بقلم: رشيد الخديري
كيف السبيل إلى مُجابهة مفارقات الحياة وتناقضاتها؟ الكينونة، جوهرانيّة الوجود، الأفول، نمط العيش وضبط التّحول الميتافيزيقي الفاصل بين الحياة والموت. إن طريقة التّفكير تبدأ من هنا، من تلك الأسئلة المُقلقة، المُبهرة التي تسمحُ بالتّأمل والتّفلسف والديالكتيك، فكل الأشياء التي تبدو في صورة مشوّهة قد تكون نتاجًا لتفكير زائف وعابر، أو على الأقلّ لا يتناول أصلانيّة الإنسان وجوهر وجوده.
لنقلْ، إنها ظلال الكلمات ترتسم مُعلنة ولادة أخرى.. خلقًا جديدًا من رحم المعاناة والأساطير والعدميّة، فالقول بأن الحياة تستحق أن تُعاش، قولٌ مرتبط بقدرة الكائن البشريّ على التّكيّف مع رهانات الحياة وأسئلتها الهادرة.
في كتابه “أسطورة سيزيف” (صدر حديثًا عن دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، ط 1، 2021، 148 صفحة)، بترجمة بديعة للكاتبة اللبنانية، يارا سميح شعاع، يحفر ألبير كامو في فلسفة الوجود التي تتعيّن بوصفها التزامًا مطلقًا بقيمة الكائن الإنسيّ، ولا غرابة أن ينطلق كامو من فكرة الانتحار وانتقالها من أفق ميتافيزيقي مؤقّتي إلى معرفة، وأحدث الطّرق للتّقرّب إلى الحياة.
يقول في هذا الصدد: “ربما سيكون في وسعنا أن نقبض على ذلك الشعور المضلل باللاجدوى في العوالم المختلفة والمتصلة اتصالًا وثيقًا، والخاصة بالإدراك بفن العيش، أو بالفن نفسه. وجو اللاجدوى هو في البداية. والنهاية هي الكون غير المجدي، وذلك الموقف الذهني الذي ينير العالم بألوانه الحقيقية لإظهار المظهر المتميز الثابت الذي عرفه ذلك الموقف في تلك النهاية” (ص23)، وبين البداية والنّهاية، تتداعى اللاجدوى أفقًا للتفكير والحلم والحكم على التّجارب الشّخصيّة.
بيد أنّ ألبير كامو في هذا الكتاب يُقدّم للقارئ نظرته إلى الوجود.. رؤيته للانتحار في أفقه الفكري الفلسفي ـ الميتافيزيقي. وإذ يُواصل الحفر والخفر بين طيّات هذا الفكر، تتبدّى لنا تلك النّظرة السّوداويّة المغلّفة بمشاعر الإحباط والمرض الفكري، فلا ثبات في الفكر، ولا يقين فيه.
“ألبير كامو في هذا الكتاب يُقدّم للقارئ نظرته إلى الوجود.. رؤيته للانتحار في أفقه الفكري الفلسفي ـ الميتافيزيقي”
“أسطورة سيزيف” كتاب يفتح أفق المتخيّل على الخلق والحياة، وحدود التزاماتهما بعيدًا عن كل أشكال المواضعات الاجتماعيّة والفلسفية. ولا شك أن ألبير كامو، بحكم تجربته في الكتابة والحياة، حاول تقديم تعليلات عن اللاجدوى التي ترافق الإنسان في مجرى حياته، خصوصًا حين يتعلّق الأمر بموضوعة الانتحار، وما تنطوي عليه من حقائق على مستوى الإدراك والتمثل والجدوى، بين أن هذا العالم السوداوي الذي ينسجه كامو ويدافع عنه في مختلف صفحات الكتاب، تعبير صادق عن “رؤية للعالم”، بما هو كائن، قوّةً وفعلًا، وبما هو ممكن التّحقق، خصوصًا تلك الرؤى التي تنتسجُ خلف أسوار الرواية والفلسفة.
فلم يكن غريبًا أن يستمر الكاتب في تعقُّب إبداعات فرانز كافكا، بوصفها تتعيّنُ كتابات في العدميّة واللاجدوى والأفول الإنساني. إن مسألة “الانتحار الفلسفي”، التي راهن عليها ألبير كامو تعبيرًا عن حالة من التيه والتّشتت التي يعيشها المبدع طوال رحلته الإبداعية، تبدو السمة البارزة المُلازمة للحظة الكتابة. وعليه، فإن تقبّل هذه اللعبة بين الحياة والموت من شأنه أن يطيل التأمل في الأشياء المعقولة واللامعقولة، خصوصًا إذا تعلق الأمر بجدلية فلسفية كونية تتجدد وتتذرى منذ بدء الخليقة.
من زاوية أخرى، فإن تأمل العناوين الآتية: “اللاجدوى والانتحار”، “الانتحار الفلسفي”، “الدراما”، “الخلق العابر”، “الحرية غير المجدية”، وغيرها من العناوين، مؤشر على رؤية للعالم يطبعها التيه والتّشتت، أمام الرغبة، فألبير كامو يتساءل بدهشة وحيرة حول جدوى الحياة.. الغاية من العيش، وربط المصائر الإنسانية بمصير العالم والأشياء.
يقول في هذا الصدد: “إنما ماذا تعني الحياة في مثل هذا الكون؟ لا شيء في الوقت الحاضر، لكنها تعني عدم الاكتراث تجاه المستقبل، والرغبة في استنفاد كل ما يعطى. إن الاعتقاد بمعنى الحياة يعني دائمًا ميزانًا للقيم، واختيارًا، وهو يعني تفضيلنا. والاعتقاد باللاجدوى، طبقًا لتعرفاتنا، يعلم العكس.
وهذا يستحق أن نبحثه”(ص67)، فالحياة لا معنى لها ولا طعم، ما لم تنبثق من روح المسؤولية والمعاناة والتفلسف، فهي بمثابة مرآة صافية، عاكسة لجوهر الوجود وكينونة الذات. ومن ثم، فإن البحث عن اللاجدوى، أو الطمأنينة، أو عنهما معًا، لا بد أن يتم وفق رؤية خاصة للوجود، وليس عن طريق التفاهة والبذاءة والقدسية العمياء للتاريخ البشري في بعده الآنوي الفج.
“ألبير كامو، بحكم تجربته في الكتابة والحياة، حاول تقديم تعليلات عن اللاجدوى التي ترافق الإنسان في مجرى حياته، خصوصًا حين يتعلّق الأمر بموضوعة الانتحار، وما تنطوي عليه من حقائق على مستوى الإدراك والتمثل والجدوى”
إن “أسطورة سيزيف” سفر في معاني الوجود والجنون والتيه الإنساني، وقد استطاعت المترجمة يارا سميح شعاع أن تنقل هذه الأفكار إلى القارئ العربي بسلاسة وإفادة، خصوصًا أن الترجمة عمل شاق ومضنٍ، فليس من السّهل التعاطي مع فكر عميق كفكر ألبير كامو، فهو فكر “ثائر” ومختلف وبعيد كل البعد عن التّقليدانيّة والمواضعات الاجتماعيّة.
وعليه، فإن هذا الكتاب، إذ يُعنى بالتّيه الوجودي الذي يعيشه كل إنسان، فهو في الآن نفسه يتخطّى الحدود الممكنة للتفكير.. للنسق الإنساني في التّعاطي مع فكرة الانتحار، فألبير كامو يُحاول موضعة هذه الفكرة في موضعها الفلسفي الفكري، لذا، فهو يسائل أصحاب الفكر التّنويري التّحريري عن جدوى العيش في عالم موبوء، خاضع للأهواء واللامعقوليّة.
فالأمر، إذن، متروك لروح التّفلسف والمعرفة والتّأمل، وليس للحدوس والتّوقّعات، وهذه هي غايات هذا الكتاب: التّأمل بروح المسؤوليّة والتّفلسف، بيد أنّه من المفيد التّذكير ها هنا، بحساسيّة الموضوع المطروق، حتّى وإن امتزج بطعم الأساطير، وما تحمله كلمة “سيزيف” في المتخيّل الإبداعي والفلسفي، من حيث هو دليل الصّمود والتّحدي والالتزام الإنسانيّ في مُجابهة أعباء الحياة وثقلها.
ومن البدهيّ أن يسلك ألبير كامو هذه الطريق، وأن يُعبّر عن “التزامه الشّخصي” حيال الحياة، بما هي رؤية للعالم، وتجاوز للمألوف والفكر والفلسفة. وها هنا، وَجب التقاط هذه الإشارات من أجل فهم أكثر للحياة ومنعرجاتها.
إن هذا الكتاب يحفر عميقًا في اللاجدوى والانتحار الفلسفي، وكأن الأسطورة، أسطورة سيزيف، هي المسؤولة عن العودة إلى الحياة بكل وهج وقوة، إنها تجلب قيم التّحرر من ثقل العالم ومفارقاته، فالأمر يشبه بعملية ارتقاء إلى عوالم الدهشة والمعرفة، وكم من السهل الارتقاء، لكن البقاء في القمة هو الأمر الصّعب.
عنوان الكتاب: أسطورة سيزيف
المؤلف: ألبير كامو
المترجم: يارا سميح شعاع