شهيد الخير والحب امحمد امعَيْط

نورس البريجة: خالد الخضري

(الجزء 1)
1 – رجلا ولا كل الرجال
كُتب وقيل كما صُور الشيء الكثير عن الموت منذ أن خلق الله الحياة فخلقه رديفا لها.. فتعاملت معه جميع الأجناس البشرية بأفكار، شعائر وطقوس مختلفة، لكن ما يتفق حوله جميع البشر إحساسا هو: “لوعة الفراق” خصوصا متى خطف الردى شخصا كان إلى أويقات قريبة قبل وفاته يضج حياة، حبورا وتفاؤلا حتى ليخيل إليك أن البشرية جمعاء ممكن أن تموت إلا هذا الإنسان.. فيعتصر الحزن وجدانك.. يُخرس لسانك ويشل تفكيرك فيعجز ذهنك عن تصديق نبأ وفاة هذا العزيز، بل تصر أنت على إقناع نفسك أنك بالفعل غير مصدق…؟
هذا ما حدث لي وللكثيرين ممن كانت تربطهم بالصديق الراحل السيد امحمد امعيط الذي اختطفته يد المنون يوم الأحد الماضي 30 يناير 2022 وهو في منتصف عقده الخامس (54 سنة) حيث كان، ليس فقط يضج حيوية بل يفور حياة ويُدخل الفرحة لكل من معه… امحمد امعيط مهما كتبت عنه أو قلت فيه، لا ولن أوفيه حقه.. رجلا كان ولا كل الرجال.. لذا أجدني مستعيرا وصف طبيبه الخاص وطبيبنا جميعا، الصديق الدكتور يوسف شوقي ابن بلدتنا المشتركة أيضا، الذي عاينه خلال الأزمة القلبية التي أودت بحياته، حيث قال لي بالحرف محاولا إخفاء تأثره:
– أصاحبي هذاك الرجل ) ثم انحبست العبارات في حلقه قبل أن يضيف بعد برهة ).. مات شهيدا و…
وقطع الخط….
– أهم ما عُرف عن الراحل امحمد حبه لفعل الخير ومساعدة المحتاج بكل ما يملك أو لا يملك من وسائل، أسوق هنا دليلا واحدا عايشته معه خلال الخمسة أشهر الأخيرة ولا زلت لحد الآن أعيش على وقعه.. فتمت آخر محطة وصلنا إليها معا بمسقط رأسينا الزمامرة، وبالضبط في دوار المناقرة السهامات بأسبوع واحد قبل وفاته، أي يوم الأحد 23 يناير 2022 حيث سلمنا دراجة نارية خاصة بدوي الاحتياجات الخاصة للسيد عبد العزيز لحرش الذي سبق أن أعددت بشأنه ربورتاجا مقسما إلى جزئين:
– الجزء الأول صورته مع هذا “المحضار” حين حفظه لقرآن الكريم وكان عمره آنئذ 13 سنة، في عام 1994.
– الجزء الثاني سنة 2021 حين غدا له من العمر 40 عاما وأصبح هو المؤذن الرسمي للجامع الذي فيه تتلمذ وحفظ القرآن.. كما أصبح يعلم التلاميذ الصغار “المحضرة” نيابة عن الفقيه السي امحمد حجي – معلم عبد العزيز أيضا وإمام الجامع المذكور- في حال إذا ما تعذر عليه القيام بهذه المهمة لسبب من الأسباب.
إلا أن الشيء الذي حز في نفسي بخصوص الفقيه عبد العزيز لحرش هو تنقله من دوار المناقرة إلى مركز الزمامرة – حوالي 3 كلومترات – بواسطة عربة ذات عجلتين “كرّوسة” يجرها بغل أو حمار؟؟ !! فوجهت على إثر هذا دعوة للمحسنين لمساعدته على اقتناء دراجة نارية مصممة لذوي الاحتياجات الخاصة ناشرا رقم هاتفه… لكن ولا شخص واحد اتصل به أو بي في هذا الموضوع رغم مرور أكثر من نصف سنة على نشر الربورتاج.. ورغم ارتفاع نسبة مشاهته…
2 – إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَّلَهُ
وهنا حل دور المرحوم امعيط الذي اتصل – ودون أن يخبرني بأي شيء – ببعض المواطنين المغاربة المقيمين بألمانيا يقومون بأعمال خيرية من حين لآخر بشكل فردي تطوعي، عارضا عليهم فكرة مساعدة هذا الفقيه الكسيح.. فاستجابوا في الحال. حينذاك فقط أخبرني امحمد بالموضوع وطلب مني أن أعيد بعث الروبرتاج المذكور بجزئيه إليه.. كما أمدني باسم ورقم واحد منهم – وهو أيضا من بلدتنا الزمامرة– وجدته يعرفني راجيا منا عدم ذكر اسمه ولا أسماء زملائه الذين ساهموا في ذا العمل الخيري. وبالفعل إن هي إلا أيام قلائل حتى بعث هؤلاء المحسنين وهم خمسة: اثنان منهما من الزمامرة والثلاثة الباقون من الدار البيضاء، الرباط والقنيطرة – للأخ امحمد امعيط بمبلغ محترم أنشأنا على إثره لجنة ضمت اللجنة 4 أشخاص: المرحوم امحمد، الآنستين هاجر رشقي وجميلة عاصم ثم كاتب هذه السطور، حيث شرع كل واحد منا يبحث عبر الأنترنيت، في الأسواق، كما هنا وهناك ولدي باعة المواد المستعملة…
لكن امحمد امعيط فاز علينا جميعا باقتناص دراجة نارية رفيعة حديثة لم تستعمل قط تتحرك بشاحن كهربائي. وبعد الاتفاق على السعر مع مالكها، انتقلت شخصيا للدارالبيضاء لإحضار الدراجة مضطرا لتفكيكها إلى جزئين نظرا لكبر حجمها حيث تعذر إدخالها كما هي في السيارة، فتظل في مرآب بيت امعيط الكائن بحي “الجوهرة” في الجديدة قرابة الشهرين، إلى أن حل يوم الأحد 23 يناير 2022 المنصرم حيث سبقت امحمد ببضع سويعات للإشراف على فضاء وإجراءات حفل التسليم، ليلحق بي هو في سيارته ومعه أخرى أكبر أقلت الدراجة.
تم اللقاء والتسليم في جو احتفالي ديني واجتماعي رائع أثثته التراتيل القرآنية من عدد من الفقهاء توافدوا على دوار المناقرة من دواوير متفرقة: العثامنة، الدحيشات، المناقرة السمامرة، اولاد بن الشاوي… حتى غذا الحفل فعلا عرسا قرآنيا بامتياز ينظم للمرة الثالثة على شرف هذا الفقيه القدوة – والذي من أجله حضرت سيارة “بيكوب” من دوار القصّابة / اولا بن الطاهر حاملة على متنها إمام مسجدها زائد 14 “محضارا” صبية يحفظون القرآن الكريم ومعهم معلمهم الفقيه فقط ليتلقطوا صورا مع عبد العزيز ولكي يتبركوا منه أيضا فهو بالنسبة لهم قدوة.
كان امحمد امعيط خلال هذا الحفل في قمة حيوته وانتشائه، الكلمة الطيبة لا تزْوَرُّ عن لسانه والبسمة الرائقة لا تفارق محياه – وهو دائما كذلك كا ن – وسبحان الله فقد كان هو الوحيد بيننا جميعا، باستثناء الفقهاء الذين كانوا يرتدون الجلابيب البيضاء، من كان يرتدي بدلة رياضية بيضاء اللون بكاملها.. (هو أصلا رياضي متمكن يتميز برشاقة جميلة) وببياض لباسه هذا كأنه كان يرتدي كفنه قبل وفاته بأسبوع.. أو هو عريس ذلك الحفل كان لا غيره.. أو ربما هي مجرد تخيلات كاتب فقد صديقا عزيزا لديه فبدأ يهلوس.. عموما أيا كانت قراءات هذا اللباس ولونه، فامحمد امعيط يومه كان يشع إشراقا وبشاشة.. وانهالت عليه دعوات الخير وعلى جميع من ساهم في هذا العمل الخيري والإنساني الذي أدخل الفرحة إلى هذا الرجل وإلى عائلته بل وإلى جميع سكان دوار المناقرة، وكان للراحل امحمد نصيب أوفر، وهو دائما كان معطاء محبا وفاعلا لفعل الخير.
فعل الخير أوصت به جميع الديانات والشرائع ونصح به المفكرون وتلفلاسفة والعلماء كما صدرت بحقه آيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة كثيرة لعل من أبرزها أنه
جاء رجلٌ إلى النبي (ص) فقال: أي الأعمالِ أحب إلى الله؟.. فقال رسول الله (ص): ((أحب الناسِ إلى الله تعالى أنفعُهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرورٌ تُدخِله إلى مسلمٍ، أو تكشِف عنه كربةً، أو تقضِي عنه دينًا، أو تطرُد عنه جوعًا، ولأن أمشيَ مع أخٍ في حاجةٍ أحب إلي مِن أن أعتكِفَ في هذا المسجد شهرًا))
كما يوجد حديث شهير فحواه: “هناك قوم يدخلون الجنة ليسوا بالأنبياء ولا بالشهداء ولا بالصديقين… إنما هم قوم تقضى على أيديهم حوائج الناس”
وفي آخر ورد عن الرسول (ص) أنه قال: “إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَّلَهُ، قِيلَ: وَمَا عَسَلُهُ ؟ قَالَ: ” يَفْتَحُ اللَّه لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ “
وامحمد معيط وبشهادة الجميع كان من هؤلاء القوم الذين تُقضى على أياديهم حوائج الناس كما أن اهرت سبحانه وتعالى أراد أن “يُعسِّله” فيجعل من بين آخر حسناته ذلك العمل الإحساني المعسّل حقا فمأواه الجنة إن شاء اه ث.
تبقى إشارة أخيرة في متم الجزء الأول من هذه الورقة مفادها: إن تأخير موعد تسليم الدراجة النارية لصاحبها الفقيه عبد العزيز لحرش، حدث برغبة من هذا الأخير حيث أُجّلناه أكثر من مرة.. بل وحتى في المرة الأخيرة طلب مني إن كان ذلك ممكنا تأجيله أسبوعا آخر، أي ليوم الأحد 30 يناير 2022. فلما أبلغت امحمد امعيط رغبة عبد العزيز رفض رفضا باتا قائلا بالحرف:
– لا السّي.. أنا وأنت مسؤولان عن هذه الأمانة التي يجب أن نسلمها لصاحبها في أقرب وقت، ونقوم بتصوير ذلك لنشره وبعثه بالخصوص للمحسنين الذين كان لهم فضل توفيرها جازاهم الله خيرا حتى يطمئنوا.
بعد هذا صمت امحمد امعيط وكأنه كان يقلب في أجندة حياته أو برامجه المقبلة، وأردف:
– ثم من هنا للحد الجاي، ما تعرف آش يوقع؟؟
وفعلا في يوم الأحد الذي أشار إليه وقع ما وقع:
توفي امحمد امعيط ألف رحمة ونور عليه.
*********************
(يُتبع)
– رابط الجزء الأول من عرس القرآن المصور سنة 1994
https://youtu.be/04KmAC2o648

 

– رابط الجزء الثاني من عرس القرآن المصور سنة 2021
https://youtu.be/lQhp7FB5p2w

 

https://youtu.be/lQhp7FB5p2w

 

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *