بقلم خالص جلبي
لقد كشف علم النفس الحديث أيضاً عن آليات عمل النفس في جو الصراع التقليدي، ونوع الصراع الجديد الذي يطرحه السلاميون في العالم، إن صح تسميته بالصراع لأن نصفه من العالم القديم ونصفه الآخر من عالم السلم العالم الجديد، الذي أخبر الله عنه الملائكة حينما رأت جانب العنف في الإنسان فقال لها مبشرا ًبالإنسان الجديد (إني أعلم مالا تعلمون).
عندما ينشب الصراع على طريقة (كلاوسفيتز) الضابط الألماني صاحب كتاب ( فن الحرب ) من أن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل جديدة، أي إخضاع إرادة الخصم لإرادتنا؟ يا ترى ماذا يتشكل عند هزيمة الطرف الآخر في الصراع والحرب؟؟
هل نظن أن السلام يولد من جوف الحرب؟ هل يمكن لشجرة الحنظل أن تنبت تمراً؟ ولشجرة الحسك أن تنتج تيناً؟ هيهات هيهات لما توعدون!.
إن الحرب لم تقد إلى السلم مطلقاً، وهي مظاهرة جوفاء فارغة وسطحية ومؤقتة في انتظار جولة الحرب الجديدة، وهذا الكلام ينطبق أيضاً على الشرائح السياسية المتصارعة داخل البلد الواحد، وأصبع الإدانة توجه أيضاً إلى عالم الكبار الذين أوقفوا الحروب بين بعضهم ليس قناعة بالسلام، بل خوف الدمار الذري!!
إن المهزوم سوف يحمل الحقد في انتظار الثأر المخبأ في ضمير الغيب! وسوف يكون الثأر مروعاً ومنتجاً بدوره لثأر مضاد، وهكذا تتواصل حلقات العنف والعنف المضاد عبر أجيال وأجيال، كما هو متوقع من عقابيل واختلاطات الصراع في سوريا، في الانشقاق الاجتماع بين السنة والعلويين والشيعة والسنة، وتمزق كامل النسيج الاجتماعي، كما هو حال جنوب ألمانيا وشمالها حتى اليوم أو بين شمال أمريكا وجنوبها من عقابيل الحرب الأهلية، بل وحتى من عقابيل حملة هانيبال على الجنوب الإيطالي بعد مرور ألفي عام؟
في مفهوم الجدل السلامي هنا لسنا بصدد هزيمة إرادة أحد الطرفين، بل الدخول في تكامل مع الإرادة المقابلة، من أجل توليد عالم جديد، ليس فيه مكان للحقد، بل السبيل الأكيد للسلام العالمي الشامل والدائم، الذي كان يحلم به الفيلسوف الألماني كانت، حين أصدر كتابه نحو السلام الأبدي
(Zum ewigen Frieden)
إن القرآن لم يقص علينا هذا الأسلوب عبثاً في صراع ولدي آدم في فجر التاريخ الإنساني، فهو طرح أسلوبين لا ثالث لهما كأسلوب لحل المشاكل، الأسلوب الأول هو إلغاء الآخر إلى درجة قتله، والثاني الذي زكَّاه القرآن وأثنى عليه هو رفض الدفاع عن النفس، من أجل كسر حلقة العنف الشيطانية (ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك).
أرسل لي الأخ الفاضل عبد اللطيف جبرون من القنيطرة يعقب على هذه الفكرة فقال:
قصة ابني آدم و معنى تخليد موقف السلم.
قصة ابني آدم كما بسطها القرآن، بهذا الخصوص، قصةُ جد معبرة و ذاتُ دلالات متعددة و عميقة في نفس الحين. قصة تحكي عن بداية البشر كما تحكي عن مستقبل البشرية فوق الأرض، فالإنسان لم يغير هذا الخط الذي سطره صاحب “لأقتلنك”، فالمسار الذي اتخذه بني البشر من بعدُ نتاجٌ لذلك الاختيار، لأن القاتل هو الذي استمر في نشر مسلكه في ذريته و من بعده فاتبعوه خوفا و طمعا، و لأن صاحب “ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك” لم تصل رسالته السلمية مع موته و لم تترك له الفرصة ليبلغها، و لعل ذلك هو السبب أن خلدها الله تعالى في خاتم الكتب و حفظ قصته و رسالته بحفظ كتابه الخاتم. و هذا التخليد في الكتاب الخالد المحفوظ تخليدٌ لرسالة أراد لها أعداؤها أن تزول و أن لا يسمع بها أحد، كما أن هذا الذكر في الكتاب هو رد الاعتبار إليها و إلى صاحبها بعد آلاف السنين الفارقة بين زمن وقوعها زمن و نزول خبرها.
فكرة العنف و القتل خلدت في الناس سلوكا و عملا سلفا من بعد خلف، حتى صار طبعا نفسيا غالبا، لا يجد البشر بشريتهم إلا بالتشبث به، كمثل الرجل في بعض الثقافات لا يجد رجولته تكتمل إلا بشارب عريض و طويل. فأعادت آيات الكتاب الحكيم إحياء و تخليد منهج و مسلك السلم و الرفق. وهكذا هو أمر الحق و الصدق، لا يُقضى عليه دائما و إلى الأبد، قد يتراجع و ينكمش فترة، تطول أو تقصر، و قد يضن أعداؤه أنه إلى أبد الآبدين لن يعود، و لكنه بذرة مثمرة تتميز بالصبر و طول الأناة، و لا تصارع الزمن طالبة للتحقق الآن و في الحال، لأنها لا تخاف الموت، و لايهمها السيادة والانتشار بأي ثمن، بل يعنيها أن تستقر في القلوب والنفوس، فتحولها من طبيعتها العدوانية المتأصلة إلى طبيعة مسالمة مؤمنة، مؤمنة بقيمتها في ذاتها لا توسلا بالقوة و السيطرة.
فلأن كان في قصة آدم في الجنة وهبوطه إلى الأرض من بعدُ معنى القدرة على النقد الذاتي و الاستغفار، كطبيعة بشرية ملازمة تميز البشر عن باقي المخلوقات، وهي قدرة وميزة خُلُقية بامتياز، فإننا قد نجد في قصة ابني آدم معنى غلبة العنف على الرفق في الأرض، و القوة على الحكمة، و القتل على الحب، والانتقام على المغفرة كطبيعة غريزية بشرية متأصلة، لا يغالبها و يكبح جماحها إلا من انغرست في روعه قيمة “إنما يتقبل الله من المتقين” على سيرة صاحبها الأول، بحيث تكون الغاية أن يتقبل الله لا أن يتقبل الإنسان، فلا يضير صاحب “إنما يتقبل الله من المتقين” أن لا يتقبل الناس و أن يرفضوا أو أن يكفروا، فلا حاجة إلى إرغامهم على شيء، وإن كان حقا و صدقا، فما ذلك بمقصد، ما دام الله سيتقبل.
بين البطولة والجريمة:
إن الثبات على هذا الموقف وحتى الموت سيجعل النهاية أن نفس القاتل يندم على فعلته، لأنه سوف يكف أن يكون (بطلاً) بل سوف يتحول إلى (مجرم). إننا بآلية (الدفاع) سنحرض عنده آلية الدفاع الغريزية فسيقتلنا وهو يقوم بعمل (بطولي) مبرر؟! أما بعدم دفاعنا فسنحول عمله إلى (جريمة) !! والفرق كبير بين الشعور بـ (البطولة) والشعور بـ (الجريمة) ومذبحة الحرم الإبراهيمي مثلاً جعلت اليهود ليس في إسرائيل لوحدها بل حتى في مونتريال في كندا يمشون مطأطيء الرؤوس خجلاً، وهم يحملون الشموع والقناديل والدموع، عن أولئك الذين قتلوا صبراً ظلماً عزَّلاً مصلين، بل إن تكتيك داوود القديم حيث يعيد التاريخ دورته بعد ثلاثة آلاف سنة، حيث ينقلب داوود إلى المدرع (جالوت) = إسرائيل النووية الجديدة، وينقلب جالوت القديم إلى داوود الجديد، ليستخدم نفس المرقاع و (الحجر) لدحر جالوت الجبار، أقول هذا التكتيك (الداوودي) وروح الشهادة، أسهم في دفع القضية الفلسطينية أكثر من كل عمليات التفجير والاغتيالات والحروب العربية مجتمعة.
يجب أن ندرب انفسنا على عدم قتل الآخرين، بل الاستعداد للموت من اجل أفكارنا إذا تطلب الأمر، وبذلك نحول أنفسنا إلى (شهداء) والآخرين القاتلين إلى (مجرمين).
الموت والحياة هي منحة من الله ثم أخذ منه تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة. ليس من صلاحية أي إنسان أو حزب أو دولة أو منظمة ادعاء هذا الحق الإلهي الذي هو له سبحانه، وتوجه العالم إلى إلغاء حكم الإعدام هو خطوة في هذا الطريق.
ينقل عن غاندي قوله إن الثأر عينا بعين سيحيل العالم إلى ظلام يمشي فيه العميان.
إن ميكانيزم الشهادة عجيب، لأن المقتول ظلماً هو الذي يتحول إلى قديس، يعصر القلب موته، ويدمع العين ذهابه وموته، ويحرض إرادة الآخرين لسلوك نفس الطريق الذي سلكه صاحبه بروح العدوى كما في قصة أصحاب الأخدود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود.
راجع قصة أصحاب الأخدود تعطيك الخبر اليقين، ومذبحة (صبرا وشاتيلا) حركت الضمير العالمي كله، بل وحركت المظاهرات داخل إسرائيل نفسها حزناً عليهم، بسبب موتهم بغير دفاع، خلافاً للقتل المتبادل في كل الحرب الأهلية اللبنانية، مع أن الذين قتلوا في الحرب الأهلية هم أضعاف أضعاف المذبحة، كل هذا بسبب تحريك الميكانيزم الإنساني، الذي يجب أن نثق به، ونعلم أنهم مغروس في أعمق أعماقنا فطرتنا ويستيقظ في الحادثة الإنسانية.
تأمل الآية ومن قتل مظلومات فقد جعلنا لوليه سلطانا. قارن مع أحداث تشارلي في فرنسا وكيف احتشد من أجلهم ثلاثة ملايين متظاهر، بمن فيهم المسلمين، وبعضا من رؤساء دول عربية، وباعوا خمسة ملايين نسخة من مجلتهم الهزيلة، وارتفع ذكرهم في العالمين، ولولا إصرارهم القبيح على شتم النبي لأصبحوا قبلة الفكر وحرية التعبير، ولكن بهذه الحركة الغبية حركوا ملايين المسلمين ضدهم. ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل مايريد. إنه نزعة الشيطان في السخرية وقوله أنا خير منه؟؟
جرت سنة الطبيعة كما يقول الرسول بولس أن البذرة حتى تنبت لابد من دفنها بالتراب أولاً. إن القاتل سوف يندم في النهاية (فكان من النادمين) والندم هو التوبة، لأنه لن يقدر أن يبقى تحت الضغط الساحق الماحق لفكرة كونه (مجرماً).
إنه في النهاية سوف يحمل أفكارنا التي قَتَلنا هو من اجلها، وبذا تدخل أفكارنا الخلود؛ لأنها لم تمت مع موت صاحبها، وهذا هو خلود الشهداء بخلود أفكارهم ومواقفهم ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) ؟!!
فهذا هو الخلود كما نذكر سقراط وهو يتجرع السم، وجيوردانو برونو وهو يزعق في النار ذات اللهب يأكل جسده في روما عام 1600م، ونتألم لذكرى نهاية المسيح أيا كانت الصورة مسلمين ومسيحيين، ونهاية يوحنا المعمدان ورأسه على طبق من أجل الراقصة سالومي، أو سعيد بن جبير والحجاج يذبحه ويصيح بل أنت شقي بن كسير؟ أو سيد قطب الذي أعدمه الطاغية عبد الناصر بحماقة كان في غنى عنها؛ فطبع من كتابه الظلال مليون نسخة ويزيد، فنشر فكره من حيث غراد نهايته؟ فهذه هي عبرة التاريخ المضحك المبكي؟
كما يقول قطب نفسه إن كلماتنا تبقى عرائس من شمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت الحياة فيها.
أنا صوت صارخ في البرية .. من كان له أذنان للسمع فليسمع .. هذه المفاهيم سوف تعم العالم في النهاية لأنها صوت الحفاظ على الجنس البشري (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال)