بقلم: فتحي المسكيني
ذكر المسعودي، في “مروج الذهب”، أنّ بعض الحيوان، مثل الفيلة والخيل والإبل، يجزع من الماء الصافي إذا ورد للشرب، فيضربه ويكدّره، فإذا تكدّر شرب منه مطمئنّا. ولعلّ ذلك “لمشاهدة صورها في الماء لصقالته وصفائه”. ويبدو أنّ هذا خاص بما عظم من الحيوان، الذي متى “رأى صورته منعكسة على صفاء الماء أعجبته لعظمها وحسنها وما بان به من حسن الهيئة عما دونه من أنواع الحيوان”. ولا ندري أيّ اطمئنان يتحقّق لها مع الكدر أو التكدير، ولو كان رغبة من عندها.
فهل نكسّر المرآة إذن، نحن بني البشر، حتى نستطيع أن نرى أنفسنا من دون خوف؟ خوف من الوجه الآخر لأنفسنا؟ حيث يبرز وجهُنا دون أن يكون نحن..أو دون أن يتطابق مع ما نظنّ أنّه صورتنا عند أنفسنا.
ربّما.
ولكن يبدو أنّ الفرق بين الماء والمرآة أكثر خطورة ممّا نتصوّر لأوّل وهلة. يستطيع الماء أن يتكدّر دون أن يفقد من حقيقته: كونه يروي ظمأ الحيوان الذي فينا. لكنّ المرآة لا تتكسّر من أجلنا أبدا. وبعض الهويات يشبه المرآة: أنّها لا تتكسّر من أجلنا أبدا. فهي في الحقيقة لا ترى إلا نفسها. وكل من يحرص على أن يدين بشكل حياته إلى كينونة مرآوية، هو يؤبّد فقط حاجته إلى ما لا يتكسّر من أجله، ويرهن هويته في أنانة لا تحبّ ير نفسها.
تحت جلد كلّ مرآة، يوجد نرسيس، الإله الذي عاقبته الآلهة بحبّ نفسه، قصاصاً منه لصدّه المرأة التي أحبّته، “إيكو”، ابنة الهواء والتراب التي تفاخر عليها بجماله فلعنته الآلهة. نعم، الآلهة تثأر بالحب. وما قتل نرسيس كان مخبّأ له في قدره منذ البداية. قالت النبوءة: “هو يبلغ الشيخوخة فقط إذا هو لم ينظر إلى نفسه ولم ير صورة وجهه”. كانت لعنته صامتة ونائمة في عينيه. ويبدو أنّ لفظة “نرسيس ” اليونانية (نركيسوس) كانت تتضمّن “ناركي” أي “النوم”: ثمّة نومٌ ما في عينيّ كلّ هوية، ليس أخطر عليها من أن ترى نفسها، أو تحدّق في نفسها. وهكذا حين قاده الظمأ إلى الماء كي يشرب الحيوان الذي فيه، رأى نفسه لأوّل مرة، فأحبّ نفسه وانتهى به الوجد إلى الموت، كدراً من هذا الشعور الذي لا يمكن تحقيقه: أن يقبض على صورته ويخرجها من الماء. حين أراد أن يقبّل وجهه في الماء، غرق في نفسه، ومات من أجل هوية كان ممنوعا عليه أن يراها. – ناحت عليه أخواته الربات. ومع جثّته عُثر على زهور بيضاء، هي تلك التي تُسمّى “النرجس”. النرجس هو ما تبقّى من عينيه على صفحة الماء. هويته تحوّلت إلى عطر. ولكن ثمن العطر هو موت نرسيس.
هناك أختٌ ما تنوح على أيّ هوية مستحيلة. الأخت لا تشرّع شيئا في هويّة الأخ. لكنّها الوحيدة التي تبكيه إلى النهاية. ثمّة بكاء لا يصاحب الهوية الجريحة إلى النهاية. ففي لحظة ما ينتحر الحبّ ويتحوّل إلى كراهية متوحّدة. لذلك عادت “إيكو” إلى الكهوف، بعد أن صدّها نرسيس وجلبت عليه لعنة الآلهة: أن يقع في حبّ نفسه إلى حدّ الهلاك.
فهل كانت الحيوانات تكدّر الماء الصافي حتى لا ترى نفسها؟ نعني حتى لا تقع في حبّ التألّه؟ وكلّ هوية لا تعبد إلاّ نفسها.
ربّما.
لكنّ ذلك يعني أنّ الحطيئة كان على حقّ: من لا يستقبح نفسه لن يراها. القبح أيضا نمط لقاء جذري مع أنفسنا. لكنّ قبحنا هو دائما جزء لا يتجزّأ من هويتنا. إذْ، من سوف يحتمل اللقاء إذن مع أنفسنا ؟ بلا ريب. ثمّة دوما وجوه للكراء. لكنّها لا تصلح للهوية. نعني لأنْ تحتمل اللقاء العاري مع أنفسنا، بدلاً عنّا.
القبح ليس هجاءً إلاّ عرضا. فحين لم يجد الحطيئة من يهجو، هجا نفسه.
“أبَتْ شفتاي اليوم إلاّ تكلّماً….بسوءٍ فلا أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجهاً شوّه الله خلقه….فقبّح من وجه وقبّح حامله ”
ليس ثمّة هوية صامتة. كلّ هوية هي رغبة مريعة في الكلام عن النفس. لكنّ النفس ليست دائما أفضل ما لدينا. ولذلك تمتلك جميع الهويات قدرة داخلية على الإساءة، نعني على قول كميّة “اللا-هوية” أو عدم الهوية الذي تنطوي عليه سلفا. عدم الهوية يعني كل إمكانيات الآخر التي فينا، دون أيّ استشارة مسبقة. يخترقنا الغير ويغيّر ما بأنفسنا، في كل مرة نلتقي فيها مع أنفسنا. وذلك يعني بنفس القدر أنّ هجاء النفس هو أيضا جزء من انفعالها بنفسها، نمط من الانتماء إلى الآخر الذي نجرّها في تصوّرنا لأنفسنا. لا يأتي الآخر من أيّ مكان. بل هو كل إمكانية للشعور بأنّنا لسنا نحن بما فيه الكفاية، وأنّ المرآة التي أمامنا هي وراءنا بمعنى ما.
ومن الممكن أن نصنّف الهويات بقدر ما تنطوي عليه من ضروب الآخر. وخاصة بمدى قدرتها على الانتماء إلى كلّ الأناوات الأخرى التي تنام فيها سلفا. ليست النفس غير ادّعاء من جملة ادّعاءات أخرى بأنّنا هنا، وبأنّنا نحن، وأنّنا ليس غيرنا، فينا.
كميّة السوء التي فينا لابدّ وأن تتكلّم، ولابدّ وأن نقولها. ليس مهمّا من سيكون موضوعا لها. فالهوية هي في أعماقها مخاطبة اضطرارية لمن يقابلنا. وهي بطبعها لا تخاطب إلاّ من يستطيع أن يكون قادرا على احتمال إساءتها. لأنّ احتمال الإساءة ليس غريبا عن بشريّتنا. ويبدو أنّ ثمّة علاقة عميقة بين الوجه والشعور بالإساءة: نحن لا نشعر بهويتنا إلاّ بقدر ما نرى أنفسنا، نعني ليس لنا من هوية إلاّ بقدر ما نرى وجوهنا. إنّ هويتنا هي وجهيتنا. لكنّ الوجه ليس دائما أفضل أعضاء النفس. كلّ وجه يحتمل كلّ أخاديد العمر، ولا يمكنه أن يستقيل من حملها. ثمّة خرائط تؤرّخ للعمر، وتنحت الزمان في مآقينا. وهكذا ليس أكبر من إساءة الزمن إلى الوجه البشري: هل هناك معنى آخر للقبح ؟ الله لا يشوّه الخلق البشري، بل يحمّله ذاكرته إلى النهاية. ولذلك فالتقبيح ليس سوى نمط من القراءة لوجهيتنا، كيف نظهر في صورة أنفسنا. وهو ليس إساءة لأحد. لأنّ القبيح لا يحمل قبحه. بل يسكنه. وهو بمثابة السماء الداخلية لقلبه.
من لا يسيء إلى نفسه العميقة، نعني من يكره نفسه، لن يجدها. ستكون قد مرّت إلى المرآة، وصارت تقف على الجانب الآخر، من أنفسنا.
ذلك الحيوان الذي كان يكدّر الماء كي يشربه، يسألنا من بعيد: متى يكفّ نرسيس عن محاولات القبض على نفسه في صفحة الماء الذي لا هوية له… ؟ متى ينقطع الحطيئة عن هجاء نفسه الوحيدة، ويعذر حاملها… ؟
RépondreTransférer
|