مسرحية “الهجين”
سينوغرافيا وإخراج أحمد البناي
إشراف عام علي البلوشي
دراما تورج فلول الفيلكاوي
بقلم: رشيد بلفقيه.
أن يدرك المرء -مع ديكارت- أن الأنا المفكر أساس كل شيء، وينتصب وحيدا مواجها الكون، فذلك موقف عدّه هيغل بطوليا، وأن يدرك مع سرفانتس أن ذلك العالم عينُه غموض يواجه فيه حقائق متشذرة إلى جزيئات صغيرة تمثلها الشخصيات بوصفها أنوات متخيّلة، فهذا أمر يتطلب بطولة لا تقل عن بطولة الموقف الأول، كما قال ميلان كونديرا في فن الرواية. أما أن يشكل ذلك الإنسانُ (الشقي) -نفسُه- عالمَه على شكل استعارة كبرى على المرسح، ثم يخلق من أناه نسخة، ومن الآخرين نُسَخا مشوهة، ويجعلها تتنازع وجودها ويركن إلى الظل متأملا مصائرها محاولا التلصص على دواخلها، وتوقع نهايتها، فهذا أمر آخر وبطولة أخرى تستحق التأمل.
تقف شخصية من شخصيات العرض المسرحي “الهجين”، في الحيز الموجود بين الستارة والجمهور، معبرة بذلك عن وجودها في المكان الفاصل بين الحقيقي، والمتخيل، بوصفه أقرب مكان إلى الوعي الإنساني، وتخاطب شخصية أخرى ترافقها ممثلة في “الرجل الذي تحول إلى كلب” قائلة بحدة بالغة:
-“البدايات صفحة بيضاء، تخط بها حبر حروفك الملون (…) وتضيء حروف البدايات التي يراها البعض جميلة، فحين يشتد صرير القلم، يشق الورق طريق النهايات التي في الغالب ما تكون كئيبة، مميتة، فماذا عن وسط الحكاية؟”
هكذا تتساءل الشخصية الممسكة بتشوه الكون ممثلا في ذلك الكائن الهجين، تم تسمح لنا بولوج الحكاية، ويُفتح الستار.
في الصفحة البيضاء المشار إليها (أي بداية أحداث المسرحية) تخبرنا رفيقة البطل الذي كان راقصا استعراضيا، أنهما كانا راقصين مبدعين، وأنهما كانا يعيشان حياة مثالية. لكن يطل علينا المبشر بالتشوه القادم لامحالة مقاطعا جمال تلك البداية، منتقدا تلك الحياة التي يرى انها تحلم بالحياة فقط، ليصفها بالمملة والكئيبة، أو ربما المخيفة.
تبذل الزوجة جهدا كبيرا لترسم أفقا ورديا لمستقبلهما، باستحضار ماضيهما الجميل، ولكن الزوج المحبط ينتفض ضد محاولاتها، ويطلب منها الاستسلام -معه- لواقعهما المطبق، ويقاطعها صارخا:
-“كنت رجلا، كنت، لكنني الآن …” ثم يبتر عبارته ويجري في الحانات، والمراقص باحثا عمّا يؤكد وجوده، أي عن وظيفة.
هناك يصادف أصدقاءه القدامى، ويعاين باشمئزاز كبير اندحارهم إلى أسفل مراتب الشرف، واستسلامهم المُهين لممارسة مهن حقيرة بحثا عن المال، وهناك أيضا يدرك أن الاندحار هو السبيل الوحيد لضمان لقمة عيشه، وعيش زوجه وأطفاله، وأن لا أمل من المقاومة، وعندها تتحول كلمة “اللا” في فمه إلى صرخات، وتتحول الصرخات إلى نباح يضمن له الحصول على الوظيفة التي ستضمن له قوته وقوت العيال، وهي وظيفة “كلب” الحراسة بوصفها الوظيفة الوحيدة الشاغرة في الشركة، بعد نفوق الكلب.
يجلجل صوت مبررا ذلك الانمساخ:
-“قسوة الظروف سيف يمزق النسيج الإنساني، كلما قاومت، ستنزف أكثر، حتى تتلاشى هويتك الإنسانية، وتعتاد عيناك لون النزيف”.
هكذا يأتينا الصوت المطبق، الذي يرمز إلى القوة الخفية التي تمسك بخيوط الحبكة. تحت هذه اليافطة الصارمة، تصبح كل ردة فعل مبررة، فإما أن يقتل المرأ(الكلب) ليضمن حياته، أو يصبح الضحية (للقطط المتربصة)، ويموت. قسوة الظروف التي تعبر عن قسوة النظام الاقتصادي الخانق، تجعل الفرد مشروعا جيدا للموظف الشرس البديل، الذي يتمثل طموحه في الدفاع عن لقمته، مما يجعله الأرض الخصبة المثالية للفساد.
يحار الكائن العالق بين مطرقة الأحلام باستعادة إنسانيته يوما ما، وسنديان الواقع المر، يحار بين التمسك بكينونته أو الاستسلام لصفات وظيفته، فيغدو هجينا لا يدرك لنفسه هوية، ولا يعرف له أصلا. وهكذا تستمر سيرورة تسخيره (مسخه) ببطء وقسوة، مستغلة حاجته، وهشاشة وضعه الاجتماعي لتحوله شيئا فشيئا إلى كلب.
ظل العرض المسرحي وفيا لحبكة النص الأصلي الذي كتبه أوزفالدو دراغون، كما ظل وفيا للتصور الكافكاوي للانمساخ الذي يتحقق تحت ضغط الظروف الاجتماعية، وفق مقاربة وظفت عناصر الفضاء المسرحي توظيفا بلاغيا سعى إلى الإيحاء بالعديد من الأحاسيس باللباس والضوء أو الموسيقى، مما حول الخشبة بديكورها وأكسسواراتها إلى صور بصرية مركّزة تعبر من خلال العلامات ذات النسق غير اللغوي معمقة الإحساس بوطأة النظام الاقتصادي وانسحاق الفرد تحت ضغطه.
في ظل تلك الحرب القاسية على الإنسانية الهشة، يصير حتى الوفاء تشوها حين تفقد الشخصيات إنسانيتها وتتهجن، فيغدو لشعور النبيل في ظل قتامة العالم، وانغلاق آفاقه، بدوره فخا للإيقاع بما تبقى من جمال وإنسانية وفيم نبيلة، وهو ما يجبر الزوجة على التحول بدورها، والانتقال إلى العيش مع زوجها في بيت الكلاب حيث سيتكلف بترويضها تدريجيا، محولا صرختها إلى نباح يخرج في البداية خافتا ثم تزداد شراسته حين تنجح في عملية المسخ والتهجين، التي تتحقق في النهاية مهما استغرقت من زمن،
إنها مسألة وقت…