الجمعة. نوفمبر 22nd, 2024

مشاهد مباشرة من القاهرة: المشهد 10

خدوا بالكم من هذا البلد الذي يسمى مصر

نورس البريجة: خالد الخضري

1 – مصر بالألوان.. قراءة مغربية في عين المكان

قبل 30 سنة حين زرت مصر لأول مرة سنة 1992 خرجت بكتابي عنها: ” مصر بالأبيض والأسود، قراءة مغربية في عين المكان” تضمن ارتساماتي الأولى عن هدا البلد الدي يحلم كثيرون بالدهاب إليه أيا كانت جنسيته ولكل دوافعه. كما تضمن حوارت مع باقة من رجال الفكر والفن المرموقين على راسهم الأستاد نجيب محفوظ رحمه الله. وحين دعيت لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته 44 الحالية 2022، نشرت سلسلة مقالات تحت عنوان: ” مشاهد مباشرة من القاهرة” فاقترح علي بعض الصديقات والأصدقاء على رأسهم الصديق هشام الودغيري أن أكتب هده المرة عن “مصر بالألوان”.. وجدت اقتراحه مناسبا وها أنا افعل.

مَصر / القاهرة تحديدا تغيرت بعد 30 سنة.. وقعت أحدات ..اندلعت ثورات.. توفي مبدعون.. ولد آخرون.. تغيرت الشوارع.. شُيدت جسور “كوبريات”.. أُحدث ميترو الأنفاق.. تبدلت العقليات وهدا طبيعي فلا شيء يدوم على حاله. لكن تمة شيئ / أشياء باقية كما كانت.. هي هي.. لا زل النفس الثقافي والفني منتعشا.. لازال سحر النيل فعالا.. ولا زال وهج القاهرة ليلا متأججا. ومهما صادفتك من عراقيل وزحمة مواصلات.. وضجيج محركات السيارات وزعيق أبواقها .. وثلوت جوها.. وضيق وقتها، فإنك لا تملك إلا أن تحبها. وكما كتب الأديب يحى حقي التركي الأصل والدي أصبح مصريا أكثر من المصريين:

“خدوا بالكم من هده الأرض التي تسمى مصر.. ففيها سر من أسرار الله لا يمكن أن تعرفه.. ولا يمكنك إلا أن تحبها”

2 – مدينة بحجم قضية

كان ينبغي أن أحزم الحقائب وأشحن الكتب  لأعود

أليس لكل شيء نهاية ؟

تلك الليلة الأخيرة بأرض الكنانة أرقتني فبت على عتبتها أستجدي حنينا لزيارتها من جديد. وتكاثف الحنين لحد الإدمان كي أعود من جديد لمصر وأن أنهل من ماء النيل وأسبح فيه.. حتى أضحت المدينة بحجم قضية.كان علي  أن أكسبها أو تكسبني المهم ألا تبقى في المداولة. وإذا بي أباشر الغروب بين السحاب الأرجواني من علو شاهق. فانغمس في لجة حلم يتحقق حين وجدتني لأول مرة أتمسح بأديم قاهرة المعز..

وأخطر فوق رمال الجيزة تحت نظرات أبي الهول الرابض في وداعة وجبروت يدفئ بحمايته الأهرام والمدينة

أنحشر بين أناسها وحواريها

أتسلق شوامخها، وهي أرض منذ الأزل تعشق  السموق وترنو إلى السماء والخلود، من الأهرام إلى مآذن الفاطميين، ومن قلعة صلاح الدين إلى الفنادق  الشاهقة فبرج القاهرة.

لم أصدق حين وطأتها لحظة وصولي في منتصف ليلة قارسة أن حرارتها ستؤججني أياما وليالي ولن تخبو  هذه المدينة “القاهرة” بحيويتها وأن نيلها سيعبرني ولن ينحسر

خريفا تستعصي على الوجدان؟

لذا، أحسني بترابها معفرا لازلت

ببخورها الفائح بين جنبات آل البيت يخدرني وما صحوت…

بمذاق الطعمية التي تناولت بخان الخليلي وما سئمت

ولا الشاي أو السحلب الذي شربت بقهوة الفيشاوي

وما ارتويت.

3 – “ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين”

تلك  أول صورة تلتقطها عدستك وأنت تهم بولوج ميناء القاهرة الجوي

مما يمنحك شعورا بأنك واطئ أرضا مقدسة ذكرت بالقرآن الكريم عدة مرات

ثم يتضخم لديك المشهد الديني تدريجيا وأنت تتغلغل بين شعاب المدينة سواء عبر ما يصادف بصرك من مناظر، أو بما يحمله إليك مجرى الصوت من حوارات، ومؤثرات وأنغام

ففي كل محل تجارة، أو عربة نقل، أو حتى بعربة يد، تجد آية قرآنية أو حديثا نبويا، أو تسمع ذكرا، في أغلب المطاعم – لاسيما الشعبية – تقرأ:

“وكلوا من طيبات ما رزقناكم”

عند بائع مشروبات من شاي وقهوة أو عصير قصب يكتب:

“وسقاهم ربهم شرابا طهورا”

في حديثك مع النادل، أوسائق  الطاكسي أو عامل المصعد، تلمس هذا الإحساس المصري المؤمن بقوة القضاء والقدر والاتكال على الله الذي يتكرر ذكره في أي حوار عادي

فسائق الطاكسي حين تطلب منه أن ينزلك في المحطة المقبلة ولو كانت على  بعد بضع خطوات فقط، يجيبك “حاضر إن شاء الله”

وحتى حين يتذكر من غلاء المعيشة وضنك العيش يردد، وهو يقبل ظاهر وباطن كفه “مستورة والحمد لله”

وإذا خضت معه حديث السياسة والإرهاب وكان ملتحيا يرد “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا” وإذا لم يكن كذلك يقول “ربنا على المفتري”

وفي أي وقت من أوقات الصلاة تنفجر القاهرة بالآذان، عشرات المساجد تتدفق تراتيلها متناغمة دفعة واحدة حيث يستهويك الإنصات مما ينعش الحس الإسلامي ولا يخدش طبلة الأذن بأي نشاز أو زعيق.

حتى بعدد من سيارات الأجرة والحافلات الصغيرة “الميكروباص”  لا تسمع إلا تلاوة  القرآن أو خطب المرشدين والوعاظ.. وفي أخرى أغاني نانسي عجرم أو الليثي أو عبد الباسط .

وعلى جنباتها أو خلفياتها تقرأ على سبيل المثال : “خف الله” أو “إذا كان الله معنا فمن علينا”

داخل سيارة أجرة قرأت مرة في لوحة صغيرة أمام السائق: “وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها”

بينما لدى آخر وفي نفس الوضع تقريبا من جهة الزبون، قرأت: “نصيبي كده”

وعند باعة الأشرطة والأقراص  تمتزج ترانيم الذكر وابتهالات الشيخ ياسين رشدي بمواويل محمد العزابي أو أحمد طنطاوي.. ومواعظ الشيخ الشعراوي  بليالي أحمد عدوية وعمر دياب.

تلكم هي مدينة المتناقضات

  • الإهداء: إلى الزميل والصديق المحامي المصري الأستاد شوقي نصيف حبيب

Related Post

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *