-بقلم : د. الطيب برغوث(*)
إنه الشيخ القرضاوي وكفى:
لا أدري لماذا قفزت إلى ذهني مقولة شهيرة للإمام مالك – رحمه الله – وأنا أتلقى نبأ وفاة العلامة المجتهد الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله؟ فقد روي أنه الإمام مالك وشي به إلى السلطان بأنه لا يرى انعقاد بيعة المكره، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس على مستكره طلاق)، فنهي عن ترويج هذا الحديث فلم ينته، فجرد من ثيابه وضرب سبعين سوطاً، وحلق شعره، وحمل على بعير وطيف به في الشوارع تنكيلا به، وتقليلا من قيمته لدى الناس، فأدرك – رحمه الله – المقصد الخبيث للسلطان، فأخذ ينادي في الناس رغم معاناته وآلامه: “ألا من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس أقول: طلاق المكره ليس بشيء“.
مناطحة الفحول تزيدهم صلابة ونقاوة:
وأظن أن من أسباب تذكري المفاجئ لهذه المقولة، تأثري من بعض المواقف السلبية لدى بعض الناس، من هذا الرجل الكبير في علمه ووعيه وجهاده وصبره وثباته وتوازن شخصيته، وحملاتهم عليه حيا وميتا، وحرصهم على النيل منه من مكانته المرموقة في الأمة، مع إدراكي التام بأن ذلك أمر طبيعي في سيَّر وحياة الكثير من الرجال الكبار عبر التاريخ، حيث تختلف الناس حولهم وحول مواقفهم التي تمس بمواقف ومصالح وأوضاع بعض هؤلاء في المجتمع والأمة عامة. وما أكثر ما تزيد مناطحة الرجال الكبار، قوة وصلابة ونقاوة وتألقا وتمكينا لهم في قلوب الناس.
انحياز الشيخ القرضاوي للمصالح الحيوية للأمة منذ شبابك المبكر:
والعلامة الشيخ يوسف القرضاوي، من الشخصيات الرسالية الكبيرة، ذات المواقف الفكرية والسياسية والاجتماعية الكبيرة، التي تصادم أفكار ومصالح وأوضاع فئات عديدة، لأنه – رحمه الله – إنحاز منذ شبابه المبكر حتى وفاته، إلى الوعي السنني المناقض للوعي الخرافي، وإلى الوعي الكلي المناقض للوعي الجزئي المتنافر..
وإلى المصالح الحيوية للمجتمع والأمة المناقض للمصالح الفئوية الضيقة، وإلى فقه التجديد المناقض لفقه التقليد، وإلى فقه السياسة الرشيدة المناقض لفقه البوليتيك، وإلى فقه التيسير المناقض لفقه التعسير، وإلى فقه الوسطية المناقض لفقه التطرف، وإلى فقه شمولية الإسلام المناقض لفقه تبعيضه وتجزئته، وإلى فقه التحرر والاستقلالية الحضارية المناقض لفقه الغثائية والتبعية الحضارية..
وإلى فقه الانفتاح على رشد الخبرة البشرية المناقض لفقه الانغلاق والانكفاء على النفس، وإلى فقه الجماعية المتكاملة المناقض لفقه الفردانية الأنانية المرضية، وإلى فقه الأصالة المعاصرة المناقض لفقه المنافرة بين الأصالة والمعاصرة، وإلى فقه وحدة الأمة وتكامليتها المناقض لفقه تفرقها وتنافرها، وإلى فقه الحرية والعدالة المناقض لفقه الاستبداد والظلم الاجتماعي، وإلى فقه سلطة المجتمع والأمة المناقض لفقه سلطة الفرد والعصبية، وإلى فقه النهضة الحضارية الشاملة المناقض لفقه الترقيع والتلفيق والتخلف.
ثمن مرتبة الاجتهاد والقدوة:
فهذه الانحيازية الإيجابية البصيرة، للمصالح الحيوية للإنسان والمجتمع والأمة، المنسجمة مع سنن الله تعالى في خلقه، والمتناغمة مع رسالة الإسلام ومقاصده في الحياة، ومع رسالة الأمة الإسلامية ودورها المحوري في الحركة الحضارية الإنسانية، جعلت الكثير من آرائه واجتهاداته ومواقفه ومبادراته، في حالة صدام مع كثير من القوى الفكرية والسياسية والاجتماعية ذات الآفاق والمصالح الضيقة، التي عملت وتعمل على النيل من مكانته وسمعته وقيمته..
ولكن ما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل، وظل الشيخ القرضاوي وسيبقى قمة من قمم العلم والوعي والرسالية العالية، وينطبق عليه موقف الإمام مالك من محاولات النيل منه ومن مكانته المرموقة، ويحق للأجيال أن تردد هذه المقولة الجليلة، وتنزلها على الشيخ القرضاوي قائلة ”إنه الشيخ يوسف القرضاوي من عرفه فقد عرفه، ومن لم يعرفه فإنه الشيخ يوسف القرضاوي” الذي ملأ الدنيا علما وفكرا وثقافة ووعيا وتربية وجهادا وتجديدا وإصلاحا.. لما يزيد عن ثمانية عقود من الزمان!
وسيظل ما قدمه للأمة والإنسانية، يشكل نموذجا حيا للعالم المسلم الرسالي المتوازن المجدد عبر الأجيال، ويضاف تراثه الكبير، وجهاده الطويل، إلى التراث والجهاد المرجعي الكبير لقافلة العلماء المجددين الكبار في تاريخ الأمة الإسلامية، وكفى بذلك مجدا وقيمة ومكانة ودورا له في تاريخ الأمة الإسلامية.
إن نيل مراتب المجتهدين والمصلحين الكبار، وتبوئ مقامات القدوة العالية في المجتمعات، تمر عبر هذه الطريق الطويلة من المجاهدات العلمية والتربوية والنفسية والفكرية والسلوكية والاجتماعية الصادقة المحتسبة البصيرة، التي تفضي بأصحابها إلى المواقع المتقدمة في مجتمعاتهم وأممهم، لتشكل جسور العبور إلى المقامات الأخروية الرفيعة بإذن الله تعالى وعونه.
المدرسة القرضاوية في الفكر الإسلامي المعاصر:
لقد شكل تراثه الفكري، وجهاده التربوي والدعوي والاجتماعي والسياسي، خطا متميزا في الفكر الإسلامي المعاصر، بل ومدرسة متميزة فيه، تقوم على شمولية الوعي بالإسلام، وعلى شمولية دوره المحوري في حياة المسلمين ونهضتهم الحضارية، وعلى حاجة الإنسانية إليه، وعلى انسجام الإسلام مع منطق السنن التي تقوم عليها الحياة الكونية والبشرية، ودعوته المباشرة إلى ضرورة معرفة هذه السنن واحترامها، وبناء الحياة على ضوء معطياتها.
إنه يشبه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في علمه ووعيه وجهاده ورساليته الفذة، ومكانته الضخمة في الفكر الإسلامي، التي استعصت على التحديات التي واجهها في حياته، وواجهها وما يزال يواجهها فكره وتراثه بعد مماته، ولم تنل منه ومن قيمته المرجعية المتجددة، وظل منجما مرجعيا لفقه التغيير والإصلاح والتجديد على مستوى الأمة..
وكذلك كان الشيخ يوسف القرضاوي في حياته، وسيكون تراثه بعد مماته، منجما مرجعيا نقيا متوازنا، للأجيال التي تنشد التغيير والإصلاح والتجديد في مجتمعاتها، وتبحث عن تحقيق النهضة الحضارية المتوازنة التي تستعيد بها الأمة الاسلامية مكانتها ودورها المحوري في المسيرة الحضارية الإنسانية، وتعيد للمسلم مكانته وقيمته وكرامته المهدورة.
إن تراث الشيخ القرضاوي الفكري والمنهجي الضخم والمتنوع والمتوازن، والمنسجم في عمومه مع منطق وروح السننية الشاملة التي جاء بها القرآن الكريم، وجسدتها السنة والسيرة النبوية الشريفة، مرشح إلى أن يشكل أرضية لمدرسة فكرية حقيقية، إذا أدركت الأجيال المعاصرة ذلك، وعرفت كيف توسع التعريف به، وتعمق الوعي بأهميته، وتمضي قدما في إنضاجه، وهي مدرسة تقوم على التكاملية المعرفية والحضارية، والروح السننية، والفعالية الإنجازية، والسماحة الرحبة في العلاقات الإنسانية، وعلى الدور المحوري للإسلام في الحياة الإنسانية.. كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
حاجة الأمة إلى ثقافة التكامل والإنصاف:
والخلاصة التي ينبغي أن نؤكد عليها بهذه المناسبة، هي أن كل إنسان مهما كان وزنه، ومهما كان تقديرنا وحبنا له، يؤخذ من كلامه ويرد، والنقد والاستدراك الموضوعيين على كل أحد مهما كان، أمر ضروري لا بد منه، ولكن ذلك كله، ينبغي أن لا يمس من قدر ومكانة العلماء والمصلحين الرساليين الذين غلبت إيجابياتهم وحسناتهم وفضائلهم، على بعض نواقصهم وهفواتهم بل وأخطائهم الطبيعية..
وقد قيل بحق أنه ”ليس من عالم ولا شريف ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله“، كما قال سعيد بن المسيب – رحمه الله – وكما قال ابن القيم رحمه الله: “ومن قواعد الشرع والحكمة أيضا، أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر فإنه يحتمل له مالا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره؛ فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث”.
إن الأمة في حاجة إلى بناء ونشر ثقافة التكامل والانصاف في أجيالها، لتخرجهم من ضيق النفس وضيق الأفق، وتنطلق بهم في آفاق التكاملية المعرفية التي تتوزع معطياتها في ساحات معرفية شتى، ولدى أفراد لا حصر لهم، يحوز كل منهم جزءا منها، وهو في حاجة ماسة إلى بقية أجزاء هذه المعرفة والخبرة المبثوثة في كل هذه الساحات، وعند كل هؤلاء الأشخاص.
فإذا تمكنت منظوماتنا الفكرية والتربوية والأسرية والاجتماعية والإعلامية.. من تحقيق هذه التكاملية الموسعة للصدور وآفاق التفكير، فإنها ستثمر لنا قيمة عظيمة من قيم المروءة والعدالة وهي قيمة الإنصاف والموضوعية في تقييم النفس، وتقييم الآخرين، ووضع كل شيئ في مكانه الصحيح، وبذلك تتكامل الطاقات والخبرات، وتعظم فعالية أداء الأفراد والمؤسسات والدولة والمجتمعات.
استمرار حركة التجديد في الأمة:
إنني أحسست بأن ركنا ركينا من علم الرسالية ووعيها وأخلاقها ورشدها قد انهد اليوم، ونحن نتلقى نبأ وفاة هذا الإمام الكبير من أئمة الرسالية في هذا العصر، ونودعه إلى عالم الدار الآخرة، وطرحت على نفسي هذا السؤال عدة مرات: كيف سيكون العالم الإسلامي بعد الشيخ يوسف القرضاوي؟ رغم يقيني بأن الحياة لا تتوقف عند شخص أو مؤسسة أو جيل، بل هي تمضي في طريقها قدما نحو غاياتها وأهدافها، وتتيح الفرص لظهور الرساليين المجددين والمصلحين بشكل مستمر، ليأخذ كل منهم حضه منها، ويؤسس موقعه فيها، كما علمنا ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى تعقيبا على ما أصاب المسلمين من غم يوم أحد عندما أشيع بأن رسول الله عليه الصلاة والسلام قد استشهد: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144).
الميلاد الثاني للشيخ القرضاوي:
كنت مرة عند الأستاذ عبد الوهاب حمودة – رحمه الله – فدخل علينا في مكتبه بالوزارة الأستاذ شريفي صاحب مكتبة النهضة على ما أتذكر، وكنا نحضر موضوع ملتقى الفكر الإسلامي، وفي أثناء مشاركته في الحديث، ذكر لنا أنه كان كلما التقى بمالك بنبي – رحمه الله – وجده قلقا من عزوف الناس عن فكره، فقال له الأستاذ شريفي: ”روح موت “! وسترى كيف ينتشر فكرك في الأجيال! وهو ما حدث فعلا، ففكر مالك بن نبي يجد صدى غير مسبوق في الأجيال الجديدة، ليس في الجزائر فحسب، بل في العالم العربي والإسلامي عامة.
فموت المجددين والمصلحين الكبار الذين تحرك جهدهم في عمق السننية الشاملة، يكتشفهم الناس أكثر فأكثر بعد صدمة وفاتهم، وإحساسهم بالفراغ الكبير الذي تركوه في المجتمع، فيقبلون على مراجعة فكرهم أو اكتشافه من جديد. كما أن الأجيال القادمة ستنظر إلى تراث هؤلاء بكثير من الموضوعية والإنصاف والتقدير، لأنها ستتخلص من كثير من شحنات الصراع والتحاسد والغيرة التي تتسبب فيها المعاصرة. فالمعاصرة حجاب كما يقال! وعندما يختفي الوجود الفزيائي المنظور للمجدد، ويخلو فكره بالناس، يفعل فعله السحري فيهم، إلى درجة المبالغة والتقديس له أحيانا!
وتراث الشيخ القرضاوي – رحمه الله – بتحركه في عمق السننية الشاملة العابرة للأزمان والبيئات والأجيال، سيظل يؤثر بقوة في الأجيال، وسيجعله – رحمه الله – ممتد الحضور والأثر، وسيضعه التاريخ من خلال ذلك كله، في مكانه الضخم المتناسب مع ضخامة تراثه وجهاده الفكري والدعوي والتربوي والاجتماعي والسياسي، وهو ما يرجوه كل إنسان صالح ويعمل له، كما نلمس ذلك من دعاء إبي الأنبياء وإمام الناس، سيدنا إبراهيم عليه السلام: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (الشعراء:84).
وهذا هو الميلاد الثاني الحقيقي للإنسان، الذي يجب على كل إنسان أن يعيه، ويعي قيمته، ويادر إلى إخذ الأهبة له، والمبادرة له بلا هوادة، وهذا ما يبدو أن شيخنا القرضاوي قد وعاه مبكرا، وشمر له، فهنيئا له، ولكل من يعي ذلك ويبادر إليه من لحظته.
فاللهم تغمد شيخنا العلامة يوسف القرضاوي برحمتك التي وسعت كل شيء، وتقبله في قوافل الرساليين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وصبر أهله وارفع الغبن عنهم، وثبتنا على الطريق المستقيمة التي مضى عليها منذ نعومة أظفاره، وجازيه عنا وعن الأمة التي أعطاها حياته كلها خير الجزاء.
———-
(*) مفكر إسلامي جزائري.. كتبه في تروندهايم بالنرويج في 30 صفر 1444هـ الموافق 26 سبتمبر 2022م.
– المصدر: مركز الشهود الحضاري للدراسات الشرعية والمستقبلية، 17-10-2022