بقلم الدكتور عثمان كضوار ” باحث في الفكر الإسلامي ومقاصد الشريعة-
تولي المجتمعات الإسلامية عناية خاصة لشهر رمضان كشعيرة من الشعائر التعبدية التي تؤشر على خصوصية المسلم في علاقته بربه، وقد تساءلت أكثر من مرة عن سر الاهتمام بهذا الشهر الفاضل، فقد تجد من يصوم دون أن يصلي بله عن هدره لمبادئ أخرى لا تقل أهمية عن شهر رمضان، هل حب المسلم لهذا الشهر العظيم نابع من قناعة دينية؟ أم بسبب سلطة المجتمع والعرف السائد؟ بعبارة أوضح: أيليق بنا أن نكون مجرد رمضانيين؟ هل العبادة تختص بأوقات دون أخرى من حيث عائدها النفعي على المكلفين من المسلمين؟ هل المسلم مطالب بأن يتاجر مع الله بلغة الأرقام؟كما يفعل البعض في إقامته ليلة القدر باعتبارها ” خير من ألف شهر”.
قد يبدو عدم الأحقية الشرعية في طرح مثل هذه التساؤلات، بينما الشارع أتاح لنا المساحة الشاسعة للتساؤل الموصل إلى مقصدية التكاليف الشرعية، وأبان عن الكيفية الحقة للعبادة المحققة للاستخلاف في الأرض من جهة، والمؤدية إلى الغاية من كل مقصد تعبدي، وإلا ماكان الشارع سبحانه يدعونا في أكثر من مناسبة إلى التدبر والتفكر وإعمال النظر في كلامه حتى لا نضل ونضل.
إن ما يمكن تسجيله من خلال وضع المسلمين في علاقتهم بشهر رمضان أن مفهوم العبادة عند شريحة منهم لايزال مبهما وقاصرا، وذلك بسبب اعتبارات معرفية مبنية على مغالطات، وقد تكون اعتبارات سوسيولوجية مرتبطة بما يسمى ب “إسلام الدار” بحيث يرتبط بواقع المجتمع الذي يعيشه والعرف السائد بداخله، ولذلك قد نجد من يقتصر في صيامه الكف عن الأكل والشرب لايزيد عن ذلك، وهو فهم يضيق من شعيرة الصيام بقدر تضييقه على العبادة بمفهومها العام.
وهناك صنف من يرى في رمضان من خلال ليلة القدر فرصة لادخار ثلات وثمانين سنة من العبادة ولاحاجة له في العبادة بعد انصرام شهر رمضان.
وبالعودة إلى آية الصيام “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” – البقرة 189- فإن المقصد تحقيق التقوى، والتقوى كلمة تستوعب جميع مقاصد الشعائر التعبدية تتمثل في أن يجدك الله حيث أراد ويفتقدك في الأماكن حيث نهاك، فيتحقق بذلك حبك لله من الناحية القلبية والسلوكية، وهو ماعبر عنه علي رضي الله بقوله ” الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل “- سبل الهدى والرشاد للصالحي تلميذ السيوطي رحمهما الله 1 / 421- ، وقد قال رجل لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ما التقوى؟ قال: أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم. قال: كيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه. قال: ذاك التقوى. -رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى-.
وعليه، فإن شهر الصيام إنما هو محطة يتزود بها المرء ليحقق معنى التقوى في نفسه حتى يلقى الله، فمفهوم التقوى يتسع ليشمل كل عبادة وكل وقت مخصوص للعبادة ولغيرها “قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ” – الأنعام 162- فما شهر رمضان إلا فرصة ولحظة تأمل مع الذات ومراجعة رصيدها التعبدي، ومساءلتها لأجل استئناف حياة تعبدية بنفس عميق.
وبالعودة إلى الحديث القدسي الموضح لكيفية الصيام وبيان فضله، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه) رواه البخاري ومسلم.
الملاحظ أن الحديث ذكر مرة لفظة الصيام وتارة لفظة الصوم، والصيام غير الصوم، فالصوم الكف عن الكلام، والمقصود هنا كلام اللغو وما لاطائل من ورائه سوى تحصيل الذنوب والمعاصي، أما الصيام فالكف عن الأكل والشرب ومايندرج تحتهما، فلا يتحقق القبول إلا بتحقيق الصوم والصيام، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم (من لم يدع قول الزرو والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه ” رواه البخاري، ولايليق أن يترك قول الزور وغيره فقط في شهر رمضان، بل المقصود أن يألف المرء ترك قول الزور والعمل به في رمضان وفي غير رمضان، فالصوم بمعنى الكف عن الأقوال الفاسدة من شهادة شهادة زور وغيبة ونميمة… تلزم المكلف في كل لحظة وحين، وإنما يشتد الحرص على تركها في شهر رمضان.
أما خيرية ليلة القدر عن ألف شهر فذلك محل خلاف الفهم عند العديد من المسلمين، بل عند بعض المفسرين، فهناك من يعتبر أن العدد في الآية لا مفهوم له، وإنما قُصد به التكثير، بدليل أنه تعالى قال: خير من ألف شهر، ولم يقل كألف شهر، وهناك من يرى أن من الأعمال خارج دائرة قيام ليلة القدر ما يفضل عنها معتمدا على نصوص حديثية من ذلك:
الحديث الأول: – عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أنَّه كان في الرِّباط ففزعوا إلى السَّاحل، ثم قيل.. لا بأس، فانصرف النَّاس وأبو هريرة واقف، فمرَّ به إنسانٌ فقال: ما يُوقِفُك يا أبا هريرة؟! فقال: سمعتٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “موقِفٌ ساعةٍ في سبيل الله خيرٌ من قيام ليلة القدر عند الحجرِ الأسود”. أخرجه ابن حبان، والبيهقي، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
الحديث الثاني: -عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِلَيْلَةٍ أَفْضَلَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؟ حَارِسٌ حَرَسَ فِي أَرْضِ خَوْفٍ، لَعَلَّهُ أَنْ لَا يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ» أخرجه البيهقي، والحاكم، والنسائي، وصححه الألباني.
والحديثان الشريفان يضعان الأعمال النفعية الاجتماعية المجتمعية في موطن أغلبية قيام ليلة القدر التي تنفع الفرد وحده في علاقته الروحية بالله سبحانه، فخيرية ليلة القدر إنما تتحقق بمدى تفعيلها بما ينفع الأمة الإسلامية من خلال أفرادها الصالحين، فلا أرى تعارضا بين الحديثين وما ذكر عن خيرية ليلة القدر، لكن الفهم القاصر لدى العديد يحول دون تحقيق المقصود بين إحياء ليلة القدر وتحقيق أثرها بعد خروج وقتها لما يأتي من قادم الأيام التعبدية.
نحن في حاجة إلى ضبط المفاهيم وضبط المقاصد التعبدية من خلالها، عمارة الأرض تستوجب ربط خيوط شهر رمضان بما بعده من الأشهر وبما قبله، لنكون ربانيين من خلال رمضان، لا أن نكون ربانيين فقط في شهر رمضان.