، وما زال لأفكاره الأثر العميق في عقول المسلمين حتى يومنا هذا، فقد امتاز بمرونة في التفكير، وبقدرة كبيرة على الإحاطة بأصول العلوم، وفروعها، وهو في الحقيقة نتاجٌ لثقافة عصره التي قامت على “نظرية وحدة المعرفة”.
في فترة ظهور الغزالي، لم يكن التخصص بسِماته الضيقة معروفاً، ولهذا نجده عالماً موسوعياً جمع بين علومٍ ومعارف متنوعة، تألّق نجمه فيها، فقد كان فقيهاً، وأصولياً، وفيلسوفاً، ومتكلماً، ومتصوفاً.
وللغزالي تجربة شخصية عاناها بنفسه، وأودعها لنا في كتابه المهم “المُنقذ من الضلال والمُفصِح بالأحوال”، والذي يُعد من أهم تراث الترجمات الفكرية الذاتية، وكتاباً متميزاً في تاريخ المصنفات الإسلامية، لأنه من النادر جداً أن تجد عالماً يسرد تفاصيل تجربته الفكرية والروحية، وأحداث حياته النفسية والعقلية، وينتقد ذاته، ويروي انتقاله من حالٍ فكرية إلى حال فكرية أخرى، ويحكي عن نفسه حينما تتنازعها الأفكار، والقلق الداخلي، وكيف تاه في بيداء الشك والحيرة والتخبط، إلى أن وصل إلى مدارك اليقين، وحين بلغ يقينه، وحقيقته المنشودة، سطّرها بدقة وأمانة، وأذاعها بكل صدق وشجاعة على الناس، ولم يأبه بما سيقال عنه، ما جعله من أكثر الشخصيات تألقاً وحضوراً في الفكر الإسلامي، لا ينضب مَعينه مع الأيام.
المناخ الفكري في عصر الغزالي:
كثيراً ما انتُقد الغزالي بسبب رحلتة المتقلبة، وتحولاته الفكرية، ولأنه، كما قال البعض، انتهى به الأمر إلى التصوف، كثيرون تتبعوا مراحل تحولاته الفكرية، متجاهلين الظروف السياسية والتاريخية، وتنازع المذاهب الفكرية والدينية المتخاصمة في بيئته.
كان للعصر والبيئة التي وُجد فيها الغزالي، أثر كبير على أفكاره، نجد صداه في مؤلفاته. وانعكست الظروف التاريخية والفكرية التي سادت العالم الإسلامي خلال القرن الخامس الهجري، وبداية القرن السادس، على شخصيته.
في عصره، كان الصراع بين العقائد والمذاهب والتيارات الفكرية المتعارضة على أشده، بين أخلاط وأجناس من شتى الأمم. كان هناك مجتمع عالمي مفتوح نوعاً ما، يشهد حالةً من الغليان الفكري والثقافي لا مثيل لها. وكانت الباطنية قد استشرت واستفحلت ونشرت الرعب وسفك الدماء، وكانت للغزالي معها جولات فكرية عدّة.
وفي عصره، انزوى مذهب المعتزلة، وتحقق النصر لمذهب الأشاعرة، وبرز تيار الصوفية، وتأثر المسلمون بالمؤثرات الثقافية الوافدة، كثقافة الفرس، والمنطق اليوناني والفلسفة، فبرز تيار غاضب على الفلسفة، وتيار آخر يحاول التقريب بين الفلسفة والدين، وتنامت رغبة البعض في الخروج عن القديم، ورغبة آخرين في التمسك به، ومغالاة البعض في تقديس العقل، واشتعلت الحماسة والفتن المذهبية، مرةً بين الحنابلة والأشعرية، ومرةً بين الحنابلة والشيعة، حسب ما يوضح مصطفى جواد، في دراسته عن “عصر الإمام الغزالي”، المنشورة ضمن كتاب “أبو حامد الغزالي في الذكرى المئوية التاسعة لميلاده”.
دارت مناقشات حادة في كل مكان، وكان لكل اتجاه أنصار، وكل فرقة رأت في نفسها الصواب، واتهمت غيرها بالضلال، بالإضافة إلى تأييد الحكام لبعض هذه المذاهب والاتجاهات، دون الأخرى.
ولم تكن الفوضى في الأفكار فحسب. حتى على الصعيد السياسي، كانت البلاد مفرّقةً وغارقةً في المؤامرات والانقلابات، والمعارك على السلطة لم تنقطع، والخلافة العباسية في غاية الاضطراب، وفقدت السيطرة الفعلية على الأطراف، ما أفسح المجال لتوسّع نفوذ الدعوة الفاطمية، ودخول السلاجقة الحنفيين إلى بغداد. وازداد الأمر استفحالاً حين غزت جحافل الصليبيين بلاد الشام، واحتلّت سواحل ومدناً.
هكذا كان حال العالم الإسلامي في الفكر والسياسة. ووسط هذا الجو المضطرب، عاش الغزالي، وشهد ميدان الخصام الفكري، وبروز المجادلات العقلية، والتشدد في الآراء والمقالات، وكان متفاعلاً وملمّاً بثقافة عصره، وأفكاره، وهو ما جعله عرضةً للتحولات الفكرية التي انعكست على سيرته.
استحضار هذا الواقع، مهم في نقد حال الغزالي، ومن ثم التبصر في مآلاته وأحواله قبل الحكم عليه.
مصادر التلقّي:
نشأ الغزالي في بيئة دينية ذات طابع صوفي. كان والده فقيراً يغزل الصوف، ويبيعه في دكانه في مدينة طوس في خراسان، وأحب مجالس العلماء وأهل التصوف، ولما حضرته الوفاة، كان الغزالي وأخوه محمد في مدارج الطفولة الأولى، فعهد الوالد بهما إلى جار وصديق متصوف، وقال له: “إن لي تأسفاً عظيماً على ما فاتني من العلم، وأشتهي استدراك ما فاتني في ولديّ هذين، فعلّمْهما، ولا عليك أن تنفق في سبيل ذلك جميع ما أخلفه لهما”، حسب الرواية التي أوردها تاج الدين السبكي، في كتابه “طبقات الشافعية الكبرى”.
نفّذ الصوفي وصية الوالد، ودخل الصغيران في رعايته، وتلقى الغزالي في بداية أمره ما يتلقاه أبناء المسلمين من تعليم اللغة العربية، وحفظ القرآن، وحين فني المال الذي تركه الوالد عند الصوفي، لتعليم ولديه، قال الأخير لهما: “اعلما أني قد أنفقت عليكما ما كان لكما، وأنا رجل فقير لا مال لي فأواسيكما به، وأَصلحُ ما أرى لكما أن تلتحقا بمدرسة، فإنكما من طلبة العلم، فيحصل لكما قوت يعينكما على وقتكما”. هكذا، دخلا المدرسة يتستران فيها بطلب العلم، وكان الغزالي يحكي هذه القصة كلما عاودته الذكرى، ويقول: “طلبنا العلم لغير الله، فأبى إلا أن يكون لله”.
والغزالي من صغره، كما شهد له كثيرون، كان صاحب ذكاء مفرط، ونبوغ لا ريب فيه، شغوفاً بالعلم والمعرفة، ميالاً بطبعه إلى البحث مهما لقي من عناء، ولديه حب للاطلاع على كل شيء، وقد وصف شغفه بالمعرفة بقوله في كتابه “المنقذ من الضلال: “كان التعطش إلى دركِ حقائق الأمور دأبي وديدني، من أول أمري وريعان عُمري، غريزةً وفطرةً من الله وضعها في جِبِلّتي، لا باختياري وحيلتي”.
وكان المكان الذي وُلد فيه الغزالي، يغلب على قاطنيه المذهب الشافعي، فكان هو كذلك، ودرس الفقه في صباه على يد الشيخ أحمد بن الراذكاني، ثم ارتحل إلى جرجان، ودرس على يد الشيخ أبي نصر الإسماعيلي، ثم قدم إلى نيسابور، وجلس فيها ردحاً من الزمن، ودرس على يد جماعة، أشهرهم أبو المعالي الجويني، وهو من كبار فقهاء المذهب الشافعي، وشيخ المذهب الأشعري في زمانه، كما يروي تاج الدين السبكي.
كان الغزالي ربيباً لأبي المعالي، وتفقّه على يديه، وتأثر به كثيراً، وعنه تلقى المذهب الأشعري، واطّلع على المذاهب الكلامية، ومذاهب الفلاسفة. ويُعدّ الجويني مؤسس شخصية الغزالي العلمية، وقد وصفه بأنه “بحر مغدق”، وحين عرض الغزالي عليه كتابه المسمى بـ”المنخول”، قال له: “دفنتني وأنا حي، هلّا صبرت حتى أموت؟”، حسب ما يروي ابن الجوزي، في “المنتظم في تاريخ الملوك والأمم”. ولما توفي الجويني، غادر الغزالي نيسابور، وارتحل إلى بغداد، وفيها تألق نجمه، وفُتحت أمامه آفاق معرفية جديدة، فاطّلع على رسائل إخوان الصفا، وعلى كل أشكال الفلسفة اليونانية كما أخبرنا في “المنقذ”.
وفي أثناء مكوث الغزالي في بغداد، لفت نظر الوزير السلجوقي نظام الملك، فاتصل به ليقوم بالتدريس في أشهر مدارس عصره، “المدرسة النظامية”. وكان لهذا الوزير أثر كبير في حياة الغزالي الفكرية، إذ هو الذي أسس المدارس النظامية في المدن الإسلامية الكبرى، وكانت هذه المدارس بمثابة حواضن للفكر الأشعري، الذي بدأ بالباقلاني، ثم بالجويني، ثم بالغزالي نفسه، الذي سيصبح أحد أعمدة المذهب الأشعري، ومن كبار منظّريه، وعليه التعويل عند المتأخرين.
بداية التغيير ومكاشفة النفس:
في حدود سنة 484 هـ، وكان حينها الغزالي في الرابعة والثلاثين من عمره، تولى التدريس في نظامية بغداد، وذاع صيته، وطبّقت شهرته الآفاق، وأعجب الخَلقَ حسنُ كلامه، وكمال فضله، وفصاحة لسانه، حسب تاج الدين السبكي. وقال معاصره عبد الغافر الفارسي: “علت حشمته ودرجته في بغداد، حتى كانت تغلب حشمته الأكابر والأمراء ودار الخلافة”، حسب ما نقل صالح أحمد الشامي، في كتابه “الإمام الغزالي حجة الإسلام ومجدد المئة الخامسة”. وبينما الغزالي في أوج الشهرة والمجد، حدثت له بعض المشكلات النفسية، ومن هنا بدأ التحول العميق في حياته الفكرية والنفسية، وبداية العزلة، وإدامة الفكر.
حدث ذلك بعد أربع سنوات من التدريس في النظامية، فساءت حالته، واعتقل لسانه عن الكلام، وفقد شهوة الطعام والشراب، وعجز الأطباء عن التعليل ووصف الدواء له، فكان من نتائج هذه الأزمة أن لاحظ الغزالي أحواله وأعماله، ووجد أن ما قام به لم يكن لإرضاء الله بقدر ما كان إرضاءً للنفس والسلطان وطلب الشهرة والجاه، فتيقّظ ضميره.
ساءت حالة الغزالي، واعتقل لسانه عن الكلام، وفقد شهوة الطعام والشراب، وعجز الأطباء عن التعليل، فكان من نتائج هذه الأزمة أن لاحظ أحواله وأعماله، ووجد أن ما قام به لم يكن لإرضاء الله بقدر ما كان إرضاءً للنفس والسلطان وطلب الشهرة والجاه، فتيقّظ ضميره
ويعبّر عن نفسه فيقول في “المنقذ من الضلال”: “تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثُها ومحركها طلب الجاهِ، وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار”.
هذا الأمر جعله يتردد ويعيش صراعاً بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعي الآخرة، استمر نحو ستة أشهر، حتى عقد العزم على الخروج من بغداد، ومفارقة تلك الأحوال، وترك زوجته وأطفاله، وآثر الاعتزال وحده، مرتحلاً إلى زاوية منارة الجامع الأموي في دمشق. ودامت عزلته عشر سنوات.
المعاناة الفكرية:
يقول الغزالي في مطلع قصيدة له أوردها في كتابه “معارج القدس في مدارج معرفة النفس”: ما بال نفسي تطيل شكواها/ إلى الورى وهي ترتجي الله.
كان من نتائج الأزمة النفسية التي تعرّض لها، أن تسرب الشك إلى نفسه، وكان أوله، أن شك في العقائد الدينية، وانحلت عنده رابطة التقليد، وانكسرت عليه العقائد الموروثة، ثم بدأ بالشك في المحسوسات، ووجد أنها ليست أهلاً للثقة، لأنك إذا نظرت إلى الظل تراه واقفاً غير متحرك، فتحكم عليه بنفي الحركة، ثم تعرف بالتجربة والمشاهدة أنه متحرك، فلم تسمح نفسه بالتسليم اليقيني للمحسوسات، واتجه إلى العقليات، وامتحن الثقة بها، فانهارت العقليات والحواس كلتاهما.
وحدّثنا الغزالي في “المنقذ من الضلال”، عن نفسه أنه أعضل به الداء قريباً من شهرين، هو فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم المنطق والمقال، حتى شفى الله من ذلك المرض والاعتلال، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولةً موثوقاً بها على أمن ويقين.
ولكن كيف تم الشفاء من ذلك المرض؟ يجيبنا الغزالي عن ذلك بقوله: “لم يكن ذلك الخلاص بنظم دليلٍ، وترتيب كلام، بل بنورٍ قذفه الله في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمَن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة، فقد ضيّق رحمة الله الواسعة”.
كان من نتائج الأزمة النفسية التي تعرّض لها الغزالي، أن تسرب الشك إلى نفسه، وكان أوله أن شك في العقائد الدينية، وانحلّت عنده رابطة التقليد، وانكسرت عليه العقائد الموروثة، ثم بدأ بالشك في المحسوسات…
لم يكن شكه الذي خامر عقله، على نحو شك ديكارت، أو شكّاً بالمعنى اليوناني، بل كان شكّاً غايته أن يتبع يقيناً، لذا جعل الشك طريقه إلى الحق، عادّاً أن مَن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال، كما قال في كتابه “ميزان العمل”.
وحين كان يبحث عن اليقين الذي لا يقبل الشك، وعن الحق الذي يطمئن إليه، كان من الطبيعي أن يبدأ أولاً بتحديد مصادر المعرفة التي يعتمدها، فقرر ماهية العلم اليقيني، وعرّفه في “المنقذ” قائلاً: “العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم، وكل علمٍ لا أمان معه فليس بعلمٍ يقيني”.
محطات للغزالي:
بعد أن عرف العلم اليقيني، رأى أن الناس مختلفون أدياناً ومللاً، والطرق متباينة، والبحر عميق غرق فيه الأكثرون، وما نجا منه إلا الأقلون، وانحصرت طرق الوصول إلى المعرفة الصحيحة والحق اليقيني عنده، في أربع فرق، هي الفرق المنتشرة في عصره، والتي عدّدها في “المنقذ”:
1- المتكلمون: وهم يدّعون أنهم أهل الرأي والنظر.
2- الباطنية: وهم يزعمون أنهم أصحاب التعليم، والمخصصون بالاقتباس من الإمام المعصوم.
3- الفلاسفة: وهم يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان.
4- الصوفية: وهم يدّعون أنهم خواص حضرة الربوبية، وأهل المشاهدة والمكاشفة.
تقلّب الغزالي بين هذه المذاهب الأربعة، واستقصى ما عندها، وقال في نفسه: “الحقُّ لا يعدو هذه الأصناف الأربعة، فهؤلاء هم السالكون سبل طريق الحق، فإن شذّ الحقُّ عنهم، فلا يبقى في دَركِ الحق مطمع”.
مسلك الخروج:
رأى الغزالي أن طريق المتكلمين مضطرب، والحق منه لا يفي بالمقصود، وأن ما عليه الباطنية باطل، والفلسفة بعضها حق، وبعضها باطل، وأخيراً وجد الحقيقة التي كان ينشدها في الطريقة الصوفية، وعلم أنها لا تحصل إلا بعلمٍ وعمل، أي بالمعرفة والممارسة معاً، فابتدأ بمطالعة كتب الصوفية، مثل قوت القلوب، لأبي طالب المكي، وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد، والشبلي، وأبي يزيد، حتى “اطلعت على كُنه مقاصدهم العلمية”، كما يخبرنا في “المنقذ”.
ووجد في كلام الصوفية ما هو أقرب إلى الحق من كلام الباطنية والفلاسفة والمتكلمين، ما خفف عنه مصابه، وأزال عنه وحشته، فاختار التصوف ليعيش معه، قائلاً: “انكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أُمور لا يمكن إحصاؤها، واستقصاؤها، والقدر الذي أَذكره ليُنتفَع به: أني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله، خاصةً وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق”.
بعد أن قضى سنواتٍ من العزلة، رأى الغزالي أن هناك بعض الحقائق لا يدركها العقلاء بالعقل، لذا أضاف إلى العقل ما اصطلح عليه بالذوق والسلوك، والكشف الذي يقذفه الله في القلب، عادّاً المعرفة الذوقية مصدراً من مصادر المعرفة
وجد الغزالي مسلك خروجه في طريق التصوف، لكن تصوفه هو تحقيق التقوى، والإخلاص لله، وتزكية النفس، وربط الأعمال الظاهرة بالبواعث الباطنة، لتحقيق أعلى درجات اليقين والإيمان. ويعترف الغزالي بعد أن قضى سنواتٍ من العزلة، بأن هناك بعض الحقائق لا يدركها العقلاء بالعقل، لذا أضاف إلى العقل ما اصطلح عليه بالذوق والسلوك، والكشف الذي يقذفه الله في القلب، عادّاً أن المعرفة الذوقية مصدر من مصادر المعرفة.
البحث عن النفس… حجر الزاوية في فلسفة الغزالي:
يقول الغزالي في كتابه “كيمياء السعادة”: “إذا شئت أن تعرف نفسك، فاعلم أنك مركّب من شيئين، الأول هو هذا القالب، والثاني يُسمّى النفس والروح.
صميم تفكير الغزالي منصبٌّ على نفس الإنسان، والجانب العملي من الحياة النفسية. وكان الانهماك في الجدل والأحكام الفقهية المجردة التي مجّ بهما محيطه، والفصام النكد بين العقل والروح، هو الدافع الأول لاهتمامه بنفس الإنسان. رأى الغزالي أن الإسلام انتقل من القلوب إلى العقول، فانقلب إلى مماحكات منطقية لفظية، ومجادلات فقهية جامدة، حسب طه عبد الباقي سرور، في كتابه “الغزالي”، ولهذا وجد في طريق العبادة والزهد والاعتكاف بعثاً جديداً، وحياةً يوميةً مبنيةً على سلوك مثمر.
عينُ ما أراد الغزالي قوله، هو أن العقل لا بد له من مدد، كي يستعيد ثقته بنفسه، وأن موطن الإنسان ليس في عالم الحس والعقل فحسب، لذلك نراه في مشكاة الأنوار يوازن بين عين البصر، وعين الروح، فيقول إن البصر لا يدرك ذاته، ولكن الروح مدركة لذاتها، والبصر لا يرى القريب كما يرى البعيد، حسب ما يشرح عثمان أمين، في دراسته “الجوانية الأخلاقية عند الغزالي”، الواردة ضمن كتاب “أبو حامد الغزالي في الذكرى المئوية التاسعة لميلاده”.
وأيضاً، في العديد من مؤلفاته، يُكثر الغزالي من الكلام عن الكشف والإلهام الإلهي، وإيمان الروح، فمثلاً يقول في كتابه “إحياء علوم الدين”: “لو فرضنا حوضاً محفوراً في الأرض، احتمل أن يساق إليه الماء من فوقه بأنهار تفتح فيه، ويحتمل أن يُحفر أسفل الحوض، ويُرفع منه التراب، إلى أن يقرب من مستقر الماء الصافي، فينفجر الماء من أسفل الحوض، ويكون ذلك الماء أصفى، وأدوم، وقد يكون أغزر وأكثر، فذلك القلب مثل الحوض، والعلم مثل الماء، وتكون الحواس الخمس مثل الأنهار”.
ومهمة العقل لدى الغزالي هي أن يتعقل موضوعات الإيمان. لذا حاول أن يوفق بين الإيمان والتفكير العقلاني، بعد أن أتيحت له تجربة نادرة عاشها بحلوها ومرّها، ووصفها بأنها لم تكن تجربة الجبان الحذور، بل المفكر الجسور المتوغل في كل ظلمة، والمقتحم لكل مشكلة، والمتصفح لكل عقيدة، والمستكشف لأسرار كل مذهب وطائفة، لا لشيء، إلا لتمييز المُحقّ عن المُبطِل.