بقلم: عبد الرحيم بن بوشعيب مفكير.
تقديم :
كان للحركات الصوفية بتركيا وما زال الأثر البالغ في بناء الإنسان، والتأثير على المسار السياسي، ومواجهة سياسة التغريب والعلمنة، والوقوف أمام مخططات “الأتاتوركية الكمالية” التي جاءت لتجفيف منابع التدين، ومحو آثار الدولة العثمانية، والتبشير بالمجتمع الحداثي والسعي للانخراط في المجتمع الأوربي ، والقطع مع كل ما له صلة بالدين، والتحرر منه.
وقد لعبت النظم والطوائف الدينية دوراً مهماً في السياسة والمجتمع التركي منذ العهد العثماني. وكانت هذه عبارة عن أجزاء أو أفرع من الطرق الصوفية في الإسلام. كما طرأت تحولات عديدة على أدوار هذه الأنظمة، فقبل الإصلاحات التغريبية في القرن التاسع عشر، ارتبطت هذه الأنظمة بالبيروقراطية العثمانية بشكل وثيق، لكنها لم تعلب دوراً سياسيا مباشراً هناك. وفي أواخر العهد العثماني، بدأت هذه النظم تضعف بشكل تدريجي لا سيما مع انتشار المبادئ التربوية العلمانية والغربية في المجتمع. وخلال السنوات الأولى من الجمهورية التركية، عانت هذه الأنظمة من مشاكل القمع الممنهج من قبل السلطة. لتعود هذه الأنظمة من جديد وتعاود الظهور بشكل تدريجي ابتداء من عام 1950 وحتى عام 2002 حيث تمكنت من الوصول إلى السلطة بشكل فعال.
لقد قامت هذه الحركات بأدوار مهمة في بناء المجتمع التركي، وساهمت في حرب الاستقلال في السنوات الأولى لتأسيس الجمهورية، واحتفظت بدورها البارز برغم الإجراءات الكمالية التي رفضتها رفضا مطلقا. ولم تكن هذه الطرق تتعاطى العمل السياسي المباشر في معظمها انسجاما مع فلسفتها ورؤيتها لعملية التغيير والبناء، إلا أن ذلك لم يمنعها من أن يكون لها دور بارز في الحياة السياسية التركية.
وقد مر تعامل مصطفى كمال أتاتورك وحركته “الكماليون” مع الطرق الصوفية بمرحلتين أساسيتين:
المرحلة الأولى: تميز موقف الكماليين تجاه الجماعات والطرق الصوفية بالود والاحترام، لأن الأمر كان يقتضي تغيير نمط التدين الإسلامي الرسمي أولا. وخلال هذه المرحلة تعاون الكماليون بصورة كاملة مع الجماعات الصوفية ضد مؤسسة الخلافة، وفي حرب الاستقلال استخدم مصطفى كمال قادة الجماعات الصوفية لتعبئة الجماهير للجهاد ضد الغزاة، ولذا فان دستور 1924م ترك الجماعات الصوفية حرة من دون أي قيود دستورية.
وفي المرحلة الثاني بدأ التفكير في حل هذه الجماعات، وذلك حينما أيقنت التجربة الكمالية أن هذه الطرق الصوفية تمثل تحديا أساسيا في مواجهتها. واستتبع عملية الحظر هذه إغلاق مقرات هذه الطرق، ومنع أصحابها من القيام بأي نشاط في أي مكان، فاضطرت إلى ممارسة نشاطاتها سرا على الرغم من موجة التشريد والنفي والتهجير التي تعرض لها كثير من شيوخها وأتباعها.
عند استقرار الوضع قامت بعض هذه الطرق بتكوين جمعيات للإنفاق على طلاب مدارس الأئمة والخطباء لتعويض النقص الذي حصل نتيجة اختفاء الدعاة بسبب المحن التي تعرضوا لها، كما ظهرت طرق أخرى جديدة كرد فعل على الممارسات التي رافقت إجراءات العلمنة الكمالية التي استهدفت إقصاء الدين عن الحياة التركية العامة.
مع بدايات الخمسينات بدأ التضييق والحصار يتراجع عن الدين وأهله من رجالات التصوف وغيرهم من الجماعات والأفراد، وفي هذه الفترة أخذت العديد من هذه الطرق تخرج من سريتها، لتمارس نشاطاتها بشكل علني شيئا فشيئا، وساعدها على ذلك تنافس الزعماء السياسيين على كسب أصوات أتباعها عند اقتراب الاستحقاقات الانتخابية، بل إن بعض زعماء الأحزاب كانوا لا يترددون في أن يعلنوا أنهم أعضاء في بعض هذه الطرق.
إن التصوف بصورة كبيرة في تركيا وغالبية الشعب التركي إن لم تكن تتبع بعض الطرق الصوفية (مريدي طريقة) فهي متعاطفة مع الصوفيين.ويعزو الدكتور سليمان ديرين أستاذ التصوف في كلية الإلهيات في جامعة مرمرة في إسطنبول هذا الانتشار الكبير للتصوف إلى أن الدين الإسلامي وصل للأتراك على أيدي الصوفيين. وحسب رأيه فإن مبادئ التصوف التي تقوم على الروحانيات والحب الصافي للذات الإلهية والزهد في الحياة، تلاقت مع الأخلاق العامة للمجتمع التركي، الذي كان مجتمع قبائل كثير الترحال.
فما هي الأدوار التي قامت بها الطريقة النقشبندية ؟ وما تأثيرها في المجال السياسي ؟ وكيف حافظت على منظومة القيم؟ وما أساليبها التربوية والـتأطيرية؟
مسار الجماعات الصوفية:
أدت الطرق والجماعات الصوفية دورًا مهمً في السياسة والمجتمع التركي منذ الحقبة العثمانية، وهي تنحدر من التصوف وتراثه الذي يعود إلى القرن الثالث الهجري، والذي بدأ بوصفه نزعات فردية تدعو إلى الزهد وكثرة العبادة، لتكون منهجًا أو طريقًا للوصول إلى الله تعالى؛ أي الوصول إلى معرفته والعلم به، حسب دراسة نشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.[1]
أكدت هذه الدراسة إلى أن التصوف لا يعد مذهبًا وإنما طريقًا تروم تزكية النفس وتطهير القلب والتزام الأخلاق الحسنة انطلاقًا من الركن الثالث للدين وهو الإحسان؛ الذي يُعرَّف في الحديث الشريف بأنه: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.
ووفقًا للدراسة، فإن من أهم علماء الدين الذين عُرفوا بالتصوف أبو حامد الغزالي والحلاج ورابعة العدوية ومحي الدين بن العربي وجلال الدين الرومي. وقد تحولت هذه النزعات الفردية إلى طرق عديدة عمت بلاد المسلمين، واتخذت مناهج وطرقًا مختلفة، منها من التزم القرآن والسنة، واجتهد في التأويل على أساسِهما، ومنها من ذهب بعيدًا في تبني عبادات أو عادات مُحدَثة، وهي التي يُصنّفها الدعاة السلفيون بدعًا وانحرافات قد تُخرِج أحيانًا أصحابها عن الدين.
الطريقة النقشبندية:
تعتبر النقشبندية من أكثر الطرق الصوفية انتشارا في تركيا، ومن أعرقها وأكبرها وأوسعها انتشارا، لها امتدادات في مجموعة من دول العالم الإسلامي، مؤسسها هو محمد بهاء الدين النقشبندي الذي عاش في بخارى بين عامي 1317 و1389 هـ، وحمل الطريقة عنه إلى الأناضول أحد أتباعه وهو عبد الله السماوي في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، لتنتشر في مختلف أنحاء تركيا.
شارك النقشبنديون في الانتفاضات التي ثارت في وجه الإجراءات التي اتخذها أتاتورك ورفاقه لعلمنة تركيا. ومع إقرار نظام التعددية الحزبية عاودت النقشبندية نشاطها، وعملت على تعزيز حضورها في أوساط أساتذة الجامعة وموظفي الدولة وأصحاب المهن الحرة. وهكذا صارت داخل النقشبندية ثلاثة تيارات فرعية يتزعم كل واحدة منها شيخ نقشبندي، وهي:
التيار الأول: وضم فئة الحرفيين والتجار الصغار من الطبقة الوسطى.
التيار الثاني: وضم مجموعة من المثقفين وأساتذة الجامعات ورجال الأعمال وزعماء بعض الأحزاب السياسية.
التيار الثالث: وضم الشرائح الاجتماعية البسيطة من الناس من أهل المدن والقرى والأرياف.
ومعلوم أن الجماعات الإسلامية ذات البعد التربوي والفكري ،تأسست كرد فعل متأخر نسبيا على إجراءات العلمنة الكمالية. وقد ظهرت هذه الجماعات في أواخر الخمسينات وبداية الستينات، ومنها على وجه الخصوص جماعة النور وتنسب إلى مؤسسها بديع الزمان سعيد النورسي، والجماعة السليمانية التي أسسها سليمان حلمي تونهان، الذي كان شيخا نقشبنديا. والبعض يضم الجماعة الإيشكشيكية، ومؤسسها هو حسن حلمي إيشيك. وما يميز هاتين الجماعتين حرصهما على أن يستقلا كل منهما بخط فكري يميزها عن غيرها من باقي الطرق الصوفية.
وقد كان لهذه الطريقة ( النقشبندية) علاقات مع القوى الحزبية التي تعتبر أداة المشاركة السياسية في تركيا العلمانية المدنية. وفي البداية كانت النقشبندية تدعم حزب النظام الوطني ثم حزب السلامة الوطني عند تأسيسهما من طرف السياسي الإسلامي نجم الدين أربكان الذي كان نقشبنديا، وبعد الانقلاب العسكري لسنة 1980 تشرذم النقشبنديون، فانتمت الغالبية إلى حزب الوطن الأم عند تأسيسه عام 1983، فيما أيد آخرون حزب الرفاه، ولا يزال هذا الانقسام بين الأحزاب قائما إلى اليوم.
ويتعاطف معها طيف واسع من الشارع التركي، تليها الطريقة القادية، ثم البكتاشية فالمولوية ثم الخلوتية. والطريقة المولوية هي الطريقة الوحيدة التي تقيم حلقات ذكر يستخدم فيها المريدون الطبول والرقص,
ويقول الدكتور ديرين إن الصوفية في تركيا تختلف عنها في الكثير من الدول العربية، فهي قوية وحاضرة بقوة في مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.[2]
وبالرغم من الحظر الرسمي للصوفية فإن السياسيين على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم يعترفون بشيوخ هذه الطرق في اللحظات الحرجة. وقوة اليخ تبرز خلال الانتخابات، فللطريقة النقشبندية في إسطنبول أتباع يصل عددهم إلى مليون شخص,
وإذا ما رجعنا إلى التاريخ القديم نجد أن التصوف يعود فيها إلى الشيخ محمد بهاء الدين نقشبند (1318 – 1389م)، وإليه تُنسب الطريقة النقشبندية، وهي واحدة من أكبر الطرق الصوفية في العالم. وقد أدت على مر التاريخ دورًا مهمً في انتشار الإسلام. تعتمد النقشبندية في منهجها على الإرشاد الروحي عبر تلقّي “المريد” العلوم الشرعية من الشيخ أو “المرشد”، ويُشكّل هؤلاء المرشدون سلسلةً متواترةً ممتدةً تعود إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وترجع هذه الطريقة إلى المذهب الحنفي الذي يعتمد منهج أهل الرأي والعقل في فهم القرآن والسُنة وتأويل نصوصِهما. وقد ساد هذا المنهج قرونًا طويلة لدى المسلمين بسبب قبوله لدى الأمويين والعباسيين والعثمانيين الذين وضعوا الأحناف في مركز مؤسسات الدولة ونظام القضاء؛ ما أدى إلى انتشاره على نطاق واسع، حسب الدراسة.
كما تستند النقشبندية، ومن ثم الأتراك، إلى علم الكلام والبرهان الذي تمثله “الماتريدية”، التي تُنسب إلى أبي منصور محمد الماتريدي الذي نشأ في القرن الرابع الهجري في سمرقند (ت. 332 هـ). واعتمدت الماتريدية في أسسها ونشأتِها على المذهب الحنفي فقهًا وكلامًا، حتى كانت آراء أبي حنيفة هي الأصل الذي تفرعت منه آراء الماتريدي.
ومعروف أن الماتريدية تدعو إلى مذهب أهل الحديث والسنة بتعديلٍ يجمع بين الحديث النبوي واستخدام البرهان، فقامت على استخدام البراهين والدلائل العقلية والكلامية وتوسيع دائرة التفكير والاستنتاج في محاجَّة خصومها لإثبات حقائق الدين والعقيدة الإسلامية.
ومن أبرز ما يميزها عن غيرها أنها تقول إن مصدر التلقي في النبوات هو العقل، وأن المعرفة واجبة بالعقل قبل ورود السمع. ولا يرى الماتريدي مسوغًا للتقليد، بل ذمّه وأورد الأدلة العقلية والشرعية على فساده وعلى وجوب النظر والاستدلال. وقد توسعت الماتريدية وانتشرت منذ القرن الثامن الهجري بسبب مناصرة الخلفاء العثمانيين لها، فانتشرت على امتداد الدولة العثمانية.
تعتبر النقشبندية نفسها مختلفة عن الطرق الصوفية الأخرى من حيث عودة سلسلة الانتقال الروحي في تلك الطرق إلى النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، من خلال ابن عمه علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وتعد النقشبندية الطريقة الصوفية الوحيدة التي تعود سلسلة الانتقال الروحي فيها إلى أبي بكر الصديق. ومن هنا، تتميز بأنها طريقة تعترف بالخلفاء الراشدين الأربعة وتحترمهم، وهي بعيدة عن الفرق الشيعية والعلوية.
وتُعد الشخصية المركزية في تطور الطريقة النقشبندية هو الشيخ أحمد السرهندي (1524 – 1624)، الذي عزّز الالتزام بالطريقة في سياق مواجهة التشيّع الصفوي، وعمل على تنظيم “الاجتهاد” وقيّده بضرورة أن يكون “ضمن حدود القرآن والسنة”. كما عمل على تشجيع التصوف الإيجابي المنخرط في الحياة العامة وليس الاقتصار على الممارسات التقليدية الطقوسية للتصوف الذي ينسحب من الشؤون العامة.
وفي القرن التاسع عشر، جدّد هذا التفكير وطوره الشيخ خالد البغدادي وهو كردي يتحدر من شمال العراق، دخل النقشبندية عام 1809. وقد طور فرعًا جديدًا من الطريقة عُرفت باسم الفرع الخالدي أو “النقشبندية – الخالدية”، التي أكّدت على أفكار السرهندي، وعُرفت برفضها القوي للحكم الأجنبي أو الأفكار غير الإسلامية، متأثرة بحركة الاستعمار الأوروبي الممتدة في العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى شمال القوقاز، وطالبت بتطبيق الشريعة الإسلامية وجعل الإسلام مبدأ توجيهيًا للإصلاح.[3]
محمود أفندي شيخ الطريقة التقشبندية :
ولد عثمان أوغلو عام 1929 في أوف بمحافظة طرابزون التركية لعائلة مسلمة، ونشأ نشأة متدينة. عين أفندي إمامًا لمسجد إسماعيل آغا في إسطنبول عام 1954 وظل فيه حتى أحيل للتقاعد عام 1996، وكان يقوم بالتدريس والوعظ في إسطنبول ويجذب الكثير من الطلاب والمريدين.صوفي التوجه نقشبندي الطريقة، حنفي المذهب والفقه أخذ عن أبرز شيوخ الطريقة النقشبندية، ولكثرة تأثيره على الجمهور التركي تعرض للمضايقات من قبل الجمهوريين، خاصة بعد انقلاب 1960 ودخول البلاد حالة الطوارئ، وحكمت عليه الإدارة العسكرية بالنفي إلى مدينة إسكي شهير وسط تركيا، لكن القرار لم يطبق، في سنة 1982 اتهم أفندي بالضلوع في اغتيال مفتي منطقة أسكودار، وبعد سنتين ونصف حكمت المحكمة ببراءته من التهمة، وفي عام 1985 أحيل إلى محكمة أمن الدولة بحجة أن خطبه ودروسه تهدد مبدأ علمانية الدولة، لكن المحكمة قضت ببراءته.في عام 2006 قتل الشيخ بيرم علي أوزتورك من أكبر طلاب الشيخ وصهره ومعيد درسه وهو يلقي درسه على كرسي الوعظ والإرشاد في جامع إسماعيل أغا، كما أطلق على سيارة الشيخ محمود أفندي الرصاص عام 2007 في محاولة لاغتياله لكنه لم يصب بأذى.
منهجية جماعة محمود أفندي وقدرتها على التأثير:
مقتل أبرز شيوخ الجماعة ومحاولة اغتيال الشيخ المؤسس لها دليل واضح على حجم التأثير الهائل على الملايين من الأتراك والمسلمين، تتجسد هذه القوة مرة ثانية بالزيارات المتكررة لقيادة الصف الأول في الدولة التركية مثل الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو لطلب الدعم من الشيخ محمود أفندي في الانتخابات الماضية، مما يبين للمتابع حجم تأثير هذه الجماعة، ولكن كيف استطاع محمود أفندي أن يحدث هذا الحجم من التأثير في ظل دولة علمانية ضاربة الجذور في العلمانية عنيفة جدًا تجاه الإسلاميين؟.
تتمركز منهجية الجماعة في استثمار أموال الوقف المنتشرة في إسطنبول وتركيا وغيرها بصرفها على حلقات التعليم التي تديرها مشيخة الجماعة بطريقة احترافية، حيث يدخل الطالب بمراحل تعليم ضمن بيئة خاصة تجعل الطالب متأثرًا بالبيئة أكثر من تأثره بالمادة العلمية ويتم الصرف على كل طالب مستمر وفقًا للشروط التي يضعونها من مأكل ومشرب وملبس لحين إكمال دراسته، وقد يعين مدرسًا في نفس مدارسهم الدينية وهذه المدارس مفتوحة للجنسين معًا.
يتخرج هذا الطالب وأبرز ما يحمله في داخله عقيدة الولاء للجماعة ومريديها، فتجد الأمر يصل لأبسط الأمور، فمنتجات الشركة الفلانية لن تجدها لأن صاحبها علماني بينما ستجد أنهم يشترون من الشركة التي صاحبها إسلامي ومقرب أو تابع للجماعة حتى لو كان المنتج أقل جودة وأغلى ثمنًا.
وفق هذه المنهجية فإن وجودك ضمن هذه الجماعة كداعم لها سيمدك بالدعم من ملايين الناس التي تعتقد أنك جزء منها لا ينفصل، كما أن البعد القومي لا يتم إغفاله مطلقًا، فتجد الغالبية لهذه الجماعة تشعر بأنها من أحفاد آق شمس الدين شيخ السلطان محمد الفاتح.
مميزات جماعة محمود أفندي:
تتميز هذه الجماعة عن غيرها بابتعادها التام عن العنف، فرغم كثرة المريدين وعدد المضايقات وغيرها من التفاصيل الأخرى فإن هذه الجماعة حافظت على عدم انزلاقها في أي أعمال عنف أو تشكيل تنظيم مسلح طوال فترة مواجهتها مع الدولة منذ منتصف الخمسينات من القرن الماضي وإلى اليوم.
كما تتميز الجماعة بزيها الخاص الذي يعتمره الجميع (رجال ونساء وأطفال صغار وشيوخ كبار) فالملابس النسائية السوداء كما يسمونها “Çarşaf” علامة مسجلة لهم، تلبس بطريقة خاصة ، حيث يظهر من الوجه العيون والأنف فقط، وكذلك ما يتميز به الرجال من تغطية للرأس وبالجلباب “cubbe” التي يرتديها الرجال.
اتباع المذهب الحنفي وتطبيق كل ما فيه بغض النظر عن الأمور الأخرى، فلا يأكلون الطعام البحري باستثناء السمك، ولا يقبلون بالمسح على الجوارب حتى في البرد القارص، غيرها من الأمور التي يطبقونها ويعيبون على من لا يلتزم بها.
يتكلمون العربية الفصحى فهم يدرسونها في مناهجهم ويتعلمون بعلومها من صرف ونحو وبلاغة، على عكس الكثير من الجماعات التركية الإسلامية التي تأخذ العلم دون رده للغة العربية، وهذه ميزة فريدة تحسب لهم وتجعلهم أكثر قدرة بالتأثر والتأثير بالعرب المسلمين.
طريقة المنزلية (Menzil):
تعد الطريقة المنزلية جماعة من النقشبندية الخالدية، ويقع مقرها في آدييامان التي تشعبت بسرعة كبيرة في أنقرة وإسطنبول، انتشرت بسرعة أكبر بعد الانقلاب العسكري عام 1980، وكان ذلك جزئياً بسبب سمعتها المتناقلة بوصفها النظام الديني الداعم للدولة. ونتيجة لذلك، بدأت تنتشر في مناطق غربي تركيا كواحدة من أسرع المناطق لنمو الجماعات الدينية في البلاد. ومثل العديد من المجتمعات الدينية، فهي تميل إلى دعم أحزاب يمين الوسط، حتى تم إنشاء حزب العدالة والتنمية. وفي الواقع، فإن كثيراً ممن حكم عليهم بالإعدام بعد الانقلاب وخففت عقوبتهم انضموا للطريقة المنزلية، عدا عن أن المؤسس الراحل لحزب الوحدة الوطنية محسن يازيتش أوغلو، كان مقرباً من الطريقة. وفي حكومة العدالة والتنمية من المعروف أن هناك وزيرين يمثلان الطريقة المنزلية: وهما وزير الطاقة تانير يلديز ووزير الصحة رجب أكداج. وفي عام 2005، أنشأت الحركة جمعية رجال الأعمال، تومسياد. وفي دليل على نفوذ الجماعة، تفتخر تومسياد بأنها تملك 1500 عضو مسجل، هذا عدا عن انتخاب رئيسها حسن سيرت لعضوية البرلمان في عام 2005ممثلاً عن حزب العدالة والتنمية.[4]
الدولة وأسلمة التعليم:
في هذا السياق، هناك عنصر هام عادة ما كان موضع استخفاف وتمثل في محاولة حكومة أردوغان المستمرة للإصلاح الديني بمؤسسات الإسلام الرسمي في تركيا، وضمان قدر معتبر من التربية الدينية بنظم التعليم. وقد كان لتأثير الطريقة النقشبندية الخالدية على الحزب الحاكم في تركيا أثر كبير في هذا.وسواء في العهد العثماني أو خلال فترة الجمهورية التركية، حرصت الدولة التركية على رئاسة الشؤون الدينية وأولت هذا الأمر أولوية كبيرة. فخلال العهد العثماني، كانت هذه المهمة مشغولة من قبل العلماء التابعين لقيادة شيخ الإسلام. وبعد تأسيس الجمهورية التركية، قامت “رئاسة الشؤون الدينية، Diyanet Işleri Başkanlığı” وتختصر “ديانت” بالوفاء بهذا الدور. في حين لم تكن رئاسة الشؤون الدينية مؤسسة قوية في تركيا -باستثناء الفترة الأخيرة- فإنها تمكنت من إبقاء سيطرتها طويلاً على المجال الديني، حيث ظلت تتحكم في تعيين الأئمة في مختلف مساجد تركيا، عدا عن تعيين من يلقي خطب الجمعة أيضاً. وفرت هذه الإستراتيجية خياراً جيداً لتوفير الاتزان والتسلسل الهرمي داخل الإسلام السني، تسبب هذا النقص في انتشار الفوضى في كثير من الأحيان بين الجماعات الدينية المختلفة في مختلف أنحاء العالم. وفي الوقت الذي كان الشباب المسلم في أوروبا عرضة للتطرف تحت تأثير الأئمة المتطرفين في المساجد، لعبت “ديانت” دوراً مهماً في انخفاض هذه المخاطر بشكل كبير. لكن وكما لاحظنا، عانت “ديانت” من نقص الأعضاء وهو ما أتاح تسلل جماعات دينية مختلفة إليها. وعلى العموم، ساهمت الطبيعة الهرمية للمؤسسة في الحفاظ على الاعتدال من جهة والسيطرة على الدين في تركيا من جهة أخرى، من جهتها حرصت الدولة بشكل متواصل على عدم سيطرة أي من الطوائف الدينية على “ديانت” بشكل كامل.وفي ظل حكم حزب العدالة والتنمية، خضعت “ديانت” لعملية تغيير سريعة. ولعل الطابع الأبرز كان النمو المتسارع للمؤسسة. ففي أقل من عقد من الزمن، تضاعفت ميزانيتها أربع مرات لتصل إلى 2 مليار دولار أمريكي تقريباً، وتوسعت في التوظيف حتى وصل عدد موظفيها إلى حدود 120 ألف شخص، وهو ما جعلها واحدة من أكبر مؤسسات الدولة في تركيا، أكبر من وزارة الداخلية. وفي ظل نمو “ديانت” انخفضت نسبة الموظفين القادمين لها عبر بيروقراطية الحكومة العادية، وبشكل متزايد زاد عدد الموظفين فيها القادمين من مدارس (الإمام – خطيب) وهي المدارس التي أنشئت أصلاً لتوفير القوى العاملة في المساجد التركية عدا عن كليات اللاهوت. وبشكل لا يثير الدهشة كانت الطريقة النقشبندية وفروعها تسير هذه المدارس.استخدمت رئاسة الشؤون الدينية كأداة سياسية أيضاً، فحتى أواخر عام 2010، وفي ظل قيادتها من رئيس علماني التوجه، كانت المؤسسة تقف إلى حد كبير بعيداً عن السياسة. لكن هذا تغير بعد رد رئيس المؤسسة على طلب أردوغان بأن تشارك المؤسسة في العملية التشريعية حين قال رئيسها: ”إن التشاور مع رئاسة الشؤون الدينية فيما يخص التشريعات أمر يعارض العلمانية”.24 حينها، قرر أردوغان تعيين مرشحه المقرب، محمد جورمز، والذي كان أكثر طواعية لرغبات قيادة حزب العدالة والتنمية. ومع نمو حجم “ديانت” أخذ دورها الاجتماعي بالنمو. ففي عام 2011 بدأت بإصدار شهادات الحلال للمنتجات الغذائية. وفي العام التالي قامت بفتح قناة تلفزيونية، وصارت تقدم خدمة لإصدار الفتاوى والاستشارات ودشنت خطاً ساخناً يوفر الإرشاد الديني لكل من يطلبه طوال اليوم.25وزاد عدد الفتاوى بشكل ملحوظ. من الناحية القانونية لا تمثل “ديانت” أي وزن عبر الأحكام التي تصدرها، لكنها بالتأكيد تملك تأثيرها الكبير على الجماهير المحافظة. وفي السنوات الأخيرة، أصبحت مدارس (إمام – خطيب) تحت تأثير مباشر من الرئيس رجب طيب أردوغان عبر وقف الشباب والتعليم في تركيا، الذي يديره ابنه بلال. يستقبل هذا الوقف التبرعات بما فيها منحة تقدر بـ99 مليون دولار. وقد ساهم هذا الوقف في كثير من الأحيان في دعم المؤسسات التعليمية وتوفير مبان وقطع أراض أو تخفيض إيجارها نظير خدمتها للمؤسسة الحكومية التعليمية. وفي عام 2002 كان عدد الطلاب في مدارس إمام – خطيب قرابة 65000 طالب. أما اليوم فإن الرقم يناهز المليون، وتأتي هذه الزيادة الكبيرة بعد التعديلات التشريعية التي تم إقرارها بين أعوام 2010 و2012 وإتاحة إمكانية الانتقال بين المدارس الثانوية العلمانية والمدارس المتوسطة إلى مدارس إمام – خطيب. هذا بالإضافة إلى مساهمة هذه الإصلاحات في زيادة المحتوى الديني في المدارس العلمانية، إذ أضيفت دورات عن التاريخ الإسلامي وحياة الرسول إلى المنهج الدراسي. وفي حين أن بعض هذه الدورات الدينية بقيت اختيارية وغير إلزامية، فمن السهل تصور إقبال الطلاب على هذه المواد ودراستها خارج الجيوب العلمانية في تركيا. خضع الإسلام الرسمي ونظم التعليم في تركيا لتغييرات شملت مرافق كثيرة من المساجد حتى الفصول الدراسية. هذه النظرة التي تمتاز ببعض التقلبات الفقهية، تعتمد بشكل أساسي على تقاليد مناهضة للغرب ومستمدة من الطريقة النقشبندية الخالدية. وبعبارة أخرى، فإن ما يجري الآن عبارة عن إدخال تركيا ونظامها التعليمي في دائرة الطريقة الخالدية، سواء من حيث السيطرة السياسية أو من خلال الأعضاء الملقنين حديثاً. علاوة على ذلك، في ظل حكم العدالة والتنمية، أضحت “ديانت” مؤسسة مسيسة بامتياز، فكثير من خطب المساجد تمجد في حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان. يدرس ما يتراوح بين 10 إلى 15٪ من الطلاب في المرحلة المتوسطة والثانوية في مدارس (إمام – خطيب)، التي تساهم مناهجها فضلاً عن الخطب الرسمية الدينية في وضع معتقدات الطريقة النقشبندية الخالدية .[5]
خلاصة :لقد كتب الله لمعد هذه المادة زيارة تركيا و(Menzil) “المنزل” في بلدة آدييامان، ووقف على طريقة التدريس بها والعلاقة بالشيخ التي تتميز باحترام كبير يصل إلى درجة ” التقديس” وأخذ ” البركة ” والطمع في أن يغفر الله للوفود الزائرة التي تعد بالمئات. حيث بعد كل صلاة يتحلقون حوله بانتظام ويأخذون بخيط يمررونه بينهم ويدونه بأيديهم ويعلنون توبتهم من ذنوبهم والحرص على عدم الرجوع لها، ويؤكدون بيعتهم للشيخ، هكذا في نظام وانتظام جماعات وزمرا. والشيخ رجل هادئ وعليه سمت الصالحين، ويتلقى الأتباع وردا وورقة يتبعون فيها الطريقة بمراحلها: الوضوء والاغتسال وإعلان التوبة بالقلب والاستغفار 25 مرة وقراءة الفاتحة والدعاء مع المشايخ، ورابطة الموت ورابطة الشيخ، ولا يتكلمون بعدها إلا عند حلول صلاة الصبح، ومن أورادهم ذكر اسم الجلالة بالقلب خمسة آلاف مرة بالقلب لا باللسان. وتتميز مدرسة التعليم ببناية راقية ضمت جميع المرافق من مكتبة وقاعة المعلوميات وقاعات الدرس ومسبح وقاعة للعروض وساحات للرياضة، وتعليم يركز على المتون والاهتمام بحفظها وتدارسها، والتعلم الذاتي والجماعي، في نظام وانتظام، مع الحرص على الصلاة في وقتها، وعدم تضييع الأوقات، مدة التدريس تصل إلى تسع سنوات من التعليم الجاد. ومهما اختلف الناس أو اتفقوا مع الشيخ وطريقته يبقى العمل الذي تقوم به ” المنازل” مدرسة في التكوين والتاطير والبعث الإسلامي في منطقة الأكراد وغيرها من التراب التركي، حيث مر هذا البلد بمحاولة تجفيف منابع التدين فيه منذ سقوط الخلافة العثمانية وظهور كمال أتاتورك الذي عمل على إزالة كل مظاهر التدين باسطنبول حيث منع الآذان، واللغة العربية وحارب اللباس الشرعي وغيرها، لكنه واجه عملا جبارا قام به سعيد النورسي وغيره من المشايخ مما سمح لتركيا بإعادة أمجادها وإحياء تراثها وقيمها الحضارية ، وارتقت بذلك الدرجات العلى سواء على مستوى تدين الأفراد والجماعات، كما حققت مستوى عال من التنمية وتسلقت في سلم الدول المتقدمة.
=======================
[1] ــ انظر الدراسة التي أعدّها الباحث ومدير قسم التحرير في المركز العربي “عماد قدورة”.
[2] ــ الجزيرة نيت
[3] ــ أحمد الملاح كاتب وباحث عراقي
[4] ــ Yalçın Bayer, “MHP’yi Baraj altından Sÿleymancılar mı kurtardı?” Hürriyet, June 15, 2011. نقلا عن تقرير معهد هودسون
[5] ــ سفانتي كورنيل: مدير مركز آسيا الوسطى والقوقاز ومشرف برنامج طريق الحرير ،وأم كي كايا: باحث زائر في مركز آسيا الوسطى والقوقاز وبرنامج طريق الحرير ( تقرير هوديسن )