الدكتور محمد عز الدين توفيق / سلسلة تبصرة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال” قال النبي صلى الله عليه وسلم :” إذا مات ابن ادم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له” رواه مسلم، أيها الإخوة الكرام:
هذا الحديث الشريف يفيدنا بمجموعة من الحقائق:
الأولى : أننا سنموت، فالموت آت لا ريب فيه وهو قريب، أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، وعندما ينزل بساحته سينقطع عمله ويتوقف.
الحقيقة الثانية : أن هذه الدنيا هي دار العمل ليس للعمل دار أخرى غيرها، وأن الأخرى دار الجزاء والمكافآت.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
الحقيقة الثالثة : أن هناك فئة من الناس يموتون كما يموت الناس ومع ذلك لا تنقطع أعمالهم، فهم في المقابر مع الموتى، لكنهم يختلفون عنهم أن ثواب أعمال تصل إليهم وتنضاف إلى صحائفهم، لقد رقدوا مع الموتى في المقابر وسلموا أجسادهم لربهم، ولكنهم يختلفون عنهم أن أعمالا بعينها قدموها بين أيديهم فهي تدر عليهم الأجر وهم في القبور.
الحقيقة الرابعة : أن هذا الحديث سمى ثلاثة أنواع من الأعمال يستمر وصول ثوابها إلى العبد بعد موته، فسمى الصدقة الجارية والعلم المنتفع به والولد الصالح يدعو له، وهذه الثلاثة أجناس أعمال بينها فرق ويجمعها الوصف المشترك المتقدم، فأولها الصدقة الجارية وتختلف عن الصدقة العادية في كونها تستمر بالنفع في حياة صاحبها وبعد مماته، ومن أمثلتها :
1- بناء المساجد، وقد تصدرت المساجد لائحة الصدقة الجارية لأن وظائفها عظيمة وكثيرة، أوصلها بعض العلماء إلى أكثر من أربعين وظيفة. فهي للصلوات وهي للجمعات وهي لتعليم العلم وهي لتحفيظ القرآن وهي للقضاء والفتيا وهي للتمريض والعلاج وهي لجمع الصدقات وتوزيع الزكوات وهي لإصلاح ذات البين وهي لإشاعة المحبة بين المؤمنين وهي لاستضافة الغرباء وإيواء الفقراء إلى غير ذلك من الوظائف الجليلة…
وليس غريبا أن يجري التنافس على هذا النوع الأول وأن يستأثر بأكثر اهتمام المسلمين عبر العصور.
2- بناء المنازل والبيوت، فأحيانا يبني المسلم بيتا ويغفل أنه صدقة جارية، فهو صدقة جارية إذا صحت فيه النية، إذا كان هذا المنزل عامرا بالعلم والعبادة فهو لصاحبه صدقة جارية مادام الناس يؤوون إليه ويسكنون فيه ويستظلون بظله، له ولأهله ولأولاده ولأحفاده ولمن سكنه من الناس، ولا يخفى أن المنزل قد اضطلع بالمهام الدعوية في مكة قبل أن تنتقل تلك المهام إلى المسجد بعد الهجرة، وحتى بعد أن صارت كثير من الأعمال تتم في المسجد لم يفقد البيت دوره الدعوي والتربوي، ولذلك فبناء المسلم للبيت من أفضل الصدقات الجارية.
3- فتح مقرات للدعوة، فهذه المقرات متعددة الاختصاصات، فهي تجري فيها أنواع من الخير ويضم كل منها مرافقا: من مسجد أو مكتبة أو فصول للدراسة أو قاعات للمحاضرات…فهي من الصدقة الجارية، هي لمن بناها أو ساهم في بنائها وشرائها أو في عمارتها وتسييرها.
4- تشييد المدارس والمعاهد والجامعات، ودور القرآن والحديث، وسواء كانت تدرس علوم الدين أو علوم الدنيا مما يحتاج إليه المسلمون ويسهم في تعليم أبنائهم وإعدادهم للاندماج في المجتمع فهو من الصدقة الجارية.
5- غرس الأشجار وحفر الآبار، ويدخل في هذا الباب شق السواقي ومد الجداول وإيصال الماء وتخزينه وتوزيعه للشرب والسقي وإنشاء الحدائق والغابات والمحميات وتشجير الشوارع والساحات إلى غير ذلك.
6- بناء المشافي والملاجئ والمركبات الخيرية لإيواء المرضى والعجزة والأيتام والفقراء والغرباء والمشردين والطلاب وغيرهم.
7- وقف الأرض لدفن المسلمين، فهذه المقابر هي للأموات مسكن وهي للأحياء عبرة وذكرى، فما أكثر ما يجري بسببها من توبة ورجوع الى الاستقامة والصلاح.
وعندما نتأمل نجد أن هذه الصدقات الجارية على قسمين :
إما أن تكون هي المشروع نفسه مسجدا أو منزلا أو معهدا أو بئرا أو شجرا، وإما أن تكون للإنفاق عليه كالعقار أو المتجر أو القيسارية أو عمارات، وهذا فتح بابا واسعا لتعاون المسلمين، بل لتعاون الأجيال.. فمن ليس بإمكانه تأسيس المشروع فإن بإمكانه أن يسهم في استمراره حتى يؤدي دوره، ولذلك أوجدت الأوقاف لتمويل المساجد والمدارس والمشافي والمقابر وغيرها، وحتى يجد كل مسلم مكانا.
وحتى يسهم في نوع من هذه الصدقات، فإنها توزعت على جميع مجالات الدعوة، وهكذا يجد الذي يشتغل بالعمل السياسي والنقابي مكانه، والذي يشتغل بالعمل الصحفي والإعلامي مكانه، والذي يشتغل بالعمل الاقتصادي والمالي مكانه، وليس الأمر مقصورا على الذي يشتغل في المجال الاجتماعي والخيري وحده، وعلى سبيل المثال فإن الذي يشتغل بالعمل السياسي تتاح له فرصة بالقرارات وبالقوانين التي تخرج كثيرا من الصدقات الجارية إلى الوجود، أو ترفع عنها الموانع، أو تيسر إنجازها بدون عراقيل، أو تجري حمايتها بعد قيامها حتى لا تصادر وطنيا وجهويا ومحليا، كما تسهم هذه القرارات بقيام أهل الخير بهذه الصدقات والتنافس عليها، و رب قرار واحد كان سببا لآلاف الصدقات الجارية إنجازا أو حماية.
وهذه الصدقات الجارية إما أن تأتي أو تؤتى، فأحيانا يدعى المسلم للمساهمة في صدقة جارية، وأحيانا هو الذي يطلبها ويبحث عنها ويسعى إليها، وأحيانا لا يستطيع أن يقوم بكل الصدقات الجارية التي تعرض له، ففي هذه الحالة عليه أن يعمل فقه الأولويات للترجيح بينها،و بين أقلها وجودا وأشدها حاجة.
عندما تأتي الصدقة الجارية حتى تطرق بابك فعليك أن تفتح لها بسرعة فإنك إذا تأخرت وترددت ذهبت إلى غيرك، لكنك لا تنتظر هذا النوع وحده بل أنت أيضا تبحث وتطلب هذه الصدقة الجارية.
إن الصدقات الجارية مجال للإبداع ومجال للابتكار فإنها تبدأ في أول الأمر أفكارا، والذي يوفق في الإتيان بما ليس بمسبوق يكون أجره أعظم ويقتدي به الآخرون، فتلد صدقته الجارية صدقات جارية كثيرة.
وعندما نستعرض تاريخ المسلمين في هذا المجال نجدهم أنهم ابتكروا وأبدعوا وتفننوا، وبالتأكيد فإنهم لم يستنفذوا كل الأنواع، وبإمكان من بعدهم أن يبدعوا أو يبتكروا.
قد لا يتمكن المسلم من إنجاز صدقة جارية بمفرده ولذلك جاء في الإسلام التعاون عليها، فصاحب الفكرة والذي يمولها والذي ينجزها والذي يسهر على تسييرها والذي يحافظ عليها، فالصدقة الجارية فتحت للمسلمين مجالين : مجال للتراحم والتضامن والأريحية وإظهار أخلاق البذل والعطاء،،
وأيضا فتحت لهم مجالا للتعاون على العبادة والدعوة والتعاون على الخير.