بقلم: عبد المولى المروري
الدولة مقبلة على إحداث تغييرات عميقة وجذرية .. وطويلة التأثير وعظيمة الأثر على المجتمع المغربي.. في عقله ووعيه.. في نفسه ووجدانه.. في ثقافته وفكره .. في ذاته وعلاقاته .. في حاضره ومستقبله.. يصعب محوها أو تغييرها إلا بنضالات طويلة.. متواصلة وواسعة وقد تكون أليمة..
ومن أجل ذلك، الدولة استعملت وتستعمل الحكومات من أجل تمرير قوانين ذات بعد ثقافي واقتصادي، وقرارات مالية واجتماعية تخدم مشروع الدولة ورجالاتها وتحالفاتها الدولية، دون الاكتراث للشعب المنهك اقتصاديا، والتائه فكريا والضائع اجتماعيا..
للدولة أساليب رهيبة لحمل الحكومات على المضي في الاتجاه الذي تريده، وطرق خطيرة تكون أحيانا مباشرة باستعمال كل الضغوط الممكنة، كما وقع مع قانون الإطار الذي مكن للغة الفرنسية، وقانون القنب الهندي خلال حكومة سعد الدين العثماني، أو باستعمال طرق ملتوية وغير مباشرة، تخلف اعتقادا لدى الحكومة ” الضحية ” أنها هي صاحبة القانون المطلوب تمريره أو القرار المطلوب تنفيذه، كما هو الشأن مع إلغاء الدعم على المحروقات في أفق الإلغاء النهائي لصندوق المقاصة (والذي اتضح فيما بعد أن هناك أيادي خفية كانت تعمل بتنسيق مع صندوق النقد الدولي، وكانت موضوع مناقشة قبل مجيء حكومة العدالة والتنمية، وهذا ما يسمى في علم النفس بالإيحاء)، وكذلك مصادقة الحكومة المغربية على اتفاقية سيداو (اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة)، وكذا إصلاح أنظمة التقاعد وغيرها من القرارات والقوانين التي تم تمريرها في عهد حكومة ابن كيران (هذا بصرف النظر عن مدى صحة وسلامة هذه القرارات، ومساهمتها في امتصاص جزء من أزمة سببها سوء التدبير والعشوائية التي كانت تهيمن على تلك القطاعات في العهود السابقة، فالحديث هنا عن دور الدولة في تسخير وتوجيه الحكومات إلى تنفيذ مشاريع لفائدة الدولة أولًا ولو على حساب الوطن والشعب، وليس عن سلامة وصواب هذه القرارات)، في حين عجزت هذه الحكومة نفسها عن تمرير قانون تجريم الإثراء غير المشروع أو الضريبة عن الثروة، والدعم المباشر للفقراء، كما عجزت عن مجرد طرح فكرة #تضارب_المصالح كمشروع قانون، ولم يتجرأ حينها عبد الإله ابن كيران حتى على طرحه للنقاش العمومي، وهنا تظهر قوة الدولة ونفوذها وسيطرتها على المشهد برمته، وتوجيهه وفق مصالحها وأهدافها التي لا تعني الوطن والشعب في شيء، وها نحن الآن نتباكى ونصرخ على جريمة تضارب المصالح، ونتألم من تأثيرها الخطير على الاقتصاد الوطني، وعلى المواطن المنهوك والمنهوب .. وكيف استغل أخنوش ذلك ليراكم ثروته ويوسع مشاريعه الخاصة هو وباقي تحالف الكومبرادورية..
الآن الدولة تقود الحكومة الحالية بوجه مكشوف، وسماجة منقطعة النظير، وسرعة كبيرة إلى سن قوانين خطيرة وقرارات كارثية على حاضر المغرب ومستقبله..
الآن الدولة، عن طريق بعض وزراء الحكومة ومن يدور في فلكها، بصدد إثارة نقاش حول قانون تجريم السكر العلني، والإجهاض، والمثلية، والعلاقات الرضائية، ومن خلال ذلك تقيس نبض الشارع وردة فعله، وكلما وجدت تمنعا ويقظة من طرف الشعب (كما وقع مع مهرجان البيرا الذي كان مزمعا تنظيمه في بوسكورة) وإلا وواصلت الدولة برنامجها التمييعي عبر أنشطتها ومهرجاناتها التافهة من أجل إضعاف هذه المناعة، وتجعل الشعب أكثر قبولا وتقبلا لهذه القوانين ومشروع الدولة الثقافي الإباحي.. في أفق إلغاء هذه القوانين ويتساوى المغرب حينها مع الدول الليبرالية ثقافيا وأخلاقيًا ضدا على هوية الشعب المغربي وقيمه وأخلاق أبناءه وبناته..
بينما لم تتأخر الدولة بإعطاء أمرها إلى حكومة أخنوش عن طريق وزير عدلها من أجل سحب مشروع قانون تجريم الإثراء غير المشروع، مما يؤكد رعاية الدولة للفساد الاقتصادي وحمايته قانونيا وإداريًا وسياسيا..
الآن وجدت الدولة الحكومة “المثالية” التي ستنفذ مشاريعها بامتثال أعمى، دون زيادة أو نقصان .. فالدولة الآن تقوم باستعمال هذه الحكومة واستغلال وجودها من أجل تمرير أكبر قدر من القرارات والقوانين التي من خلالها تتم مراكمة ثروة رجالات الدولة وخدامها الصغار والكبار، ومن خلالها يتم تنويع واحتكار المشاريع الكبرى والاستراتيجية لمصلحة هؤلاء، ومن خلالها التضييق على الحريات وانتهاك كل الحقوق (الحق في الشغل، الحق في الصحة، الحق في التعليم، الحق في السكن، الحق في الرأي والتعبير ….)، حتى تسكت الأصوات المزعجة، وتنفي الآراء المحرجة، وتغتال المواقف الشجاعة..
وكما هو معلوم، لقد ضحت الدولة بسمعتها السياسية، ومرغت الديمقراطية في وحل الفساد الانتخابي، من أجل المجيء بأحد زعماء الكومبرادورية في المغرب ليعتلي رئاسة الحكومة ضدا على القانون والديمقراطية والشفافية والنزاهة.. رئيس حكومة لا سلطة له، حتى على أمواله وشركاته، رئيس حكومة لا يكاد يُبين، يعاني من عسر فظيع في القراءة، وفراغات كبيرة في الفكر.. لا يستطيع تكوين جملة واحدة مفيدة وتتضمن فكرة واضحة.. ومع ذلك، فهذا هو النموذج المفضل لدى الدولة ليكون رئيسا للحكومة، لا شخصية له، لا فكر له، لا ثقافة له، لا كاريزمة له، لا تاريخ نضالي له، لا مشروع سياسي له.. دوره أن يوصل عجين الدولة إلى الفرن .. وعند الضرورة يقدم شرحا مشوها لمكونات ذلك العجين الفاسد بلغة متلعثمة وكلمات مبعثرة ومفردات لقيطة وفكر مشوه..
الدولة تعي جيدا أن هذه الحكومة منبوذة ومكروهة ومحتقرة من طرف الجميع، من طرف النساء والرجال، الصغار قبل الكبار، العاطلين والعاملين، التجار والحرفيين، الأمي والمتعلم، من كل أطياف الشعب.. وتعلم أنه ذات يوم قريب سيتم طردها بالحجارة والطماطم والبيض الفاسد، ورغم ذلك متمسكة بها، تهيئ لها كل أسباب التمكين والبقاء، جاثمة على صدور المواطنين المنهكين بسبب قهر غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار، والتعامل المهين من طرف رجال السلطة وأعوانها…
والحكومة الآن، تعيش أحلى فتراتها وأسعد أيامها، فالصحفيون المزعجون معتقلون، والمثقفون صامتون، ولا وجود لأي معارضة حقيقية، باستثناء معارضة واحدة، اختار زعيمها نوعا جديدا من المعارضة، أطلق عليه المعارضة الهادئة، وهي معارضة ناعمة ورقيقة المشاعر. أعطته في الأول مهلة سنة قبل أن تقوم بالمعارضة القوية، وبعدما انتهت تلك السنة، خطب زعيم المعارضة أنه لا يعارض لا الدولة ولا الحكومة، علما أن معارضته لأخيه في الحكومة السابقة كانت أقوى وأشرس معارضة مارسها في تاريخه السياسي.. معارضة تحت عنوان: بأسنا بيننا شديد، فكان من نتائج ذلك، المزيد من حظوظ ارتفاع تحليق الحمام في سماء المغرب الكالحة، ويخفت نور المصباح، وتستغل الدولة ذلك الشقاق من أجل تعميقه والاستفادة منه لفائدة مشروعها الكبير.. المزيد من التحكم .. المزيد من الاستبداد ..
نعم، حكومة الحمامة تعيش أزهى فتراتها، لا معارضات، لا مضايقات، لا نقابات، لا أحزاب.. وهي فرصة ذهبية لتمرير أكبر قدر من المصالح والمشاريع والامتيازات على حساب الشعب التعيس الفقير ..
السنن الاجتماعية، وعبر التاريخ، تقول بضرورة دخول الشعوب المقهورة والمنكوبة في عمل احتجاجي ضد ما يمارس عليها من ظلم وقهر وتضييع لحقوقها.. هذه طبيعة الشعوب، وطبيعة المجتمعات، وذلك دليل على حياتها، وإلا أصبحت في عداد الموتى.. هكذا كان التاريخ، وهكذا سيستمر .. الشعوب تتحرك لترفع عن نفسها الظلم الذي يمارس عليها، والذل الذي تعيش فيه، والفقر الذي يفرض عليها، الشعوب تتحرك من أجل تحقيق الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية لها، تريد حقها في الثروة والعيش الكريم، وهذا ما يعيشه الشعب المغربي، وذلك ما يطلبه كَحقٍ له، ولقد بدأت مؤشرات ذلك تظهر هنا وهناك..
رغم ذلك ابن كيران يرفض أن يقوم الشعب المغربي بالاحتجاج للمطالبة بحقوقه، بحجة حماية الاستقرار والأمن، فهل يوجد استقرار مع التفقير وأمن مع الاستبداد ؟ وبحجة أن نهاية الحركات الاحتجاجية مجهولة وغير مضمونة النتائج! وهل مستقبل المغرب واضح ومعروف في ظل هذا الواقع المأساوي؟ هل يستطيع أحد أن يقول لنا أين تقود الدولة هذا الوطن بهذه القرارات والممارسات (التطبيع، الحشيش، الخمور، المثلية، التعليم، احتكار الثروة، الفقر، الفساد….)، ورغم فضائح الحكومة المتزايدة، لا يصنف ابن كيران نفسه (وليس حزب العدالة والتنمية) ضمن المعارضة، بل لا يريد (وكما قال في إحدى خرجاته) أن ينتصر على الدولة، بل أن تنتصر الدولة به !! السؤال: تنتصر الدولة به ضد من ؟
الشعب الآن مرهون بين دولة تحتكر كل السلط، وحكومة كومبرادورية بلا سلط، ومعارضة لا تعارض ولا تدعو إلى فصل السلط.
وأمام حالة التيه السياسي والضياع الاقتصادي الذي تقود فيه الدولة القوية هذه الحكومة الضعيفة، وتقود فيه هذا الشعب المسكين إلى المجهول، جاء الوقت ليحدد كل مسؤول موقعه الحقيقي؛ هل هو إلى جانب الشعب أم ضده؟ الشعب الآن أعزل ويعاني وحده كل أشكال الظلم والقهر والفقر، ولا يوجد رجل شهم أو حزب قوي ليدافع عنه بدون حسابات سياسية ضيقة أو اعتبارات حزبية صغيرة.. ولكن إلى متى؟