قراءة في رواية “كذب في كذب…” لفقيهي الصحراوي
” رْفـــــود الـــمـــلـــــك”كــــــــــذب فـــــــي كـــــــــذب…
نورس البريجة : خالد الخضري
(كذب، كذب في كذب) هو أحدث عمل إبداعي للكاتب المغربي رواي فقيهي صحراوي، رواية من الحجم المتوسط تقع في 270 صفحة صنّفها بنفسه في خانة “الرواية التاريخية” دون أن يزْوَرّ عن الحقيقة ولو أن جزءا كبيرا منها يستند إلى الخيال، لكنه خيال واقعي مرتبط بتاريخ بلادنا قبيل فجر الاستقلال بين خمسينيات القرن الماضي وبداية عهد الاستقلال، جرت أحداثها في قبيلة أولاد عمران، عمالة سيدي بنور، إقليم الجديدة.. هذه الأحداث التي ارتبطت بنفي وإقامة الفدائي الشهيد إبراهيم الروداني في سيدي بنور وما واكب ذلك من وقائع جسام على رأسها نفي الملك محمد الخامس طيب الله ثراه.
حين اقترح علي الأستاذ فقيهي صحراوي إنجاز سيناريو فيلم روائي عن روايته هذه، كان أول سؤال بادرته به هو: هل مجمل أحداثها خارجية، أي وقائع تجرى وتتفاعل في فضاءات وديكورات خارجية مفتوحة وليست باطنية تعتمل في تجاويف الوجدان وغياهب النفوس من أفكار وأحاسيس، وتصورات، وتمثلاث… مما يصعب أحيانا أفلمته وتجسيده على الشاشة؟
فأجاب فقيهي بأن معظم أحداث رواية (كذب، كذب في كذب) خارجية، الشيء الذي حفزني على قراءتها لأكتشف صحة رأيه لا مسا أنها كتبت وإلى حد لا بأس به بأسلوب سينمائي تصويري وتصوري أكثر منه سردي لغوي، لاحتكامها إلى أهم أربعة عناصر أساسية ينبني عليها سيناريو الفيلم السينمائي:
فضاء الأحداث (الديكور)
زمان الأحداث
أهم الشخوص
العقدة
تنضاف طبعا إلى هذه العناصر الضرورية عناصر أخرى تكميلية تتجسد في: الحوار – الملابس – الأكسسوار– ثم المؤثرات الصوتية بما فيها الموسيقى التصويرية التي تبقى من اختصاص المخرج.
أولا : الفضاء / الديكور
للاطلاع على الديكور أو الفضاء العام حيث ستجرى وتتفاعل معظم أحداث الرواية، يكفي الرجوع لأول صفحة بل أول سطر بالرواية في الصفحة 3 التي تموقع هذه الأحداث في قبيلة أولاد عمران الدكالية “بأراضيها ذات الطبيعة المتنوعة، لكن أكثرها سوداء (تيرس) وهي تتكون من بطون عدة منها الخطاطبة، أولاد جرار، أولاد ميرا، بني دغوغ… ” ثم الدواوير أهمها دوار “القبة” مسرح الأحداث الكبرى المتاخم لضريح الولي الصالح “سيدي امحمد العالم” الذي يحمل غلاف الرواية صورته.
فمنذ الصفحات / المشاهد الأولى، يضعنا فقيهي الصحراوي في الفضاء العام لأحداثها مكانا، زمانا وشخوصا… فنعاينها بالصورة من خلال اللفظة حيث ورد في مستهل الفصل الرابع بالصفحة 20:
((وصل السي ابراهيم إلى قرية سيدي بنور، دون أن يكون عالما حتى باسمها من قبل. كيف له أن يعرفها وهي قرية صغيرة بالكاد تضم دويرات نصفها مبني بناء عشوائيا، والنصف الآخر تابع لإدارات فرنسية، أو ملك لمعمرين أنشأوا مزارع بالجوار. بداية الخمسينيات لم تكن مدينة سيدي بنور إلا قرية دكالية لا يتعدى صيتها بضع كيلومترات، وربما لهذا السبب مباشرة بعد مغادرة السي ابراهيم السجن، ارتأى الفرنسيون أن ينفوه بهذه القرية الفلاحية التي تغمرها الأوحال خلال الشتاء، بأسباب واد “بلعوجا” الذي يعبرها، وترزأ تحت لهيب الحر في الصيف. قرية لا أسرار بها، فارغة خلال النهار، وفي المساء، تجتمع لسويعات، مجموعة صغيرة من النصارى، حول جعات من البيرّا بكانتينة “مادام بوعزة” الوحيدة، قبل أن يهرعوا نحو بيوتهم كالفئران مع اصفرار الشمس، سيما بعد انتشار أخبار “ارفود الملك” وما تناسل عنها من شائعات)).
ثانيا – الزمان
المرحلة الاستعمارية، لاسيما خمسينيات القرن الماضي وما حبلت به من تصفيات، سجن ونفي للمغاربة من طرف المستعمر الفرنسي. ضمن هؤلاء المناضلين الشهيد الروداني الذي أطلق عليه سكان دوار “القبة” والقبيلة برمتها نعث: “مول الشابو”.. وفعلا كان المرحوم ابراهيم الروداني الذي لقب نفسه “بأضياضو” وتعني بالأمازيغية “سيرجع” قاصدا بذلك الملك محمد الخامس، يعتمر طربوشا أوربيا ويحمل في يده عكازا بسبب عرج في إحدى رجليه، مما ينم على أن السيد فقيهي قام ببحث جاد حول هذا المناضل قاده إلى التعرف على ابنه الحامل لنفس الاسم “ابراهيم الروداني” لأن والده توفي وهو ببطن والدته.
ثالثا – الشخوص
في هذا السياق كله، تتوضح ملامح الشخصيات لنشطرها إلى شطرين أو قسمين غالبا ما يتم اعتمادهما في معظم الأعمال الدرامية: قسم الأخيار (البطل ومن في صفه) ثم الأشرار (وأتباعهم)
أ – الأخيار : البطل ابراهيم الروداني
أتباعه / أصحابه: (أولاد الوطن) ومنهم الهبولي والناصري وغيرهم لا يعلنون عن أنفسهم (فدائيون سريون).. ثم آخرون عاديون أو مصلحيون مثل فقيه الجامع، وعبد السلام دگدگ (أخ بلفقيه) الشيخ الكوامنجي الحافظ لكلام الله الذي تحول إلى مطرب جوال فحرمه أخوه بلفقيه من الإرث مانحا إياه بيتا منعزلا في الدوار.
إضافة إلى شخصيات قد تبدو هامشية لكنها كائنة ومكونة للمجتمع القروي الدكالي في ذلك المكان والزمان، أمثال الحلايقية وعلى رأسهم شخصيات حقيقية (ولد قرّد) وميلود الهيش، ثم مهبول الضريح الذي غالبا ما يمثل الضمير الجماعي المستتر، لكن الظاهر على لسان هذا المعتوه، هذه الشخصية التي حبلت بها كثير من الأفلام المغربية المبكرة: (حلاق درب الفقراء) – ( ألف يد ويد) – (السراب) …
ب – قسم الأشرار:
القايد الهرموشي ومعه زوجته فاطنة الحاج ثم الخادمة فاطنة بنت الشاوية.
خليفته احمد بلفقيه – الشيخ احمد بلغالية – المقدم علي – وآخرون يتوزعون بين الخونة، والمصلحيين والمخاتلين على رأسهم إدريس أو مولاي ادريس الذي حل بالدوار ذات ليلة مستجيرا بضريح سيدي امحمد العالم مدعيا أنه سليله، ثم احتله وأقام فيه متدرجا في عدة مهام ومناصب إلى أن أصبح هو عامل إقليم دكالة بحلول استقلال المغرب؟
رابعا – العقدة
نفي محمد الخامس واشتعال فتيل النضال وما تلا ذلك من ثورات المواطنين أدت إلى استشهاد الكثير منهم حتى بعد عودة الملك المنفي وعلى رأس هؤلاء ابراهيم الروداني الذي تمت تصفيته ليس من طرف الفرنسيين ولكن على يد مغاربة أخطأوا الهدف فوجهوا السلاح نحو رفاق الأمس.
وهكذا اختلط الحابل بالنابل، فتمت تصفية المناضلين الحقيقيين، الذين بذلوا الغالي والنفيس في سبيل عودة ملكهم وتحرير وطنهم. وبالمقابل جوزي الخونة والمصلحيين بمناصب لم يحلموا بها لا في منامهم ولا في يقظتهم، لنخلص إلى نهاية مرة وهي أن كل ذلك كان مجرد “كذب في كذب…”.
ملحوظة تخص العنوان: يتمتع الأستاذ فقيهي الصحراوي بنفس روائي عميق وغزير في نفس الوقت، لكنه يعاني من عقدة العنوان حيث يتسم معظم عناوين كتاباته بالمباشرة والتقريرية، وكأنه الكاتب لا يبذل جهدا لانتقاء عنوان مثير لهذا الكتاب أو ذاك كما هو الشأن في روايته “كذب في كذب في كذب” فهو أولا طويل نسبيا وثانيا جد تقريري. لذا ارتأيت أن يغيره بآخر وراد في النص حوله تدور الدوائر فهو محور مهم من محاور الأحداث ألا وهو: “رفود الملك”.. ولكونه أيضا يطرح عددا كبيرا من الأسئلة ويعرف به وبصاحبه لدى الجيل الجديد مقارنة مع “كذب في كذب في كذب” الذي يبقى أيضا فضفاضا ويصح عنوانا لأية رواية تتمحور حول الغش والكذب والوصولية.
في نفس السياق ألّف الأستاذ فقيهي كتابا / دراسة شيقة حول رجل التعليم الشهير الذي أبدع تلاوة “اقرأ” المرحوم أحمد بوكماخ، لكنه منحه عنوانا طويلا ومركبا: “قم للمعلم.. أحمد بودماغ (عفوا، بوكماخ)” وكان برأيي من الأفضل لو اقتصر على الجزء الأول من العنوان: “قم للمعلم” .. أو الثاني: “أحمد بودماغ” فهذا الأخير لغويا وفكريا يحيل على “أحمد بوكماخ” كما أنه أشد إثارة وقربا لتركيبته الفكرية.
خامسا – تفعيلات مكملة
هي جزيئات صغيرة قد تبدو ضئيلة الحجم كما الحيز المكاني والزماني، لكنها ليست هامشية ولا يمكن الاستغناء عنها، تماما كما في الفيلم السينمائي الذي ينبني على جزيئات جد صغيرة لكنها وازنة مكملة وضرورية في البناء الدرامي أهمها:
أ – الأكسسوارات – ب – الحوار – ج – المؤثرات الصوتية – د – الملابس – فهذه العناصر نجدها مذكورة وموظفة بأسلوب سينمائي سواء تعمد الكاتب ذلك أم لم يفعل.
فمن بين أهم الأكسسوارات الفاعلة والمؤثثة للفضاء العام: (الزربية الحمراء – الوسائد – صينية الشاي بكافة لوازمها…) كما ورد في الصفحة 10:
((بعد عودته من دار القايد، استلقى بلفقيه فوق الزربية الحمراء، كما يستلقي عادة فوق الرمال أهل الصحراء، أجداده. وضع مرفقه فوق وسادة وأسند رأسه على كفه، ثم مدد ساقيه وأحاط به الوسائد من كل جانب. أمر الخادمة فاطنة بنت الشاوية بإحضار المجمر والمقراج لتهيء الشاي. وللشاي طقوسه لا يحلو شربه إلا والمعدات الضرورية أمام العين. عادت الخادمة فاطنة بنت الشاوية حاملة الصينية، يتوسطها إبريق من الفضة وكؤوس من البلّار وعلبتا الشاي والسكر لتضعهما فوق مائدة صغيرة، فيما الراديو كان يقبع فوق أخرى أكثر علوا منها. الراديو بالنسبة إلى بلفقيه جزء لا يتجزأ من ديكور شرب الشاي، بعد العودة من دار القايد، فهو نافذته للاطلاع على أخبار العالم، عبر إذاعته المفضلة “صوت العرب”)).
كما نجد “الفونو” (أي الفونوغراف) الذي يصدح بأغاني أم كلثوم.. وفي السوق الأسبوعي الذي هو بمثابة عيد لسكان القرية، هناك الحلايقية والدجالين والمشعوذين والموسيقيين بآلاتهم الكنبري والغيطة والطبل، والگيطون والشواري و…..
ب – الحوار
دراجي عروبي دكالي محض، قد توجد به أحيانا مصطلحات على القارئ أن يستنجد لفهمها ليس بالقاموس ولا بغوغل، ولكن ببعض المولودين بعروبية دكالة خصوصا من جيل “رفود الملك” أي الذين ولدوا مباشرة بعد نفي محمد الخامس… من هذه المصطلحات ما هو وارد في الخطاب الدراجي الدكالي اليومي كالكلام “الملاوط” أي اللامعقول.. أو الخاص ببعض الألعاب الشعبية مثل “شيرّا”.. أو ببعض الأمكنة مثل “البدُّوزة”.. أو النباتات التي كان يقتسمها البشر مع البهائم في زمن المجاعة، وعلى رأسها “يَرْني” حيث عمد الكاتب إلى شرح بعضها في الهامش.
ورد بالصفحتين 11 و12 الحوار التالي بين الخليفة احمد بلفقيه وزوجته فاطنة الحاج:
(( – سيدي احمد ياك ما كاين باس؟ ضرك راسك؟
ماشي غير راسي اللي ضرني أفاطنة، ضرني دماغي. امشينا فيها أفاطنة.
ياك لاباس اسيدي احمد؟ عاود لي أشنو طاري؟ أنا را ما سمعت والو.
– اخبار خايبة أفاطنة ما فيها ما يتعاود. السلطان ترفد أفاطنة. غدروا به دياولنا. تآمروا عليه مع فرانسيس اولاد الكلاب.
ترفد؟ وعلاش شديتي راسك؟
إلى ترفد ترفدنا كاملين أفاطنة. را البلاد ترفدات. إلى ترفد شكون اللي غادي يݣود هاد البلاد؟))
ثم يشير إلى فعلة القايد الهرموشي وعدد كبير من زملائه القياد الذين وقعوا سواء عن جهل أو خوف أوطمع وثيقة عزل الملك محمد الخامس وتنصيب التهامي الݣلاوي محله:
((- راه داك المدوخ ديال القايد الهرموشي مشى سينا ورقة ضد الملك.
– “سنا ورقة ضد الملك؟” كررت زوجته.
– أييه أللا.. هو في الحقيقة ما عليه والو.. هو أمي مسكين ما قاري حتى فتية..غير استدعاه لݣلاوي وݣال ليه اسني هنا، اسنا بالخوف بلا ما يسول علاش ، بلا ما يفهم))
والأمثلة كثيرة حول ما تعج به الرواية من حوارات دكالية محلية صرفة يسهل، بل ويُنصح توظيفها كما هي، حين تحويلها إلى عمل درامي مصور.
ج – المؤثرات
كثيرة ودالة منه مكبرات الصوت بسوق سيدي بنور الأسبوعي كما التجمعات التي يأمر بها المخزن الفرنسي.. ومن أبرز هذه المؤثرات، راديو صوت العرب من القاهرة الذي كان لا يفارق الخليفة بلفقيه، وما يبثه من أخبار حول الوضع السياسي بالمغرب:
((عُلم من مصادر فرنسية موثوق بها أن الملك المغرب محمد الخامس قد عزل بقرار من المقيم العام ، باتفاق مع علماء البلاد وعلى رأسهم الكتاني وجماعة من كبار القواد المغرب على رأسهم الباشا القوي الݣلاوي )).
د – الملابس
قفاطين القواد وأعوان السبطة من خلفاء وشيوخ ومقدمين ومخازنية… جلاليب البدو الخشنة.. تحتيات النسوة وحِيّاكهن (جمع حايك) … بدلات النصارى الأنيقة وقبعاتهم ونياشينهم وأحذيتهم العالية… يصف الكاتب في الصفحة 5 طقوس الاجتماعات التي يدعو إليها الفرنسيون سكان القرية وكيف يستعدون لها لباسا، حرسا، ورفقة بالكلاب من حيوانات وأتباع ومعاونين:
((كان النصارى كلما أحسوا بخطر يتهددهم إلا وأعدوا له العدة اللازمة بتفاصيلها الدقيقة وكأنهم يعدون أنفسهم لحرب…. فلا يحضرون للاجتماع فرادى ، كل منهم يجيء وقد أحاط به حشدا من أتباعه ومعاونيه وكلابه، وكأنهم يحاولون بطريقة غير مباشرة تخويف معارضيهم من المغاربة وطمأنة من حولهم من عملاء وبياعين ومتعاونين إداريين أنهم الأقوى.. يغيرون حتى ملابسهم اليومية. فيتوشح العسكريون بنياشينهم وأحذيتهم الجلدية العالية.. فيما المدنيون يحبذون اللون الأسود في كل ما يرتدون من قبعات وبدلات وربطات عنق ونظارات وكأن اليوم يوم مأتم))
كما اجتهد في رسم تضاريس بدلة ابراهيم الروداني “مول الشابو” مثلما يبدو في عدد من الصور، مما يحيل على تشبع فقيهي الصحراوي ذاته بثقافة الصورة، فلا غرو إذا احتكمت كتابته الروائية لاسيما في كتاب (كذب في كذب) إلى الصورة مما يسيل لعاب وكُتّاب السيناريو لتحويلها إلى سيناريو فيلم روائي وأنا واحد منهم…
عن موقع khalidelkhodari.com للزميل خالد الخضري
الرابط:https://khalidelkhodari.com/2022/03/20/%d8%b1%d9%92%d9%81%