* سليمان بختي
تعد المستشرقة الألمانية آنا ماري شيمل (1922 ـ 2003) من أشهر المستشرقين الألمان على المستوى الأوروبي والدولي. استطاعت أن تنسج علاقة مميزة مع الشرق، حارة وغنية بالحب والتقدير العميقين. ولدت آنا ماري شيمل في 7 أبريل/ نيسان 1922، وهذه مئوية ولادتها، التي تستحق فيها التحية والاعتبار لجهودها الكبيرة في ما كانت تسميه “حياتي الغرب شرقية”.
ولدت آنا ماري شيمل في مدينة أرفورت في وسط ألمانيا لعائلة بروتستانتية تنتمي إلى الطبقة الوسطى. عملت عائلة والدها في صناعة النسيج، لكن والدها اشتغل موظفًا في دائرة البريد والتلغراف. أما أمها فيرجع منبتها إلى قرية صغيرة في بحر الشمال، وإلى عائلة جلها من قباطنة السفن الذين يبحرون في بحار العالم طلبًا للرزق. نشأت آنا ماري في جو يطغى عليه شغف الحياة العارم بالطموح وحب السفر. ومنذ بداية وعيها، انجذبت إلى كل ما يتعلق بالشرق، وكل ما هو روحاني وصوفي في الإسلام والأديان الشرقية الأخرى. هذا الإعجاب الكبير بعالم الشرق وأسراره أخذها إلى تعلم العربية في عام 1937، وهي لما تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها. تلقت إلى جانب العربية دروسًا في مبادئ الدين والتاريخ الإسلاميين، وكذلك تعلمت الفارسية، والتركية، والأوردية.
في عام 1939، نزحت مع عائلتها إلى برلين، وهناك بدأت دراستها الجامعية. وبعد عام واحد، بدأت العمل على أطروحة الدكتوراة حول مكانة علماء الدين في المجتمع المملوكي، بإشراف د.ريتشارد هارتمان. أنجزت رسالتها في نوفمبر/ تشرين الثاني 1941، ونشرتها عام 1943 في مجلة “عالم الإسلام” تحت عنوان “الخليفة والقاضي في مصر في العصور الوسطى المتأخرة”.
في عام 1941، التحقت كمترجمة عن التركية بوزارة الخارجية الألمانية. ولكن في أوقات فراغها بدأت تهتم وتقرأ تاريخ المماليك، حتى استطاعت أن تضع فهارس لتاريخ ابن إياس. وفي مارس/ آذار 1945، وقبل نهاية الحرب العالمية الثانية بقليل، انتهت من رسالة الدكتوراة في جامعة برلين، وعنوانها “الطبقة العسكرية المملوكية”. عانت آنا ماري شيمل من تداعيات الحرب العالمية الثانية، إذ تم إجلاؤها مع بقية موظفي الخارجية الألمانية، ثم ألقي القبض عليها من قبل القوات الأميركية. وبعد اعتقالها والتحقيق معها أرسلت إلى مدينة ماربورغ. ولكن كان في سجلها أنها أنهت رسالة الأستاذية قبل سقوط النظام النازي، وأنها عاشت خلال فترة الحكم النازي حياة هادئة، وغير سياسية. عندما أعيد تنظيم الجامعات الألمانية بعد الحرب كانت في الثالثة والعشرين من عمرها، ووجدت لها مكانًا في جامعة ماربورغ. كانت آنا ماري شيمل أصغر أستاذة في الجامعة، وأول سيدة تلقي محاضرة عن التصوف الإسلامي. حصلت عام 1951 على دكتوراة ثانية عن مصطلح الحب الصوفي في الإسلام، ثم ترجمت بناء على طلب بعض علماء الاجتماع الألمان مقاطع طويلة من مقدمة ابن خلدون. زارت تركيا عام 1952، ولمست عن قرب سحر مدينة السلاطين “إسطنبول”. وفي عام 1954، بدأت التدريس في كلية الإلهيات في جامعة أنقرة. عادت في عام 1957 إلى ماربورغ ثانية، ووجدت نفسها بلا وظيفة جامعية. وفي عام 1961 وجدت موقعًا أكاديميًا لها في جامعة بون التي أصبحت مدينتها. اتصلت بالخارجية الألمانية، وبدأت منذ عام 1963 تشارك ألبرت تايله في الإشراف على مجلة “فكر وفن” الممولة من الخارجية الألمانية.
واستمرت بالمشاركة في المجلة حتى عام 1973، قدمت خلالها أشعارًا لأغلب الشعراء العرب، مثل بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وصلاح عبد الصبور، وعبد الوهاب البياتي، وفدوى طوقان، ونزار قباني، وأدونيس، ومحمود درويش، ومحمد الفيتوري، وغيرهم من الشعراء الذين نقلت بعض أشعارهم إلى الألمانية. وكانت كذلك تمد القارئ العربي بقصائد من جلال الدين الرومي، ومحمد إقبال، وغيرهما من الشعراء المسلمين. اهتمت بتراث الشاعر والمستشرق والمترجم فريدريش رويكرت، فحققت أعماله، وترجمت سيرته وأعادته إلى الضوء كأهم ناقل للآداب الشرقية إلى الألمانية. وبسبب هذا الاهتمام، ولترجماتها عن اللغات الشرقية، فازت عام 1965 بجائزة فريدريش رويكرت، التي تمنحها مدينة شغانيفورت بجنوب ألمانيا.
دعيت في عام 1967 إلى العمل في جامعة هارفارد، لتشغل كرسي الثقافة الهندو إسلامية الذي أنشئ إثر تبرع أحد مسلمي الهند الأغنياء. ورغم أنها لم تكن متخصصة في هذا المجال، إلا أنها حصلت على الكرسي الذي ربط الحصول عليه بضرورة ترجمة أشعار شاعر الأوردية ميردارد الدهلوي، وأسد الله غالب، كي ينالا شهرة توازي شهرة عمر الخيام في نطاق اللغة الإنكليزية. وكان على هذا القسم الاهتمام بتاريخ الإسلام في الهند منذ عام 711، وباللغات العربية، والفارسية، والتركية، والسندية، والبنجابية، والأوردية. وأسست مكتبة متخصصة لدراسات هذا القسم. كما ألقت محاضرات عن التصوف الإسلامي، التي شكلت أساس كتابها الأهم “الأبعاد الصوفية في الإسلام”. وكذلك ألقت محاضرات عن الشعر الفارسي، وعن جلال الدين الرومي، ومحمد إقبال. كما اهتمت بفن الخط الإسلامي. وظل اهتمامها منصبًا على تاريخ شبه القارة الهندية. وظلت تؤلف في ذلك باللغتين الإنكليزية والألمانية، إضافة إلى دراساتها في تاريخ الأدب والشعراء الكبار. تقاعدت في عام 1992، وعادت إلى مدينة بون الألمانية بعد ربع قرن من العمل في هارفارد، وكامبردج، وتابعت كتابة أبحاثها عن الإسلام. أحرزت في عام 1995 جائزة السلام الألمانية التي يمنحها اتحاد الناشرين الألمان، وتسلمتها من رئيس الدولة الألمانية، رغم الأصوات المناوئة والمعترضة على نيلها الجائزة. في سنواتها الأخيرة، نشرت وصفًا لرحلاتها إلى الهند والباكستان، كما أصدرت سيرتها الذاتية بعنوان “شرق ـ غرب حياتي الشرق غربية”، ترجمها إلى العربية د.عبد السلام حيدر (2004)، وتضمنت سيرتها عرضًا لجهودها ورحلاتها في أوروبا وأميركا الشمالية وإندونيسيا وباكستان وتركيا والهند وإيران وأفغانستان والعالم العربي.
تركت آنا ماري شيمل تراثًا غنيًا يشتمل على أكثر من 100 كتاب في مجال الدراسات الإسلامية، ومن أهم كتبها: “وإن محمدًا رسول الله”، و”الشمس المنتصرة ـ دراسة في جلال الدين الرومي”، و”عيسى ومريم في التصوف الإسلامي”، و”الجميل والمقدس”، و”الإسلام بصيغة المؤنث”، و”أحلام الخليفة”، و”الأحلام وتعبيرها في الثقافة الإسلامية”، و”أوروبا في مواجهة العالم الإسلامي”، و”عنادل تحت الثلج”، و”الإسلام دين الإنسانية”. نالت شيمل عددًا من الجوائز والأوسمة، منها جائزة روتشلين 2001، ووسام صليب القائد من رتبة استحقاق من جمهورية ألمانيا الاتحادية 1989، وجائزة يوهان هاينريش فوس للترجمة 1980. كما نالت الدكتوراة الفخرية من جامعة طهران.
كانت آنا ماري شيمل جسرًا متينًا من جسور التواصل بين الشرق والغرب. أحبت الشرق والإسلام، وكتبت “الشرق هو غايتي، شرق الحكمة الصوفية”، ولبثت تردد كلمة القديس أوغسطين “المرء يستطيع أن يفهم شيئًا ما على قدر ما يحبه”.
كانت آخر وصية لها: “حين أموت أريد أن يقرأ القرآن فوق رأسي قبل أن أدخل حفرتي ليكون آخر عهدي بالدنيا هذه الكلمات الإلهية”. وأوصت أن تكتب على شاهد قبرها تلك العبارة الهادية التي جذبتها إلى كل ذلك: “الناس نيام إذا ماتوا، انتبهوا”. توفيت في بون في 26 يناير/ كانون الثاني يناير 2003.