. بقلم : عبد الرحيم مفكير.
الفنون بوجه عام تلعب دورا أساسيا في تهذيب النفس الإنسانية وتنمية الإحساس بالجمال، ورفع مستوى تذوقه، وكذلك الارتقاء به إلى درجات أعلى من الثقافة ورهافة الحس. والموسيقى منذ أن نشأت كظاهرة للفطرة طبيعية حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من العلم والتقنية والإبداع، كانت مصاحبة للوجود الإنساني خلال مراحل تطوره، ومعبرة عنه من جيل إلى جيل، وتأتي الموسيقى باعتبارها لغة في مركز الصدارة بين الفنون الأخرى، لأنها أسمى اللغات التي يتخاطب بها الناس، لغة سريعة النفاذ إلى الوجدان والعواطف، لها قوة تعبيرية تصل إلى أعماق النفس، وتأثير سحري لا يتوافر في أي فن آخر.
وبالمغرب أنبأت الظاهرة الغيوانية بالشيء الكثير… أنبأت بإحياء الغناء الجماعي بزخم كبير… وأنبأت بالإصرار على السير في تشييد عالم تتناغم فيه الأشياء والأقوال والناس، وأنبأت بخطاب يعلن عن موت التواصل الشفاف، ومن ثمة أعطت مكانة مرموقة للمتلقي المتعدد، فكان النص الغيواني متعددا وجامعا. متعددا من حيث التأويلات الممكنة وفق العوامل الممكنة غير المتحققة، ومتعددا من حيث انكشاف النص الغيواني عن النصوص المكونة له.
لقد كانت الظاهرة ظاهرة ثقافية عميقة ارتبطت بمجمل التحولات الفكرية والفنية والاجتماعية والسياسية التي أفرزتها الفترة الممتدة من 1965 إلى ,1972 وما أنبأت به ظاهرة ناس الغيوان لا ينفصل عما أنبأت به الشروط العامة التي أطرت مجمل الممارسات في تلك الحقبة.
التجربة الغيوانية تحكمت فيها عوامل خارجية وداخلية، عوامل ترتبط بالخبرة، بالجانب الصوتي والتطويري للغة، وبالمعرفة الدقيقة بعلم الموسيقى، وتربط بعدم مواكبة المختصين للأغنية، بما هو نشاط لغوي ـ موسيقي بالتقويم والتصحيح والإنضاج (1).
عوامل نشوء ظاهرة ”ناس الغيوان”
بروز الظاهرة يعود إلى حد ما إلى نجاح الأغنية الشعبية، وذلك بفضل الآخر الذي أضفى على ميراثه البدوي والتقليدي قيمة جديدة، ويعود أيضا إلى النظرة المتعاطفة لمجموعة من الفنانين الأجانب، الذين لم يتوقفوا لحظة عن توجيه الاهتمام لذلك التراث الفني المحلي، كما يعود إلى تصور المجموعة التي تمتلكها بعض هذه التشكيلات، وهو التصور الذي يعتبر ثاتبا من ثوابت الأغنية الشعبية، وقد تأثرت الأغنية الغيوانية بالمحيط العام للأغنية في العالم، الشعبية منها، التي جاءت في سياق تصاعدي كجواب على ضرورة ملء الأغنية بمفجرات شعبية تتناسق وآلام ومطامح الخط الصعودي للإنسان، وتتجاوب مع عصر يقبر أعاصير الظلام.
يذهب بوجمعة زوليف ومحمد الدرنوني إلى تسمية ناس الغيوان بـ”الدراويش الجدد”، وناس الغيوان هو الترجمة المطابقة لأهل التجوال، التي تفسر بشكل إيجابي بتوابع المغامرة والتسكع والغناء والاحتفال… في وسط المسرح ذاته الذي انبثق منه ناس الغيوان وقالوا بالاتباع فيه: إن بعض الأفراد من المجموعة وقد كانوا ملتفين حول الطيب الصديقي منذ ,1967 الذي كان حينئذ مدير المسرح البلدي بالبيضاء… شاركوا في مسرحيات ذاع صيتها كمسرحية ”الحراز” و”سيدي عبد الرحمان المجذوب” أو ”مقامات بديع الزمان الهمداني” وشارك إلى جانبهم بعض أفراد مجموعة ”جيل جيلالة”.
أدخل ناس الغيوان للتراث الموسيقي المغربي، الذي تبدو أشكاله متوزعة بطريقة تقليدية بحسب الفئات أوا لفئات العرقية/الثقافية، تقلبات شكلية طالت الأشكال العربية الأندلسية أو المصرية/الشرقية، والأشكال الزنجية الإفريقية من جهة أخرى، وثارت الأغنية الغيوانية أساسا ضد الشكلين السائدين للأغنية الوطنية: الأغنية العصرية التي تستوحي الشرق (المشرق)، التي هي بمثابة تحول ماسخ يمارسه تغريب الأشكال العربية، خاصة منها المصرية/اللبنانية، كما تمارسه الأشكال الغربية بصفة خاصة، وهي الأشكال التي كانت تجربتها بئيسة، والشيء نفسه يقال بالنسبة لعصرنة الآلات الموسيقية.
الأغنية الغيوانية: نماذج تقريبية:
الأشعار والموسيقى: إن التوفيق الذي مارسته المجموعة للأدوات الفنية المتباينة لا يمكن أن يتصور بمعزل عن ”التوليف” الذي مارسه الفنانون التشكيليون من جهة، ومن جهة أخرى، فإن النص الشعبي يمارس في هذا المجال تأثيرا على الاختيار الموسيقي الذي ينتج عنه تطابق بين بعض الموضوعات الشعرية والموضوعات الموسيقية أو الأنغام، وقد استطاعت المجموعة تطوير واستغلال الإرث الموسيقى في مجالات متعددة، من بينها: >الموضوعات الدينية الصوفية التي تأتي بأنغام وإيقاعات مطابقة: النغم الكناوي والحضرة العيساوية (إيقاع وموسيقى الجدبة) والأمثلة المجسدة لذلك أغنية ”الله يا مولانا الله” ,1972 وأغنية” غير خدوني” ”1974 ـ موضوعات ”اللطفية” التي تتلاءم مع الأنغام العربية الأندلسية، وهي حالة أغنية ”مزين امديحك” وأغنية ”حن واشفق” 1976 ـ 1977 ـ الموضوعات التي تتخذ ملامح تشدها إلى العروبة وهي في أغلبها مسندة بأنغام من الجنوب، وهي حالة أغنية ”حمودة” ,1974 وأغنية ”النادي أنا” 1976 وأغنية ”ضايعين” 1977 ـ الموضوعات التي هي ذات مضمون نوسطالجي (الحنين إلى مسقط الراس) تغنى في أغلب الأحيان بأنغام ”العيطة” كأغنية ”فين غادي بيا أخويا” والصينية” 1971 ـ 1973 و”الحصادة” 1974 ـ 1975 و”الشمس الطالعة” .1977
نماذج تقريبية: وللتقريب نطرح نماذج يستدعى فيها المجذوب الذي كانت نصوصه تعبيرا ذاتيا عن همومه التي ترجع إلى أسس موضوعية، استغلها الغيوان للتعبير بها عن حالات اجتماعية تتفاوت ضراوتها مع تباين بسيط في الألفاظ:
المجذوب: قلبي تقطع بالماس ماجابر انلوحو
من كان كواي للناس يصبر لكيات روحو
الغيوان: قلبي تقطع بالماس ما جابر انلوحو
من كان كواي للناس صار كيا لروحو
المجدوب: يا قلب نكويك بالنار وإذا بريت نزيدك
يا قلب خلفتي لي العار وتريد من لا يريدك
الغيوان: يا قلب نكويك بالنار ويلا بردتي نزيدك
يا قلب خلفتي لي العار وتريد من لا يريدك
والملاحظ أن هناك تنويعات لفظية لا تقل دلالة عن الجو العام الذي احتوى رباعيات المجذوب، والتأطير الذي طبع الرباعيات يمزج بين التساؤلات عن الأمل، والأمل المجسد كواقع والنقيض الجاثم على أحشاء الغيوان
المجذوب: قلبي جا بين المعلم والزبرة
والحداد مشوم ما يشفق عليه
يردف له الضربة على الضربة
وإذا برد زاد النار عليه
الغيوان: قلبي جا بين ايدين حداد
حداد ما يرحم ما يشفق عليه
ينزل الضربة على الضربة
وإلا برد زاد النار عليه.
القضية الفلسطينية والرؤية الغيوانية:
ما بين سنتي 1973 ـ 1974 غنت مجموعة جيل جيلالة ”القدس” ومجموعة ناس الغيوان ثلاثية فلسطينية تتكون من ”مزين امديحك” و”يا صاح” و”غير خدوني” وغنت لمشاهب ”بين الكديات”، ولقد اتسمت هذه الإنتاجات المتزامنة بطغيان الطابع الرومانسي، الذي يستقطبه الحس الديني والتعاطف الصوفي مع القضية، فالغيوان طرحوا القضية في إطار رومانسي ـ صوفي بين الأمل واليأس، والاستجابة والتحدي:
مولانا صرختو قريبة لعلم ماراد بين حرف الكاف والنون
ويرد الراشية جديدة
سيدي ما تضرك عليه المكنون
والله إلا بغا ينطق لكون الحجار الصامتة تتكلم.
والله إلا بغا يصدق لكون العبد في صدفة يغنيه.
وفي أغنية يا ”صاح” يقدم نص الغيوان الإنسان العربي الفلسطيني في قمة العزلة يواجه مصيره لوحده، ولكن النص يقدم لهذه الوضعية بابتهال إنسان ينطق بنفس ضمير المتكلم، قد يكون الإنسان الفلسطيني منظورا إليه بعين مغربية غيوانية.
يا صاح راني وسط الحملة ورخيت الشملا ومافات الحملا
إلا تفاجا الضباب الداير بينا يا هلي وصلح الوقت
وصار علمنا واقف على دربنا يا هلي
اليوم نصبغو دارنا بالبيض
وينا وينا شاوروا علي
أولفي والدنيا ما تدوم.
بكاو حتى عياو بالدمع نجالي
حالي تبدل حالو هذا حوال
والعديان فجنابي كلها يشالي
شي سالب عقلي شي عجبو الحال
وأنا وسط الحملة وحدي نلالي
أما الأغنية الثالثة من الثلاثية فهي أغنية ”غير خدوني”، تضع القضية الفلسطينية بين يدي الإنسان ليكتب قدره بالدم ويقرر مصيره بالاستشهاد:
غير خدوني لله خدوني قلبي جابين يد الحداد
ينزل الضربة على الضربة ويلا برد زاد النار عليه
سيل سيل بالدم المغدور الدم المغدور ما نسلم فيه
حق المظلوم أنا ماندوزو يا طاعني من الخلف
موت واحدة هي غير خدوني.
هنا تبشير بالنصر في كليته بوعي مضاد مكتسب من تجارب الواقع المحلي والقومي والعالمي المزامن للنص، فعلى الصعيد القومي مازال الحاكم الحداد المتمسك بمفهومه للسلطة ـ النار ـ المطرقة ـ في علاقته بالمحكومين ـ الرعايا، والدم الغدور على الساحة القومية والفلسطينية له لون واحد وألم واحد… والطعنة من الخلف (الخيانة) لا يجهلها أي عربي من جيل النكبة أو جيل الهزيمة، وعلى الصعيد العالمي تكتسب أسطورة الدم واقعيتها وعليتها من تجربة شعب ”فيتنام”، الذي قابل باستشهاد أسطورة التكنولوجيا الأمريكية.
وفي سنة 1977 ظهرت للغيوان ثلاثية أخرى يمكن الاصطلاح عليها بالثلاثية القومية، وهي مشتملة على الأغاني التالية: ”نرجاكانا” و”ضايعين” ”الشمس الطالعة”، وهذه الفترة عرفت بمرحلة التراجع والردة، وقد كان صلح ”كامب ديفيد” و”مجزرة تل الزعتر” و”النزيف اللبناني” أهم علامات الردة في هذه المرحلة، في سنة ,1980 أصر الغيوان ومجموعة ”لمشاهب” كل على حدة أغنيتين عن فلسطين، الأولى بعنوان ”القسم” والثانية ”فلسطين” كانت خطابا سياسيا مباشرا يستمد رؤيته من القناعات العامة عند النخبة المسيسة في العالم العربي…
تبقى ناس الغيوان إحدى المجموعات المعبرة عن هموم الأمة، وعن فئات من المجتمع المغربي، تناهض جهاز المتطلبات، ونتساءل مع حنون مبارك إلى أي حد يعتبر إنتاج الغيوان شعبيا؟ أعتقد أنه لا يمكن بصفة قطعية إغفال محاولة التأصيل الغيوانية الشعبية المغربية في إحيائها لتراث شفهي، وموسيقى مقموع وفي طابعها الرافض… وتبقى الظاهرة الغيوانية إنهاضا للأغنية الشعبية الحقة ومدا لها بدماء تسكب عليها حرارة التلاحم مع الجماهير، فناس الغيوان عملة صعبة ملك لكل المغاربة.
المراجع:
1 ـ حنون مبارك: الأغنية الشعبية الجديدة (ظاهرة ناس الغيوان) 4 ـ آفاق دجنبر 82 م أبزيكا ”الفن المغربي والقضية الفلسطينية” ص 45 ـ .46
2 م ـ برادة مجلة آفاق ”عن الثقافة الشعبية” ص 9 ـ ع: 9 يناير 82/3 ـ آفاق: مقال د ع الكبير الخطيبي ”مقدمة لمفهوم الثقافة الشعبية” ع .9