بقلم: د. احميده النيفر
أستاذ التعليم العالي بجامعة الزيتونة، تونس(2014-05-20)
أولا: السند الفكري للاتجاه المقاصدي في العصر الحديث:
ليس من المبالغة اعتبار أنّ من أبرز العوامل الفكرية لاستئناف القول بالمصالح والمقاصد في العصر الحديث يرجع أوّلا إلى عبد الرحمن ابن خلدون(توفي 808ﻫ/1406م). إليه يعود الفضل في إعادة الاعتبار إلى وجود أسباب للتمدن وقوانين له تلتئم لتكوين نظرية في المجتمع. هذا التوجّه الخلدوني استطاع أن يركّب برؤية تاريخية جانبين أساسيين: من جهة مسألة السنن الاجتماعية المنصوص عليها في القرآن الكريم المؤكدة على الترابط بين معلول وعلّة وبين سبب ومسبَّب ومن جهة أخرى المقولة الأصولية المعتمدة في مبحث دوران المعلول مع العلّة وجودا وعدما.
إلى هذا السند الفكري ارتكنت المدرسة الإصلاحية مع الإمام محمد عبده مشرقا ومغربا لتساير الخطى الخلدونية في سياقها النقدي للفكر السابق لها، ولما أنتجه ذلك الفكر من معارف وما اعتاده من طرق ومناهج.
على ذلك، يمكن اعتبار صاحب “المقدمة” المجدد الفكري لمقولة المقاصد ومنطقها، وذلك قبل أن يقع تداول موافقات الشاطبي المعاصر لابن خلدون بين أيدي رجال المدرسة الإصلاحية. انتهت هذه المدرسة بتمثّلها المنهج الخلدوني وبمراجعتها لواقع المسلمين المعرفي والحضاري إلى اعتراف واعٍ بتأخر العالم الإسلامي السياسي والتنظيمي. إلى جانب ذلك كان إدراكها لعجز البنية الثقافية الخاصة عن مواجهة اللحظة التاريخية عاملا حاسما وأداة فاعلة في إعادة الاعتبار لمقولة الشاطبي الأندلسي (توفي 790ﻫ/1388م) في المقاصد.
كانت حصيلة هذا كلّه لدى الإصلاحيين بمختلف اهتماماتهم الإقرار الفكري بأن للإنسان استعدادا للوصول إلى الحقائق عن طريق الدليل المستقرئ للنصوص التأسيسية.
هذه الأرضية النظرية أفضت إلى طرح فكريّ يشرّع للفقه المقاصدي وذلك بالتركيز على غاية مشتركة هي إعادة صياغة العقل المسلم لتأهيله لِما حفلت به أدبيات الإصلاح من ضرورة مراعاة روح الزمان وطبعه و اعتمده من قبلُ صاحب المقدمة في حديثه عن “تقلب الأحوال والأعصار” .
لكن هذا التشكّل المعرفي بعنصريه؛ الخلدوني والإصلاحي ما كان له أن يصبح عاملا منتجا لمعرفة جديدة لولا الشرط الاجتماعي والمادي الذي جعل إعادة النظر في البناء الأصولي أمرا متأكدا لا مناص منه. لقد بلغت الفجوة بين الواقع الموضوعي لبعض المجتمعات الإسلامية وبين البنية الفقهية والآليات الأصولية المعتمدة حدّا من التباعد لا تتأتّى معالجته إلا بالنظر في ضرورة إنتاج أصولي جديد في وجهته ومنهجه وصياغته. من هذه الناحية كان السعي إلى بناء أصولي تجديدي تعبيرا عن وعي حقيقي بمخاطر أزمة اجتماعية سياسية يمكن أن تصبح مدمّرة نتيجة الهيمنة والتغلغل الاستعماريين في مؤسسات المجتمع والدولة. تلك كانت وضعية المغرب الإسلامي في زمن ابن عاشور والفاسي.
لذلك غدا التوجه المقاصدي بالنسبة إلى تلك النخب الإصلاحية أشبه بالترياق المستمد من القدرات الكامنة في التراث والفكر الذاتيين. كان قصدها حقن جهاز المناعة وعلاج خلله بما يتيح استنباط الأحكام من الكليات الشرعية لمواجهة الوقائع المستجدة. بهذا يكون القول بالمقاصد مراجعة لبنية التفكير الفقهي بهدف بناء سلطة منهجية جديدة تأكيدا للذات ومصالحةً للمجتمع مع نفسه ومع عصره.
في ضوء هذا الطرح يكون تناولنا للجهود العلمية التي بذلها العلمان البارزان المغاربيان في العصر الحديث. كانا وهما يعملان كلٌٌّ من موقعه في مجالات الفكر والإصلاح ملتقيان في ضرورة تقليب النظر و تفصيل القول في قاعدة “درء المفاسد وجلب المصالح”.
كان ابن عاشور والفاسي ممن يصدق عليهما قولة الشاطبي في خصوص تحديد مَن يتجه إليه بمشروعه التجديدي. كان كلا الرجلين “ريّانا من علوم الشريعة، أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب”.
ثانيا: ابن عاشور والفاسي: التكامل الإصلاحي:
عندما نشر محمد الطاهر ابن عاشور (1296-1393ﻫ/1879- 1973م) كتابه “مقاصد الشريعة الإسلامية” سنة 1947 كان قد قارب السبعين من عمره. كان قد تقلّب في مناصب تعليمية مختلفة، وباشر الخطط الشرعية؛ كالقضاء والفتيا، وألّف جملة من الآثار المطبوعة والمخطوطة التي تناولت أبرز المجالات العلمية الشرعية. [اهتم بقضايا تفسير القرآن (التحرير والتنوير) والحديث (كشف المغطى في أحاديث الموطأ) الفقه وأصوله والسياسة الشرعية (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام – الوقف وآثاره في الإسلام- التوضيح والتصحيح في أصول الفقه- نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم) هذا إلى جانب قضايا الإصلاح (أليس الصبح بقريب) مع اهتمام خاص باللغة العربية وآدابها: موجز البلاغة- تحقيق ديوان بشار بن برد- شرح معلّقة امرئ القيس- الواضح في شرح مشكلات المتنبي].
في الطرف الأقصى من المغرب العربي كان علال الفاسي (1910-1974) المنحدر من أصول أندلسية، الناشئ في عائلة علم وتفقه مثل ابن عاشور لكن الأصغر منه سنّا قد ألف هو الآخر كتابا في “مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها” فرغ من تأليفه سنة 1963. تكشف سيرة الفاسي وآثاره العلمية والفكرية عن اهتمام بالمسائل الشرعية، مع عناية مؤكّدة بالمسائل السياسية المحليّة التي واجهت بلاده فترةَ الاستعمار الفرنسي (1912-1956) من ثم تراوحت آثاره بين محور القضايا العلمية الشرعية من منظور إصلاحي [دفاع عن الشريعة، نضالية الإمام مالك ورجال مذهبه، الجواب الصحيح والنصح الخالص في نازلة فاس وما يتعلق بمبدأ الشهور الإسلامية العربية، لفظ العبادة: هل يصح إطلاقه لغير الله؟ تاريخ التشريع الإسلامي، شرح مدونة الأحوال الشخصية] ومحور النضال السياسي والوعي الوطني [النقد الذاتي، الحماية في مراكش من الوجهتين التاريخية والقانونية الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، السياسة البربرية في المغرب، في المذاهب الاقتصادية، الإسلام وتحديات العصر، بحث مفصل عن النظريات الفلسفية المختلفة ومقابلتها بالحرية الإسلامية، هل الإنسان في حاجة إلى الفلسفة؟].
من هذه الناحية يمكن أن نلاحظ أن جانبَ الاتفاق بين عالمين متعاصرين ومعاصرين، عالج كل منهما قضية المقاصد بصورة مستقلّة في العصر الحديث، لا ينبغي أن يخفي عنا خصوصيات هامة نشير إليها في ثنايا هذا البحث. هذه الخصوصيات رغم دقّتها فإنها مفيدة؛ لأنها تكشف ملامح تميّز شخصية الرجلين، ومفاصل فكرهما إلى جانب ما تشيان به من خصوصيات الأرضية الفكرية والإصلاحية في القطرين المغاربيين في القرن المنصرم.
أول ما يمكن أن نبرزه في هذه المقارنة الأوليّة هو أن ابن عاشور ظل رجل علم بامتياز. واجه في حياته المديدة مصاعب كبرى كانت بعضها سياسية والأخرى اجتماعية سببت له متاعب مهنية وشخصية جمّة. لكنه كان رغم توليه أعلى المناصب التعليمية [التدريس بالجامع الأعظم وعضوية النظارة العلمية سنة 1907، وإدارة مشيخة الجامع الأعظم في سنة 1932 ثم سنة 1945، وعميدا للجامعة الزيتونية سنة 1956] والإدارية [حاكما بالمجلس المختلط سنة 1909، وقاضيا مالكيا سنة 1913، وشيخ الإسلام المالكي سنة 1932] شديد التمسّك باستقلاليته الفكرية وقدر من الحرص على حياد سياسي صعب. ذلك ما أتاح له درجة التميّز فيما انكب عليه من المباحث العلمية أعانه عليه نضج فكري واتضاح في الرؤية الحضارية سمح بهما وسطه العائلي وحركة فكرية متصاعدة للنخب التونسية منذ المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر. هذا التميّز النخبوي كان قد انتبه إليه الإمام محمد عبده إثر زيارته الأولى إلى تونس سنة 1884 فسجله في مراسلته مع السيد جمال الدين ثم واصل علاقته به بعد ذلك حتى زيارته الثانية سنة 1903.
علال الفاسي من جهته، كان أيضا ملتزما بالمطلب الإصلاحي الذي عبّر عنه في آثاره المختلفة، والذي ساهمت فيه علاقته برجال الإصلاح من أمثال شكيب أرسلان، لكن السياق السياسي الاجتماعي في المغرب كان أشد تأثيرا على فكره وحركته. ما تؤدي إليه قراءة سيرته الذاتية والاطلاع على أهمّ أعماله تؤكد أن مدخله إلى معالجة القضايا العلمية الشرعية كانت مختلفة إلى حد كبير مع المدخل الذي اعتمده ابن عاشور.
كانت أعمال الفاسي عموما ممهورة بطابع تاريخي فكري يميل إلى بحث المسائل المدروسة في مستواها التطبيقي أكثر من الحرص على المستوى التنظيري. قد يكون في هذا ما يفسر أنّه، رغم شديد اتصاله برجال الإصلاح في تونس، لم يشر في كتابه عن المقاصد إلى كتاب ابن عاشور الذي سبقه في الظهور بسنوات عديدة.
من المفيد هنا أن نذكّر أن التحديات السياسية كانت أشدَّ في المغرب على الوجهة الإصلاحية مما عرفته النخب التونسية. الظهير البربري مثلا الصادر سنة (1340ﻫ/1930م) كان يطبق تمييزا إداريا وسياسيا بين العرب والبربر. هذا القانون الذي قاومه الفاسي لا يمكن أن يقارن من حيث الخطورة بقانون التجنيس في تونس والصادر سنة (1333ﻫ/1923م) الذي اقتصر على تشجيع بعض التونسيين على التجنّس بالجنسية الفرنسية.
يضاف إلى ذلك أن قوى الجمود والتقليد الداخليين في المؤسسات التعليمية والاجتماعية كانت هي الأخرى أبلغ فاعلية في السياق المغربي مما كانت عليه في الوضع التونسي زمن الفاسي وابن عاشور.
هذا ما يتيح القول إن اهتمامات العالمين متّحدتان في الرؤية الإصلاحية مختلفتان في طبيعة المعالجة ومجالاتها ومنهجها. هي عند الفاسي وابن عاشور متفقة من حيث ضرورة إعادة بناء المنظومة الثقافية للمجتمع بما يجعلها في مستوى التفاعل مع الحضارة الصاعدة. لكنّها تعتني بالحراك الفكري والسياسي الاجتماعي أساسا عند الفاسي في حين تقتضي عند ابن عاشور جهدا تأصيليا لتجاوز تعطّل البناء الفكري الفقهي والأصولي الذاتيين. يتضح هذا الاختلاف في استبعاد الفاسي العمل من أجل إصلاح المؤسسة التعليمية للقرويين التي عرفها طالبا ثم مدرسا وإقبال ابن عاشور الدائب على تغيير مناهج التعليم في المؤسسة الزيتونية العتيقة.
مع ذلك، فإن الرجلين عملا كلاهما للإجابة على التحديات الأوروبية في الفكر والعلم والواقع كل حسب مقتضيات واقعه و حسب إمكاناته الشخصيّة.
من هنا جاءت أعمالهما أقرب إلى التكامل في معالجتهما الإصلاحية، وأوضح في التدليل على أن المجتمعات العربية المسلمة ظلت في القرن الماضي “مجتمعات نخب” ليس للجمهور الواسع فيها أثر يُذكر في ضبط التوجّهات ونحت الآفاق.
ثالثا: بين اعتبار للآخر وأزمة أصول الفقه:
إذا أردنا مزيدا من تحديد الخصوصية لدى العالمين كان لزاما النظر إلى كتابيهما اللذين بنيا فيهما اتجاههما المقاصدي مع متابعة جزئية لبعض ما ألفه كل منهما في آثاره الأخرى.
من جهة ابن عاشور نجد أنّه يؤسس مقاصديته على قاعدة لازمته منذ كتاباته الأولى. إنها ذات الرؤية الإصلاحية التي تنضوي فيها أعمال الشيخ منذ أن أدرك من أوّل شبابه “أن العلم ليس رموزا تحلّ ولا كلمات تحفظ ولا انقباضا وتكلّفا ولكنه نور العقل واعتداله… فالعلوم تخدم غرضين: ارتقاء العقل لإدراك الحقائق واقتدار صاحبه على إفادة غيره”. ذلك كان بعض ما سطّره في شبابه سنة 1910 في كتابه “أليس الصبح بقريب”.
تلك غاية العلم، أمّا الإشكالية التي تبحث المسائل العلمية في ضوئها فهي لا تقلّ وضوحا عند صاحب التحرير والتنوير ضبطها في تفسيره حين قال: “ولقد رأيت الناس حول كلام الأقدمين أحد رجلين: رجل معتكف فيما شاده الأقدمون، وآخر آخذ بمعوله فيهدم ما مضت عليه القرون، وفي كلتا الحالتين ضر كثير، وهنالك حالة أخرى ينجبر بها الجناح الكسير، وهي أن نعمد إلى ما أشاده الأقدمون فنهذبه ونزيده، وحاشا أن ننقصه أو نبيده، علماً بأن غَمط فضلهم كفران للنعمة، وجحد مزايا سلفها ليس من حميد خصال الأمة.”
بناء على تلك الغاية وهذا المنهج يمكن أن نقول إن التوجّه المقاصدي عند ابن عاشور هو تأسيس للغايات المصلحية المقصودة من تشريع الأحكام. القصدُ من هذا التأسيس ردم الفجوة بين أحكام الفقه الإسلامي وما انساقت إليه أحوال المسلمين من ارتهان إلى القوانين الوضعية. هو، إذن، عمل من أجل انبعاث معرفي وفكري يمكّن المؤسسات التعليمية والاجتماعية التقليدية من أن تستعيد مصداقيتها وراهنيتها.
ومن ثم كان توجه ابن عاشور محددا وقائما على ثلاثة أركان:
1. اعتراف بالمأزق المنهجي لأصول الفقه.
2. عمل من أجل ضرورة القطع مع آليات القياس الفقهي الجزئي.
3. اعتماده في استنباط الأحكام على قواعد مقاصدية لا تقتصر على الدلالات اللغوية فقط.
بناء على هذه الأركان سعى ابن عاشور إلى التأكيد على أهمية وضع قواعد منهجية جديدة ترتبط بخطاب الشريعة لتحقيق ما عجز عنه أصول الفقه من تضييق الخلاف والوفاء بحاجة المسلمين فيما يجدّ من النوازل.
يقول في مطلع تأليفه مبينا الحاجة إلى علم جديد: ما دعاني إلى صرف الهمّة إليه ما رأيت من عسر الاحتجاج بين المختلفين في مسائل الشريعة؛ إذ كانوا لا ينتمون في حجاجهم إلى أدلة ضرورية أو قريبة منها يذعن إليها المكابر كما ينتهي أهل العلوم العقلية في حجاجهم المنطقي إلى الأدلة الضروريات فينقطع بين جميع الحجاج.
تلك هي الأزمة التي آل إليها علم أصول الفقه الذي أسّس الاختلاف بين الفقهاء ورسّخه مما آل إلى توسيع شقة الخلاف المذهبي. لذلك باتت الحاجة أكيدة عند ابن عاشور للقول بعلم منفصل للمقاصد يتم فيه تحديد ضوابط تعتبر المعاني والدلالات المقصودة من خطاب الشريعة.
أما إذا نظرنا من جهة الفاسي في كتابه “مقاصد الشريعة ومكارمها” الذي ألّفه بعد ابن عاشور بأكثر من خمسة عشر سنة فإنّ الأمر يقتصر عنده على دعوة مقاصدية يعتبرها تواصلا مع جهود سبقت وتعبيدًا لسبيل من سيليه من الباحثين، يقول: “زدتُ فيه لبنة على من سبقني وفتحت آفاقا لمن يريد أن يعمل بعدي”.
يعتمد الفاسي لتأكيد مشروعية المقاصد على اعتبارات ثلاثة:
1. أن أحكام الشريعة الإسلامية معللة كلُّها ما عدا التعبدي منها يقول: “إن الله لا يفعل إلاّ ما تقتضيه الحكمة المودعة في نواميسه الكونية التي جعلها هو على ما هي ما عليه.”
2. أنّه لابد من إحياء العقيدة وإعادة دور الاجتهاد ذلك “أن الفكر الديني في الإسلام معناه الحرية الكاملة”.
3. أن خصوصية المجتمعات الإسلامية (والمجتمع المغربي بصورة خاصة) ذات طبيعة دينية بالأساس، فلا سبيل لقيامها إلاّ ببعث ديني يطوّر الفهم ويحقق معاني العقل والحرية والعدل.
واضح أن هذه الاعتبارات تختلف نوعيا عمّا اعتمده ابن عاشور في تأسيسه للقول باتجاه مقاصدي. فبقدر ما كان هذا الأخير متمثّلا للتساؤلات المعرفية الشرعية، والعمل على تقعيد نظري بديل من أجل تموقع للمؤسسات العلمية في العصر بقدر ما كان الفاسي في دعوته المقاصدية عاملا على المحافظة على الدين من الأخطار المحدقة به باعتماد العمل السياسي وسيلة لتحقيق تلك الغاية.
في كتابه “النقد الذاتي” يساعدنا علاّل الفاسي على مزيد التمعّن في توجهه الإصلاحي حين يعتبر أن للمغرب رسالةً خاصة تتمثل في ضرورة الاستقلال المدخلِ الضروري لإحياء الماضي. في هذا الكتاب، الذي كان بحق، رسما بيانيا للبناء التصوّري الذي انبجس منه فكر الفاسي الإصلاحي.
ما يلفت النظر في “النقد الذاتي” أنّه ونظيره، كتاب “أليس الصبح بقريب” لابن عاشور، كلاهما كشاّف لرؤية صاحبه الإصلاحية ومرجعيته في اتجاهه المقاصدي.
في “النقد الذاتي” يعتني الفاسي عناية خاصة بالتربية والتعليم باعتبارهما أساس كل إصلاح مع التأكيد أن أساس التعليم هو “العلم المصحوب بالعقيدة والخلق المتين”؛ لأنهما خير ضمان لكل ما يسعى إليه الإنسان. يضيف إلى ذلك ما يسميه “خلق المواطنة” وضرورة الاهتمام بالذكور والإناث والأثرياء والفقراء.
ما ينبغي أن ننتهي إليه هو أن نقطتي الارتكاز لدى الفاسي هما:
1. بناء “أرستقراطية فكرية”؛ لأن المفكرين هم رسل الفكر للناس محيلا على قولة فولتير: “إذا أردت إنهاض شعب فعلمه كيف يفكر.”
2. اعتماد نظرة شمولية للمسائل الوطنية والفكرية منتقدا ما يسميه تفكير القرية المقتصر على المحيط الصغير. لذلك فهو لا يخفي أن الإصلاح عنده يعمل من أجل مشروع سياسي معارض للرأسمالية لغياب البعد الأخلاقي فيها ومناهض للشيوعية؛ لأنها نظام كهنوتي حرّم النظر في غير المذهب.
العبارتان المفتاحان عند الفاسي هما: العلم والآخر.
العلم؛ لأن “جوهر الفكر الإسلامي هو الثورة على المجتمع الفاسد، وتحرير العقل من سيطرة أي طغيان” (ص 124). هذا ما يبيّنه في جداله مع الماديين واللائكيين من احترام الإسلام للعقل والحرية وحثه على العلم؛ “لأن الفكر الديني في الإسلام معناه الحرية الكاملة”.
أمّا الآخر فلأن الفاسي، شأنه شأن كل الإصلاحيين في القرن الماضي، يعترف بالآخر أداةً ضرورية للوعي بالذات. ما نقرأه عن الحرية الفكرية وما أكد عليه الفاسي خاصة وابن عاشور في نفس الموضوع، كلّ ذلك يؤكد أن “الآخر” عنصر أساسي في الوعي بالتأخّر ممّا يجيز القول إن تحديد المرجعية الفكرية لدى الرجلين إنما تتمّ من زاويتين: زاوية الآخر وزاوية الذات.
ما يميّز ابن عاشور عن الفاسي في مشروعه الإصلاحي هو أنّ درجة التركيز على الذاتي المعرفي عنده كانت أشدَّ منها عند الثاني. مع ذلك فإن ثنائية المرجعية أساس في الحالتين.
ما يدعّم هذا التماثل في المرجعية مع اختلاف في طبيعة المعالجة ومنهجها هذه الفقرة الأساسية للفاسي التي تلتقي مع ما كنّا سجلناه من فكر لدى ابن عاشور في التحرير والتنوير. يقول الفاسي في فصل من “النقد الذاتي” بعنوان المعاصرة والعصرية إلى “أن الذي غمر غالبية الناس هو انقسام المجتمع إلى فريقين: واحد يرى أن كل ما فعله القدماء أو فكروا فيه هو الصحيح الذي يجب أن يُشايَع، ولذلك فهو يفقد الثقة في كل ما لم تأت به الأوائل أو لم يجده في تقاليد الوسط الذي نشأ فيه. وآخرون طغت عليهم رغبتهم في الجِدّة والابتكار فأصبحوا يؤمنون بأن كل ما نُقل من الماضي يجب أن ينقرض…
إن أساس الغلط هو الخلط بين العصرية؛ البحث عن الجديد، والمعاصرة، إدراك المجدي في الجديد والقديم… يجب أن نمضي قدما مستنيرين بعقولنا التي لم تقيدها أسباب القلق المعاصرة لندرس كل ما في الغرب مقتبسين ما هو صالح لانبعاثنا… وفي كل الأحوال يجب ألا نبذل عقولنا وحقَّها في التفكير كثمن لأية سعادة مصطنعة أو روحية منتَحَلة”النقد الذاتي.
رابعا: المقاصد أرواح الأعمال
إن كان المدخل المتوخى لدى الرجلين واحدا وهو العمل على فتح باب الاجتهاد لإصلاح حال المسلمين فإنّ دافع ابن عاشور في توجهه المقاصدي معرفيّ اجتماعيّ بينما هو عند الفاسي حضاريّ سياسيّ. عند الأول لا مناص من فصل المقاصد عن أصول الفقه؛ لأن البنية الأصولية بها من الاضطراب الناشئ عن ظنيّة الدلالة ما يهدد الأدلة الشرعية بما لا يتيح “للفقيه تدبير أمور الأمّة”. هذا ما جعله يقصر اهتمامه الاجتهادي في جانب المعاملات فلا يلتفت إلى قضايا الإصلاح العام ومسائل الاعتقاد فضلا عن المباحث السياسية.
ما يشغل هذا الفقيه المجتهد في بحثه المقاصدي هو إحياء الحركية الفقهية من داخل الحدود التي التزم بها من قبله عدد من الأئمة المسلمين.
لذلك يقول: “علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة، وأن نعيد ذَوبها في بوتقة التدوين ونعيرها بمعيار النظر والنقد فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غَلَثت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر، ثم نعيد صوغ ذلك العلم ونسميه علم مقاصد الشريعة، ونترك علم أصول الفقه على حاله تُستمد منه طرق تركيب الأدلة الفقهية.”
أهمّ ما في مقولة ابن عاشور القائلة بضرورة إنشاء علم المقاصد هو تقريره بأن بنية أصول الفقه لم توضع لخدمة حكمة الشريعة ومقصدها. المقصد الأسنى للأصول عنده يدور حول محور استنباط الأحكام من ألفاظ الشارع، ما يجعلها دائرة على تحديد القواعد التي تمكّن العارف بها من انتزاع الفروع منها، أو من انتزاع أوصاف تأذن بها تلك الألفاظ. عند ابن عاشور هذه البنية في طبيعتها لا تؤدي إلى مراعاة أو بيان “حكمة الشريعة وعن المعاني التي انبنت عليها الألفاظ، وهي علل الأحكام القياسية”.
في مقاصد الفاسي هذا التوجّه غائب في مقدمة الكتاب وفي فصوله الأمر الذي ما أكسب عمله صبغة تاريخية مقارنة الغاية منه إظهار التوافق بين التشريع الإسلامي والأنظمة السياسية الحديثة.
مع الفاسي يبرز المجتهد الذي يريد الإصلاح العام بالمنافحة عن الإسلام لمواجهة “الأفكار الجديدة” التي تسرّبت إلى عقول المسلمين عن طريق الاستعمار الروحي المفسد.
من ثم صرف اهتمامه إلى نشأة القانون والتشريعات في مختلف الحضارات مع اعتناء خاص بنظرية الإسلام السياسية. لكن اللافت عند الفاسي أنه لا يشير إلى كتاب ابن عاشور أو مقولته الداعية إلى ضرورة استقلال علم المقاصد عن الأصول، ولكن بعض الإشارات توحي رغم ذلك باطلاعه عليه ومخالفته إياه الرأي، لكنه يبدو مستنكفا عن التصريح بالاختلاف على عادة عدد من العلماء في التعمية مجاملةً لإخوانهم وتجنّبا لمواجهتهم. يقول الفاسي ملمّحا: “زعم بعض المعاصرين ممن ألفوا في مقاصد الشريعة أنّ لمبحث سدّ الذرائع تعلّقا قويّا بمبحث التحيّل” وهو عين ما نجده في تأليف ابن عاشور حين يقول: “ولمبحث سدّ الذرائع تعلّق قويّ بمبحث التحيّل”.
لذلك جاز في مجال تبيان طبيعة فكر الرجلين ومنحاهما في تناول قضية المقاصد استعمالنا في حقّهما عبارة صاحب الموافقات حين قال: “المقاصد أرواح الأعمال”. فالمؤكد أن تناول الرجلين ذاتَ المسألة المقاصدية لا يجعل مقصدَهما متفقا؛ ذلك أنّ الباعث لديهما مختلف.
لتفسير هذا الاختلاف لابد من التأكيد على الخصوصيات القطرية التاريخية التي تجمع نخب القطرين التونسي والمغربي في أمور وتفرّق بينها في أخرى. هذه الخصوصيات تتوزع على ثلاثة روافد هي: الرافد الأوروبي الكوني والإصلاحي التنظيمي والسلفي الإحيائي.
إذا نظرنا في الرافد الأوّل وجدناه بارزا في التأثير الحضاري لأوروبا الاستعمارية التي ألمعنا إليه آنفا والذي طرح قضايا وتحديات ما كان يمكن أن تواجه بالبناء الفقهي التقليدي.
في مستوى الرافد الثاني؛ نجد التوجّه الإصلاحي الذي ظهر في البلاد العربية منذ نهاية القرن التاسع عشر، مثيرا تساؤلات فكرية ودينية واجتماعية وسياسية، لم تكن مثارة داخل إطار الفكر الإسلامي التقليدي من قبيل: شروط النهضة، والتقدم الاجتماعي والاقتصادي، وإصلاح المؤسسات التعليمية.
هذا التوجه الإصلاحي وإن لم يتمكن من تقديم إجابات للتحديات الأوروبية في الفكر والعلم فإنه أبرز الحاجة إلى ضرورة إعادة النظر في أسس الثقافة الفقهية السائدة.
هذان العاملان التاريخيان يقرّبان بين نخب القطرين المغاربيين ويفسّران المنحى المقاصدي الذي جمع بين ابن عاشور والفاسي.
لكن الرافد الثالث وهو العنصر السلفي عنصرٌ فارق و هام في شرح الاختلاف الواضح بين معالجتي ابن عاشور والفاسي لمسألة المقاصد.
للتذكير فإن البلاد العربية الإسلامية عرفت في القرن 13ﻫ/19م رؤية سلفية تعمل على إحياء الضمير الديني بمقاومة الانحرافات العقدية والسلوكية التي اعتبرتها تهدد جوهر الإسلام وروحه. هذه الرؤية انطلقت من الذات الثقافية لإصلاح نفسها بنفسها، مختلفة في ذلك مع التوجّه الإصلاحي الشديد الاحتكاك بأوروبا في مستوى القيم والمفاهيم وضرورة استساغة الأفكار العصرية.
ما يعنينا، هنا، أن النخب المغاربية لم يكن لها موقف واحد من هذا التوجّه الإصلاحي الذي تجاوز الجزيرة العربية ليمتد إلى مختلف الأنحاء من عالم المسلمين. فإذا كان المغرب قد والى هذه السلفية الإحيائية فإن النخب السياسية والعلمية التونسية صدّتها وقاومتها.
من أقصى المغارب اعتمد العلماء، خاصة من أقام منهم في الجزيرة العربية، الدعوةَ السلفية ونشروها في البلاد مستفيدين من تأييد عدد من السلاطين العلويين لها. لذلك وقع التركيز على التوجه التصحيحي للعقيدة والسلوك وضرورة الأخذ بظاهر الكتاب والسنة والإعراض عن كل تأويل كلامي. ما تحقق في المغرب هو أساسا دعم من السلطان مولاي محمد بن عبد الله (1141-1204ﻫ/1757-1790م) ومن بعده مولاي سليمان ثم مولاي عبد الحفيظ لإرساء لسيادة وطنيّة في وجه علاقة تاريخية بالمشرق طالما فرضت رؤيتها السياسية والعقدية على المغرب النازع إلى الاستقلال.
هذا الموقف السياسي الخارجي واكبه عنصر داخلي وجد في الدعوة السلفية العاملة من أجل العودة إلى سلامة معتقدات السلف الصالح ما يتيح مقاومة الحضور المتزايد للطرق الصوفية: (القادرية والشاذلية والتيجانية) التي أصبحت بانتشار نفوذها تهدد فعليا مركزية السلطة أوّلا، ومرجعية العلماء ثانيا.
في تونس لا نجد أثرا للولاء المغربي إلى التوجّه الإحيائي الذي اكتسح المنطقة المغاربية. عداء النخب التونسية كان واضحا إزاء دعاة السلفية، تفسّره جملة اعتبارات سياسية محلية وخارجية ربطت بين موقف النخب الحاكمة ورجال الشرع لكن في سياق مغاير لما حصل في المغرب.
في الخصوصية التونسية كان هناك جانب الولاء للسلطة العثمانية التي قاومت الدعوة السلفية في الجزيرة. لكن العنصر الأهم هو البناء الاجتماعي الثقافي للقطر التونسي بتركيبته الفسيفسائية (قبائل عربية بعضها مستقر وبعضها مترحل إلى جانب السكان القدامى من البربر مع أندلسيين وأتراك وبلقانيين وزنوج، وعناصر أوروبية مختلفة إضافة إلى جالية يهودية) التي كانت تتطلب قيام مذهب فقهي واحد واستبعاد كل تنوّع عقدي أو جدل نظري في المرجعية الإسلامية للمجتمع. ما كان يمكن لهذه المرجعية أن تتأكد لولا قيام المؤسسة الزيتونية معهدا علميا يقوم على تكوين نخب موحّدة تؤطر الجهات المختلفة وتحقق التوازن الاجتماعي الصعب.
في الحالة التونسية كانت مرجعية النخب الدينية هي مركز الثقل الأساسي لمقاومة السلفية، مع الاستفادة في ذلك من الطرق الصوفية التي كانت تغطي كامل أنحاء القطر. هذا ما جعل المؤسسة الزيتونية محورا لتوازن اجتماعي وفكريّ دقيق ما كان يمكن معه لتلك المؤسسة أن توالي الخطاب السلفي. إنّها لم تر في الإحيائية السلفية إلاّ تهديدا لمركزها المحلّي بالتمرد على المذاهب الفقهية والمرجعية التراثية بدعوى الرجوع إلى النصّ المؤسس ومقاومة البدع.
بناء على هذين التشخيصين التاريخيين بروافدهما الثلاثة يمكن الوقوف على جانب من الخصوصيات الفكرية عند ابن عاشور التونسي والفاسي المغربي خاصة في اختلاف منحاهما المقاصدي.
كان كل منهما ينهل ضمن خصوصية مجتمعه من تلك الروافد.
أما ابن عاشور فكان يسعى إلى اجتهاد مقرّ بأهمية الآخر وضرورة الانفتاح عليه، لكنّه في سعيه يظل متمثّلا للمركزية العلمية والاجتماعية للزيتونة. نلمس ذلك بوضوح في جهده التنظيري البعيد لقضية المقاصد تعبيرا منه على أن أسباب الضعف داخلية أساسا بما يتطلّب تجديدا من داخل التراث.
أمّا علاّل الفاسي فقد كان في إقراره بضرورة تحصين الذات والانفتاح على”الآخر” يعمل في مسعاه الاجتهادي ضمن إصلاحية عامة متواصلة مع تاريخية النخب الموالية للسلطان مركزِ التوازن الاجتماعي والثقافي للبلاد.
بهذا دخل ابن عاشور على المقاصد محقِّقاً معرفيا، دأبُه إعادة الاعتبار للفقيه من خلال مؤسسة علمية مستعيدة مصداقيتها المعرفية والاجتماعية، في حين كان علاّل الفاسي في مسعاه الاجتهادي ومنحاه المقاصدي يريد للنخب الفكرية والدينية خاصة معاصرةً تُنهي عزلتهم عن النخب السياسية القائدة.
خامسا: تأكيد الذات ومشروعية الدولة الحديثة:
ما ينتهي إليه النظر في أثري ابن عاشور والفاسي المتعلقين بالمقاصد الشرعية يؤكد طبيعة المنحى الاجتهادي لهذين الرائدين الإصلاحيين. لقد أثبتا، كلٌّ بطريقته، ما للعقل الفقهي من إمكانيات لتأكيد الذات عند إرادة مواجهة التحولات والتحديات التي كادت أن تعصف بالمجتمعات المغاربية خاصة.
كانت خصوصية ابن عاشور في دعوته التأسيسية لعلم المقاصد تنطلق من مبدأ التراكم المعرفي المتصل، فهو لم يدع إلى إلغاء أصول الفقه، بل أثبت ضرورتها في صدارة شروط المجتهد المعاصر. لكن ما أكّده هو أن التباين بين المقاصد والأصول تباين منهجيّ. إنّه تجاوز للتمشّي المعتمد في أصول الفقه الذي انتزعت قواعده من الفروع فلم تدوّن إلاّ بعد تدوين الفقه بزهاء قرنين. هذا التباين المنهجي إقرار بأزمة أصول الفقه باعتبار أن “معظم مسائله مختلَف فيها بين النظّار، مستمر بينهم الخلاف في الأصول تبعًا للاختلاف في الفروع.”
هذا ما يجعل ابن عاشور يطلق على المقاصد مصطلحا آخر هو مصطلح الكليّات إثباتا للصبغة الإطارية التأسيسية التي يريد أن يصبغ بها ضوابطه المقاصدية. ذات التوجه نجده عنده في التلازم بين المقاصد والمصالح، تلازما مقصودا تجعل من المقاصد القواعد النظرية العامّة بينما تكون المصالح تجسيدا لها في إجراء واقعي محدد.
من جهة ثانية، فإن خصوصية اتجاه ابن عاشور المقاصدي تكتسي صبغة استيعاب علمي ذي صلة وثيقة بمنطق تاريخية الأفكار. إنّه لا يريد الحطّ من أصول الفقه بل هو يتيح له بذلك التجاوزَ والارتقاء الضروريين في صيرورة النمو الحضاري. بذلك يستعيد الفقيه مصداقيته خاصة ضمن المؤسسات القادرة على الاجتهاد الجماعي بفضل تحديد قواعد للتشريع تكون قطعية. وهو في النهاية إثبات لحيوية الشريعة ونجاعة الفكر الفقهي للمسلمين.
لكن مما تجدر الإشارة إليه أن البعد النظري في مشروع ابن عاشور حضر فيه البعد الإجرائي بقوّة؛ لأنّه لم يكن ليحفلَ بعلم نظريّ لا يولّد عملا و لا يثمر فروعا، لذلك عُنِي في القسم الثاني بالمقاصد الخاصة والتمثيل لها.
أما الفاسي فإن عناية الباحثين بعمله كانت أقلّ لما أولاه في عمله بالجانب الإجرائي، وهو ما جعله لدى البعض أقرب إلى المبحث الفقهي منه إلى التعقيد و التأسيس.
مع ذلك فإن كتاب “مقاصد الشريعة ومكارمها” يقدّم تطبيقا معاصرا للقراءة الاستقرائية للنص الشرعي. ما ينتهي إليه بذلك هو إبراز ما للنصوص الشرعية ولأحكامها من تكامل ودعم لبعضها البعض. بإدراك هذا التكامل الذي تيسره العملية الاستقرائية يتمكّن المقاصدي من الوقوف على “الغاية من الشريعة والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها”.
من ثم يتم إقرار دعوة الاجتهاد باسم المقاصد، وذلك بجعل المخوَّل لفهم الخلفية المركزية الثاوية هو العالِم المجتهد “المدرك لقصد الشارع في كل مسألة”. من مدخل الفقيه المعاصر المتبيّن للحكمة التشريعية والمصدر للفتوى يمكن تخطي مشكلة قبول تغيير الأحكام بتغير الزمان ومعضلة منطقة الفراغ التشريعي.
في هذا يقول الفاسي: “إنّ الحكم الذي نأخذه بطريق المصلحة أو الاستحسان أو غير ذلك من ضروب المآخذ الاجتهادية يعتبر حكما شرعيّا؛ أي خطابا من الله متعلّقا بأفعال المكلفين” يُنشئ به الفقيه المجتهد أحكاماً بإذن الله وتوفيقه.
لهذا جاز القول بأن الطابع العملي الإجرائي الذي تميّز به مبحث الفاسي في المقاصد والذي ركّزه خاصة على مجال الفكر السياسي (أسس الحكم – الحياة الاقتصادية والاجتماعية – الحريات وحقوق الإنسان) لم يمنعه من بعض التقعيد التنظيري. حصل ذلك خاصة في تحديد فهم المصلحة وربطها بمقولة ” الفطرة ” والتقائهما بمكارم الأخلاق التي هي أخلاق الفطرة.
يبقى بعد كل هذا سؤال: لماذا بقي هذا البناء النظري والعملي للاتجاه المقاصدي في المغرب الحديث دون تحققّ في أرض الواقع؟
بعض الباحثين يرى في ذلك عجزا للعقل الفقهي عن مواكبة شروط الحضارة الجديدة وأطرها المعرفية وأنماط سلوكها.
لا نشاطر هذه الرؤية؛ فما نراه مختلف مع هذه القراءة تمام الاختلاف. فما عطّل الاتجاه المقاصدي في المغرب الحديث، ولم يبق له من أثر في المجال السياسي والاجتماعي هو استبعاده عن مشروع الدولة الحديثة الوطنية.
في تلك التجارب القطرية الوطنية لم يكن هناك بحث عن المشروعية في مصادر إسلامية، لذلك لم تعتمد أية سياسة من أجل تطوير نظرية التشريع الإسلامي. كانت نماذج الدولة الحديثة متنوعة قد تعلن عن مواقف عدائية من الإسلام وتراثه، أو تستخدم إسلاما تقليديا لكنها في كل حال كانت تزيح من مشروعيتها ومرجعيتها التشريعية هذا المبحث الاجتهادي وما يتطلّبه من مؤسسات جماعية من شأنها أن تطوّر هذا العقل الأصولي.
من هنا جاءت قلّة العناية بتطوير المقولة المقاصدية، وليس لأن “المسلم المعاصر تشبع بقيم الحداثة” فلم يعد بحاجة إلى الاجتهاد. ما نراه هو أن الاتجاه المقاصدي يبقى دليلا على حيوية العقل الفقهي للمسلمين لكنه يظل متوقّفا لبلورة طروحاته ومواكبة المستجدات الثقافية والاجتماعية والسياسية إلى سياق فكري وسياسي تعدديّ يتيح له ذلك ضمن حراك الواقع و استقلال المؤسسات وتوافقية القرار.
بقلم
د. احميده النيفر
أستاذ التعليم العالي بجامعة الزيتونة، تونس