عبد الرحيم بن بوشعيب مفكير
تمهيد:
صمدت البادية المغربية زمنا ليس باليسير أمام معاول الهدم ، ورفعت رأسها عاليا وبقيت شامخة لا تؤثر فيها رياح التمدن والحداثة . قاومت كل المغريات لارتباط أهلها بالأرض والتربة ، وخوفا من عار التفريط في تراث الأجداد ” فالرجل يموت علا بلادو ولا ولادو ” وهكذا أحدث هذا المثل وغيره من الأمثال التزاما جماعيا ويقينا متعاقدا عليه ، ألزم تجنب نظرات العار والخزي والريبة تجاه كل من فرط في هذا الإرث الحضاري ، وخرج عن الإجماع أو تمرد عن العادات والتقاليد. إلا أن هذه الحصون لم تقو أمام الاختراق الإلكتروني بعد السنوات العجاف التي أصابت المغرب خلال الثمانينات من القرن الماضي. وفعل إغراء العيش الكريم وفرص الشغل بالمدينة وسحرها في جلب أفواج من المعوزين أغلبهم رحل لم يعد همهم البحث عن الكلأ والماء ، وإنما تمدرس أبنائهم وتوفر لقمة العيش والمسكن المريح بعيدا عن ” النوالة” وإن استبدلت ب” براكة قصدير ” ملأت فضاءات المدينة وسيجتها بكاريانات مثل “كاريان ىسنطرال” و”بنمسيك ” و”طوما” . وحولت الحلم إلا كابوس حقيقي. وانتشرت كالفطريات وتناسلت وأرهقت ساكنيها ومدبري شأنها ، والراغبين في التخلص منها. وقد رفع المسؤولون منذ استقلال المغرب شعارات مدن بدون صفيح انضافت إلى مستشفيات بدون تدخين . وما يجري على البيضاء ” كاسا بلانكا ” واختصارا ” كازا ” كما يحب الكثيرون تسميتها ، والتي بها بجد الفقير كما الغني مبتغاه ، لا يختلف في شيء عن باقي مدن المملكة .
وقد نسجت الحكايات وحبكت المستملحات ” النكث ” في اللسان الدارج عن ” العروبي ” البدوي و ” المديني ” أو المدني المتحضر أو الحضري.
انتقل أهل البادية إلى المدينة وصعب عليهم التفريط في معتقداتهم وتقاليدهم وطقوسهم التي صحبوها معهم، بل أثروا على جيرانهم من أهل المدينة ،وتأثروا .
واليوم بعدما أصبح سكان المدينة يفوقون أهل البادية وتجاوزوا عتبة 60 بالمائة. هل ستؤثر في سلوكهم ومعتقداتهم ثقافة التمدن، وتقضي على “مقدساتهم ” ؟ هي معركة خالدة وقديمة ضاربة في القدم، تفرض علينا التساؤل عن سر صمود كل منهما.
إنه من المؤكد أن البادية المغربية أو المدن على اختلاف أحجامها وأصنافها تحرص على الدفاع عن مقدساتها وأضرحتها وولاتها وزواياها ومزاراتها، معركة بين “المقدس ” و”المدنس “، بين الواقعي والمتخيل ، والشاهد الحاضر والغائب المنتظر.
نظرة للمقدس بالرغم من تحوله إلى مدنس، لحظات فرجوية جماعية عاشتها البادية ونافحت عنها اتخذت أشكالا ونحتت لتنوع ثقافي وتعبيري، مرة يركب صهوة “الزجل”، ومرة “الحكي “، و “الأسطورة “، والأغنية ، والفلكلور ، وتاغنجا ، أو احتفالات بليلة القدر وانتظار ” سيدنا قدر” وترحيبا ” بشعبانة” وبركة الملوك السبعة، واحتفال ب “بولبطاين” و ” بوجلود ” و تنظيم طقوس ” بوهروس” واستدعاء ترانيم وإيقاعات ” كناوة ” وتقديم ذبائح لولي ، واستحضار للجن وغيرها.
إنه المتخيل الشعبي يحاول أن يجيب عن سؤال من نحن ؟ وفي أي مجال نحن ؟ وماذا نريد ونرغب فيه ؟ وما الذي نطمح إنجازه ؟ المتخيل يملأ المكان ويصاحب الزمان بمعان ودلالات قدسية أو عجائبية، وهكذا تنتج الصور والرموز والحكايات والأساطير بكل مستلزماتها الشعائرية والطقوسية عادات تفوق العقل وتنبئ عن سعة في التمثل.
المتخيل دينامية خلاقة قد يتجاوز إدراكات العقل فيستدعي الوجدان ويرسم معالمه ويثبت خصائصه ويصبح ملكا جماعيا مقدسا. إنه التراث الشعبي بكل تجلياته وتمظهراته وتميزه وعنفوانه .
ينتقل التراث الشعبي من عادات وتقاليد وعلوم وآداب وفنون ونحوها من جيل إلى جيل، ونسمه ب ” التراث الإنساني ” التراث الأدبي، التراث الشعبي “، وهو يشمل كل الفنون والمأثورات الشعبية من شعر وغناء وموسيقى ومعتقدات شّعبية وقصص وحكايات وأمثال تجري على ألسنة العامة من الناس، وعادات الزواج والمناسبات المختلفة وما تتضمنه من طرق موروثة في الأداء والأشكال ومن ألوان الرقص والألعاب والمهارات.
كما تفرض فضاءات الزوايا أنماطا من الحضرة الطقوسية جلبة وإيقاعات وتحايلا، وادعاء بالنسب الشريف ووراثة البركة، والقدرة على الشفاء، وعلم ما فات والتحذير من الآت، والتنبيه إلى الحاسدين والحاسدات، وإزالة السحر وطمسه بعد اكتشافه، وإخراج الجن من الذات، وعند ” الجذبة ” يحق أكل اللحم الطري والتهام قطع الزجاج، واللعب بالنار ووضعه على الرأس وباقي أعضاء الجسد.
وفي المقابل يتم حراسة التراث الديني والدفاع عنه بالورع والتقوى وتعليم المتون، وتحفيظ القرآن، والاحتفال بمتعلميه بعد التمكن من استظهاره المتون والقدرة على إتمام ” السلكة ” أي حفظ القرآن كاملا، وغرس قيم الصبر والتعاون والمحبة والتكافل والقدوة، والإخلاص، والتفاني في العمل، والطاعة ، والالتزام، وحب المعرفة.
بين الراغبين في إعادة الاعتبار للزوايا ووظائفها ومستغلي مجال ” الأولياء ” ومحيطهم ممن يستفيدون من جهل الناس ويقصدون الأضرحة قصد الاستشفاء يرسم التراث الشعبي لوحة تشكيلية مختلفة المنطلقات والنتائج، تستعمل فيها ألوان داكنة وأخرى مضيئة.
وما على الباحث في التراث إلا أن يستوعب هذه الطقوس ويقف على مقاصدها ويتأكد من منطلقاتها ليميز فيها بين السليم والسقيم، والمقدس والمدنس، والواقعي والمتخيل، والحقيقي والزائف.
ولعل البحث/الذي ركبت صهوته يبدو في ظاهره بسيطا لكن دروبه بعضها مضيء وأغلبها مظلم، ومنها ما هو ظاهر وجلها خفي، يحتاج إلى حكمة وروية وتأن.
وقد فرضت علي هذه الدواعي الانطلاق من طرح الأسئلة التالية : ما مفهوم التراث الشعبي ؟ وما تجلياته وخصائصه ومميزاته ؟ وأين يتداخل فيه الأسطوري بالحقيقي ، والواقعي بالمتخيل ؟ وهل حمولته الفكرية والثقافية دينية أم لا دينية ؟ وما جدوى المحافظة على العادات والتقاليد ؟ وهل استطاع التراث الشعبي أن يصمد أمام الثورة التكنولوجية ويتخلص من مقدسه ؟ وهل يستطيع هذا الجيل حفظ متونه وفهم معانيه وتفكيكه والتعرف على دلالاته ورموزه ؟ وما علاقة التراث بالتنمية وتطور اللغة وبناء منظومة القيم ؟ وما دور العلماء والزوايا في الحفاظ على التراث وتثبيت الهوية الحضارية للأمة ؟
كلها أسئلة تحيل إلى سؤال مركزي ما علاقة التراث الشعبي بمنظومة القيم ؟
ولمقاربة هذا البحث حاولت جاهدة اعتماد آلية البحث الاجتماعي وحرصت على المقابلة والرواية ، وركزت في شق على الجانب النظري ، وشق ميداني وفق منهجية علمية يمكن تحديد أهم خطواتها فيما يلي :
في الفصل الأول حاولت جاهدة التعرف على مكان الدراسة ومجالها وتجاوزت الاعتماد على الدراسات المكتوبة ، حيث انتقلت لعين المكان للتقرب أكثر من المعيش اليومي للسكان والإطلاع على عاداتهم ، والنبش في الذاكرة الجماعية لهم .وخصصته لقبيلة أولاد أفرج والمؤثرات البيئية والحضارية والعمرانية التي تؤثر في تكوين شخصية الإنسان. ووقفت على امتداد الفضاء وسعته، وهجوم الإسمنت على الأراضي التي بدأت تعرف تقلصا بسبب كثرة ” الورثة ” وتوزيع النسب على الوارثين، والهجرة المضادة لأهل المدينة للبادية يقضون فيها عطلة نهاية الأسبوع وباقي العطل، أو يستقرون بها بعد التقاعد هربا من ضجيج المدينة وتلوث بيئتها ورغبة في الراحة والتمتع بجمال الطبيعة وعذريتها.
أما الفصل الثاني : فحاولت من خلاله مقاربة المفاهيم والمصطلحات المرتبطة بالثقافة الشعبية ، وما يرتبط بها ، ومكونات الأدب الشعبي وخصائصه ومميزاته. وفك لغز الترابط بين الأسطوري في الحكايات والواقعي وما له تمثلات دينية ، وما هو من محض الخيال.
وفي الفصل الثالث : وقفت على دور الزوايا والعلماء في تربية الناشئة وتعميم المتون وتعليمها والحرص على الطقوس كالكتابة على الألواح واستعمال ” السمق ” أثناء رقنها واستخدام ” الكراك” للحفظ ، والاستيقاظ المبكر لأن ” لفياق بكري بالذهب مشري ” وتقبيل يد الفقيه ، وتذييل اللوح بأبيات ومتون شعرية وقواعد ذهبية يتفتق من خلالها ذهن الحافظ وتبرز براعة المحفظ. وعلاقة هذه المقدسات / الطقوس بننظومة القيم وتأثيراتها على الحكي والسرد والزجل وحضورها بقوة في الاحتفال سواء في الأفراح أو الأطراح.
وختمت المبحث باستنتاجات وخلاصات .