إسماعيل الحلوتي
من غير المقبول أن يعاد عرض حلقات مسلسل “العبث السياسي” على أنظار المواطنين من داخل المؤسسة التشريعية، ذلك الفضاء الذي يفترض فيه أن يكون مجالا لإقرار مشاريع القوانين ومراقبة العمل الحكومي، وأن يحرص نواب الأمة على أن يكونوا نموذجا في سمو الأخلاق وحسن السلوك والاستقامة في التعامل، عوض إصرار بعضهم على تحويل جلساته العمومية إلى حلبة للصراعات السياسوية وتصفية الحسابات الحزبية والشخصية الضيقة بعيدا عن قضايا البلاد الأساسية.
إذ ما كادت تتبخر أصداء فضيحة مغني الراب المدعو “طوطو” التي أثارت ضجة صاخبة وردود فعل غاضبة، حيث انبرى له ولوزير الشباب والثقافة والتواصل محمد المهدي بنسعيد المحسوب على حزب الأصالة والمعاصرة، الكثيرون بمن فيهم برلمانيون وإعلاميون بالانتقادات الحادة عبر مختلف وسائل الإعلام وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، منددين بالاختيار السيء للوزير وما أتى به “طوطو” من كلام ساقط، تصرفات دنيئة وتحريض على تعاطي المخدرات والخمور أمام آلاف المتفرجين، إبان فعاليات مهرجان “الرباط عاصمة الثقافة الإفريقية” في الأسبوع الأخير من شهر شتنبر 2022.
حتى تفجرت فضيحة أخرى من العيار الثقيل تحت قبة البرلمان، لا يختلف أبطالها كثيرا عن “الرابور” طوطو من حيث المهاترات واللغة الهابطة، غير أن الفرق الوحيد بينه وبينهم، هو أنه اختير من قبل وزير “السخافة” الذي يطالب الجمهور العريض بتقديم استقالته أو التعجيل بإقالته، في حين أن “نواب الأمة” تم انتخابهم من قبل مواطنين منحوهم ثقتهم للعمل من أجل المرافعة عن أهم قضاياهم ومشاكلهم.
فمباشرة بعد افتتاح الملك محمد السادس الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية الحادية عشرة، وعلى عكس ما دعا إليه الخطاب الملكي من جدية في الأداء النيابي وتقيد بالالتزامات الملقاة على عاتق أعضاء مجلس النواب، أبى رئيس الفريق النيابي عن حزب الأصالة والمعاصرة المنتمي للأغلبية الحكومية، إلا أن يدشن انطلاق الجلسات العمومية بمخاطبة أحد زملائه من فريق حزب الحركة الشعبية عن المعارضة، بالقول: “مالك كتحنقز فوق الكرسي” لتشتعل بعد ذلك الجلسة بالملاسنات الحارقة…
وهو ما اعتبره المهتمون بالشأن العام والحقوقيون نوعا من المزايدات الفارغة والاستهتار بالواجب، حيث تعالت أصوات الاستنكار وتعددت التدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي منددة بتمادي بعض النواب في مثل هذه السلوكات الطائشة، رافضين أن تقتحم لغة “طوطو” أسوار البرلمان، الذي يعد مؤسسة للنخب المتميزة بحس المسؤولية وروح المواطنة، والقادرة على وضع نصوص تشريعية جيدة لتحسين مناخ الأعمال، مكافحة كافة أشكال الفساد والريع والسهر على رفع التحديات والإكراهات المطروحة بحدة، ومنها إشكالية ندرة المياه ومسألة الاستثمار، اعتمادا على خارطة الطريق التي رسمها لهم الملك في خطاب 14 أكتوبر 2022.
فقمة الاستخفاف أن يتغيب 234 عضوا من أصل 395 عضوا بمجلس النواب يوم 18 أكتوبر 2022 عن جلسة المصادقة على مشروع قانون ميثاق الاستثمار. فأين ممثلو الأمة مما يقتضي التحلي به من قيم رفيعة والاحترام الواجب للملك والمؤسسات الدستورية والمواطنين؟ إذ من المحزن أن يتعمق ذلك الشعور السلبي لدى الشعب المغربي تجاه البرلمانيين، الذين تحول الكثيرون منهم إلى مجرد أشخاص انتهازيين، يرجحون مصالحهم الشخصية والحزبية الضيقة على المصلحة العليا للوطن وأبنائه. فكيف لهم ادعاء الدفاع عن مصالح البلاد، إذا كانوا لا يستطيعون الاهتمام بواحدة من أهم القضايا الوطنية الحيوية التي ترهن مصير المغاربة، ومن شأنها الإسهام في تحريك عجلة الاقتصاد وخلق فرص الشغل لآلاف العاطلين؟ أبهكذا سلوك أرعن يمكن النهوض بالاستثمار وتشجيع المقاولة وتحقيق النمو؟
وجدير بالذكر هنا أن جهودا كبيرة بذلت للحد من ظاهرة غياب البرلمانيين في الجلسات العامة بدون نتائج إيجابية، حيث لم تنفع في ذلك الإغراءات المتمثلة في تمتيعهم بامتيازات التنقل والإقامة في أفخم الفنادق وغيرها، ولا في ردعهم “البطاقة الذكية” لتأكيد الحضور ولا الاقتطاعات المالية من التعويضات الشهرية، بعد أن حظوا بالحصانة البرلمانية…
كما أنها ليست المرة الأولى التي يتحول فيها البرلمان إلى “سوق عشوائي” والنقاش العمومي إلى مجرد أصوات وانفعالات مزعجة، بصورة تجعل نواب الأمة بعيدين عن قضايا البلاد وانتظارات العباد، ولنا في ذلك عدة أمثلة، منها فضيحة التهافت على موائد حلوى افتتاح الدورة الخريفية في أكتوبر 2018. وكذا واقعة “الديبخشي والبيليكي” أثناء تدخل عمدة فاس السابق والقيادي بحزب العدالة والتنمية ادريس الأزمي الإدريسي في مدارسة موضوع معاشات البرلمانيين خلال اجتماع لجنة المالية، وهو يصرخ غاضبا ويضرب الطاولة بقبضة يده قائلا: “واش بغيتونا نخدمو بيليكي؟ واش بغيتو ديرو لينا ديبخشي؟”
إن رئيس مجلس النواب ومعه أعضاء مكتبه مطالبون بالعمل الجاد على إنهاء هذا المسلسل من المهازل التي ما انفكت تسيء إلى سمعة المؤسسة التشريعية وتضر بصورة المغرب، من خلال اتخاذ إجراءات صارمة في حق المستهترين من النواب.
بيد أن هذا لا يعفي كذلك من المسؤولية أولئك الذين يمنحون تأشيرة العبور للبرلمان لغير مستحقيها، علما أن الانتخابات تعطي المواطنين “سلطة القرار في اختيار من يمثلونهم، وأن عليهم إحسان الاختيار، لأنه لن يكون من حقهم غدا أن يشتكوا من سوء التدبير، أو ضعف الخدمات التي تقدم لهم” كما قال ملك البلاد محمد السادس في خطاب 20 غشت 2015 بمناسبة الذكرى 62 لثورة الملك والشعب، معتبرا أن التصويت أمانة ثقيلة، وهو وسيلة للتغيير نحو الأفضل أو تكريس الواقع بصورته القائمة.