منقول عن الجزيرة
لعبت فرنسا دورا مهما في مسار ثورات الربيع العربي، فشكَّكت فيها في البداية، ثم دعمتها رسميا في مرحلة أخرى، لكنها عادت في الأخير ووقفت ضدها بطريقة ملتوية رافعة شعار محاربة الإرهاب. (الجزيرة)
بقلم: المهدي الزايداوي
ترتبط بلاد العرب في المخيال الغربي عموما والفرنسي خصوصا بصور نمطية، مثل الجِمال والأحصنة والكثبان الرملية في الصحاري المترامية، ثم النساء الجميلات الساحرات اللائي يأسرهن الرجال والعادات والتقاليد. ويُعَدُّ فهم جذور النظرة الاستشراقية الفرنسية مدخلا لفهم علاقة باريس بالمنطقة، حيث استمرت هذه الصورة المختزلة في الهيمنة على العقل الفرنسي، منتقلة من ساحة الخيال إلى ميدان الصدام والمنازلة الحضارية.
حدث ذلك حين احتلت فرنسا جزءا كبيرا من أراضي العرب في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، واحتكت مباشرة بشعوبها. كان الاحتلال الفرنسي بالخصوص هو أشرس أشكال الاستعمار، وأكثرها حرصا على استلاب الوعي والعقل، في سلوك لم يسلم من التعالي والعنصرية، وحتى حين رحل الاستعمار، بقي الخيال الاستشراقي عن المنطقة حاضرا في العقل السياسي الفرنسي، موجِّها سياستها، وحاكما على تحركاتها وتحالفاتها في المنطقة. واللافت أن بعض تلك النظرة الخيالية التقليدية عن الشرق ظل ملازما لرجال الإليزيه، حيث لم تنقطع أسفار الكثير من رؤسائهم عن المنطقة للمتعة والسياحة، فقد أُعجب الرئيس الفرنسي السابق “فرانسوا ميتران” بمدينة الأقصر المصرية، وأحب “نيكولا ساركوزي” مدينة مراكش المغربية، فيما عشق “جاك شيراك” مدينة “تارودانت” بالجنوب المغربي.
لكن مع حلول عام 2011، واجهت فرنسا صورة أخرى ترفض أن تعترف بها، ووجدت نفسها في مواجهة نسخة جديدة من العالم العربي بعيدة عن الخيال الاستشراقي عن هذه المنطقة، فلم تكن شمس بلاد العرب ولا رمالها هي ما طغى على المشهد هذه المرة، بل حضرت مفردات أخرى لم تستسغها باريس وسرعان ما أنكرتها: مصطلحات مثل الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة.
باريس.. صديقة الأنظمة القمعية:
بدأت قصة الربيع العربي كما هو معروف من تونس بعد حادثة البوعزيزي الشهيرة، كان المشهد مفاجئا للجميع، حتى فرنسا التي ربطتها علاقات دبلوماسية وحكومية واستخباراتية بتونس لعقود طويلة. وقد ذُهِل الجميع في باريس، الصحافيون والدبلوماسيون بل ومسؤولو المخابرات أنفسهم بما حدث، رغم أن جميع المؤشرات أكَّدت قبلها أن انفجار الاحتجاجات في العالم العربي مسألة وقت ليس إلا، كما أشارت إلى ذلك تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي التي نُشرت بين عامي 2002-2009 حول التنمية البشرية في العالم العربي.
سلطت العديد من التقارير سواء الدولية أو العربية الضوء على الوضع الكارثي الذي وصلت إليه المنطقة بالتواطؤ مع أنظمة غربية لم تعر اهتماما كبيرا للتوترات والحراك المجتمعي بداية الألفينيات في عدّة دول عربية. ورغم أن أحدا لم يتوقع حجم الانفجار، فإن بعض المسؤولين الفرنسيين ومعهم مسؤولون أميركيون حاولوا تحذير الأنظمة العربية “الصديقة” لهم من التطورات المقلقة، لا سيما البطالة التي وصلت حينئذ إلى شرائح واسعة من الشباب المتعلم.
لم تكن المفاجأة في الانفجار فقط، بل في المكان أيضا، تونس الخضراء، التي عاشت نوعا من الاستقرار المفروض على الشعب بواسطة نظام “زين العابدين بن علي”. ورغم الفساد الكبير الذي عانت منه البلاد، وتصدَّرته عائلة “ليلى الطرابلسي” زوجة بن علي، فإن عددا من الدول الغربية نظر إلى تونس بوصفها “تلميذا غربيا نجيبا” وخصوصا في الاقتصاد، رغم عدم امتلاكها موارد طبيعية مهمة، وهو أمر نال إشادة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي على حدٍّ سواء. بيد أن سقوط قطع الدومينو بدأ من تونس نفسها في الأخير، وكما كان الوضع في قصر قرطاج، ساد الارتباك في الإليزيه الذي ظهرت دبلوماسيته متخبطة فيما يخص “ثورة الياسمين”، وهو تخبُّط سرعان ما تحوَّل إلى عداء صريح مع الثورات العربية.
لم تُبدِ فرنسا مرونة في إظهار دعمها للقوى المعارضة المقموعة، خصوصا الإسلامية منها.
اختارت فرنسا منذ خروجها من مستعمراتها ترجيح كفة الاستقرار على الحريات، فشكَّلت علاقات قوية مع رؤساء الدول الاستبدادية، مثل “بن علي”، الذي رأت فيه باريس رجلا يحكم تونس بالحديد والنار، ويقمع الإسلام السياسي في الوقت نفسه، وهي ميزة فضَّلتها فرنسا في أي حاكم تعاملت معه، مما جعل “ساركوزي” يشيد في زيارة لتونس في إبريل/نيسان 2008 بمساحة الحرية التي تتسع في البلاد، رغم هيمنة القمع البوليسي وانتهاك حقوق الإنسان الذي لا تُخطئه عين آنذاك. وبالمثل، تصالحت الدول الغربية مع “معمر القذافي”، الزعيم الليبي الراحل، و”حسني مبارك”، الرئيس المصري الراحل وأحد الرؤساء المفضلين لدى باريس. ولذا دعمت فرنسا مبارك للحصول على رئاسة الاتحاد من أجل المتوسط، بل وحاولت تجديد علاقاتها قبيل الربيع العربي مع “بشار الأسد” الذي دُعي في يوليو/تموز 2008 بمناسبة إعلان الاتحاد المتوسطي.
ونظرا لهذه الإستراتيجية الفرنسية، لم تتحمس باريس على ما يبدو لوجهة النظر الأميركية التي اعتبرت التبشير بالحريات والديمقراطية مهمتها الخارجية الرئيسية، إذ رأى الفرنسيون أن إيصال الديمقراطية إلى الدول القمعية يستدعي مجهودا كبيرا وطويلا ومسلسلا من التغيير يلعب فيه المجتمع المدني دورا محوريا، ولذلك لم ترغب فرنسا في دعم هذه التجربة، ولم تُبدِ مرونة في إظهار دعمها للقوى المعارضة المقموعة، خصوصا الإسلامية منها.
باريس لا تحب عطر الياسمين:
بعد اندلاع الحراك في تونس، ورغم أنها واحدة من الدول التي حذرت بنفسها الأنظمة العربية من انفجار قد يكون وشيكا، قلَّلت فرنسا من شأن ما جرى بعد 2011، معتبرة إياه مجرد “اضطرابات اجتماعية”، وهو ما ظهر بوضوح في حديث “ميشال آليو ماري”، وزيرة الخارجية الفرنسية السابقة أمام برلمان بلادها، عندما قالت إن باريس قادرة على مشاركة تونس “البراعة الفرنسية” في حفظ الأمن إن هي أرادت ذلك، وهو حديث أدلت به قبل 3 أيام فقط من فرار “بن علي” من تونس وإعلان انتصار الثورة. وبعد هروب “بن علي”، وفي الوقت الذي خرج فيه الرئيس الأميركي “باراك أوباما” لتحية “كرامة وشجاعة الشعب التونسي”، راقبت فرنسا “عملية التحول الديمقراطي بحذر” دون إبداء أي حماس للتغيرات الحادثة حينئذ.
وفي حديثه مع “ميدان”، قال الباحث التونسي “خير الدين باشا” إن الموقف الفرنسي شابه تخوُّف واضح من أن تركب دول أخرى على هذا الحراك، ثم تجعله يتخذ مواقف معادية للمصالح الفرنسية، حيث إن فرنسا لها العديد من المصالح في تونس كما هو معروف، مثل عقود شركة توتال، كما أن باريس خشيت من أن يتسبب الوضع الأمني المتردي في زيادة عدد المهاجرين إلى أوروبا. ولكن سرعان ما أدركت فرنسا خطأ سياستها الكارثية في بلاد الياسمين، ولذا كان ضروريا إيجاد “كبش فداء” كما وصفه الباحث الفرنسي “دنيس بوشار”، فوقع الاختيار على التمثيلية الدبلوماسية الفرنسية في تونس، التي قيل إنها لم تلعب دورها في نقل حقيقة المشهد إلى الإليزيه. انتهت هذه الحقبة بإقالة وزيرة الخارجية “ميشال آليو ماري”، وعودة زميلها المخضرم “آلان جوبي” الذي بات مطالبا برسم ملامح سياسية خارجية فرنسية أكثر ملاءمة للوضع العربي الجديد بعد 2011.
بمجرد تسلمه حقيبة الخارجية في مارس/آذار 2011، بدأ جوبي التحرك وسافر إلى مصر وتونس للقاء المحتجين وفهم مطالبهم، وفي 16 إبريل/نيسان أشاد الرجل بالتطلعات الديمقراطية للشعوب العربية، مؤكدا رغبة بلاده في إتمام عملية التحول الديمقراطي، وهو خطاب سرعان ما تبنَّاه الرئيس الفرنسي حينها “ساركوزي”، الذي أكد في لقاء مطوَّل مع “لُكسبريس” أن التغييرات السلمية التي عرفها العالم العربي تُعَدُّ أجمل خبر زُفَّ للديمقراطية وسط الكثير من الأخبار السلبية. ومع ذلك، فقد ظل الحماس الفرنسي للتغييرات في البلدان العربية محدودا حتى مع وصول الرئيس الاشتراكي “فرانسوا هولاند” إلى الحكم. ففي خطابه أمام سفراء بلده عام 2012، تطرق “هولاند” سريعا لثورات الربيع العربي، داعيا التيارات السياسية “الإسلامية” إلى احترام الحريات وعلى رأسها حرية النساء والأقليات الثقافية والدينية، مؤكدا أن بلاده ستقوم بدورها الكامل في الدفاع عن حرية الصحافة وحقوق الأقليات للمشاركة في الحياة السياسية، دون أي إشارة إلى إرث باريس في دعم الأنظمة الاستبدادية السابقة. في السياق نفسه، أتت كلمة “لوران فابيوس”، وزير خارجية هولاند، يوم 27 يونيو/حزيران 2012 في ختام ندوة “فرنسا والعالم العربي الجديد”، التي أكَّد فيها استبشار فرنسا بالتحولات الديمقراطية، مع تحليها بنوع من الحذر لصعوبة توقع سير الأحداث في ظل الثورات. وقد أشار “فابيوس” إلى أن بلاده لا تنوي التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، لكنها تطمح إلى مشاركة هذه الدول سياسيا واقتصاديا واجتماعيا لإنجاح مرحلة الانتقال الديمقراطي، معترفا بأن فرنسا أخلفت الموعد مع الدعم الواضح في بداية الحراك، ومعربا عن أمله في “ألا تخلف الأحزاب الإسلامية الموعد وتحاول الوصول إلى حلول متفق عليها من باقي التيارات السياسية”، ومشيرا إلى تخوُّف بلاده من أن يقطع “الإسلاميون” تذكرة ذهاب بلا عودة لتداول الحكم، ومن ثمَّ عودة القمع الذي ولَّى مع الأنظمة البائدة، بحسب قوله.
الثورات الدموية.. ليسوا سواء:
يمكننا عزو هذا التخبط في السياسة الخارجية الفرنسية إلى أسباب عديدة، على رأسها عدم وجود إستراتيجية فرنسية واضحة في التعامل مع العالم العربي في ظل تضخم الدور الأميركي في العقود الأخيرة. على جانب آخر، فإن الرؤساء الفرنسيين أنفسهم اختلفوا نوعا ما في بعض القضايا بسبب أولوياتهم السياسية المتباينة، وهو ما ظهر في البلدين اللذين كسرا مسلسل الخروج “السلمي” للحكام بعد “بن علي” و”مبارك”، حيث أدخلت وحشية بعض الأنظمة الثورات العربية مرحلة الدماء التي لا تنضب: سوريا وليبيا.
مع بداية الحرب في سوريا أبدت فرنسا تحفظا كبيرا في كل شيء، إلا في انتقاد الأسد. فلم يفوت “ساركوزي”، الذي تدهورت علاقة بلاده بدمشق قبيل الثورة، فرصة لإدانة النظام السوري وجرائمه ضد شعبه، كما وصف وزير خارجيته جرائم النظام بـ”البربرية والوحشية”. لكن كل هذه الإدانات لم تُترجَم أبدا إلى تحركات على الأرض، فقد رفضت فرنسا الحديث في البداية عن أي تدخل عسكري ضد الجيش السوري، واختارت الحل الآمن المتمثل في دفع الاتحاد الأوروبي إلى تطبيق العقوبات الاقتصادية على نظام الأسد مع دعم سياسي للمعارضة السورية “المعتدلة” وبعض العطف الإنساني “المحدود” على اللاجئين الذين فروا من الحرب نحو تركيا والأردن.
بعد رحيل “ساركوزي” وقدوم “هولاند”، بدا الأمر أكثر تعقيدا. صحيح أن الرئيس الجديد أبدى تعاطفا أكبر مع سوريا ورغبة أكبر في إزاحة نظام الأسد، لكن الحسابات السياسية كانت أعقد مما تمناه. تحولت الثورة إلى حرب أهلية، وسرعان ما أدت إلى ظهور التنظيمات الجهادية التي لا تُفضِّلها باريس بحال على جيش الأسد، كما أن الوضع الكارثي بدأ يمتد إلى لبنان، البلد الذي ترتبط به فرنسا تاريخيا وتهدف إلى الحفاظ عليه مستقلا عن جارته سوريا. لم يقدم “هولاند” أيَّ إضافة تُذكر بسبب عجز فرنسا عن التحرك داخل مجلس الأمن في وجود روسيا، وتشرذم المعارضة السياسية رغم اعترافها بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية ممثلا وحيدا وشرعيا للشعب السوري.
بعد رحيل “هولاند” وتولِّي الرئيس الحالي “إيمانويل ماكرون” لم يتغير الوضع كثيرا، فقد بقي الأسد بل واستعاد زمام الأمور بفضل الدعم الروسي، وقد اعترف ماكرون نفسه بذلك في لقاء صحافي في ديسمبر/كانون الأول 2017، حيث قال حينها: “الأسد سيظل هنا، لا يمكننا أن نقول إننا لن نتحدث معه، لكنه سيكون مطالبا في يوم ما بالوقوف أمام شعبه وأمام القضاء لدفع ثمن جرائمه”. لم يمنح الواقع السوري المعقد فرنسا تلك الفرصة التي حلمت بها من أجل استعادة بريقها في الشرق الأوسط، لذا فإنها للغاية ذاتها طرقت أبواب بلد آخر كان التدخل المباشر فيه أبسط وأقل تعقيدا وهو ليبيا القذافي.
واجه القذافي، تماما كالأسد، المظاهرات السلمية بعنف مباشر، وخرجت حينها “ميشال آليو ماري” في تصريح يوم 21 فبراير/شباط 2011 للمطالبة بإيقاف العنف في ليبيا فورا. وبعد ساعات قليلة، صرَّح “فرانسوا فيون”، الوزير الأول حينها بأنه “مذعور” من انفجار العنف في ليبيا بهذه الطريقة. لم تُضِع فرنسا الوقت كثيرا، ففي 23 فبراير/شباط اقترحت على الاتحاد الأوروبي الإسراع في اتخاذ عقوبات ملموسة تستهدف نظام القذافي، مجددة طلبها يومين بعد ذلك في الأمم المتحدة، ومطالبة بفتح تحقيق سريع في “الجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها الزعيم الليبي في حق شعبه”، مطالبة القذافي بالتوقف والرحيل، ومُعرِبة عن أملها في محاكمته أمام المحكمة الجنائية الدولية.
تمكَّنت باريس من تحقيق بعض أهدافها بسرعة شديدة، فقد تبنَّى عدد من الدول الغربية مثل سويسرا والولايات المتحدة والنمسا وبريطانيا وإسبانيا قرارات تجميد الأرصدة البنكية للقذافي ورجاله، وفي 4 مارس/آذار بدأ الطيران الفرنسي في التحليق فوق ليبيا في رحلات استكشافية، ثم استقبل “ساركوزي” في الإليزيه ممثلين عن المجلس الوطني الانتقالي الليبي، ليكون بذلك أول زعيم يعترف رسميا بأن المعارضة الليبية الممثل الوحيد والشرعي للشعب الليبي. وفي 17 مارس/آذار تمكَّنت فرنسا من إقناع مجلس الأمن بالتدخل عسكريا في ليبيا عبر ضربات جوية مركزة لـ”إضعاف النظام وحماية المدنيين”. وبداية من 31 مارس/آذار انطلقت الحملة العسكرية في ليبيا بقيادة حلف الشمال الأطلسي “الناتو”، واستمرت الحملة حتى سقوط طرابلس في أغسطس/آب وهروب القذافي الذي قتله الثوار بعد ذلك في 20 أكتوبر/تشرين الأول.
أدرك الإليزيه بعد سقوط “بن علي” و”مبارك” أن المرحلة القادمة ستطيح بمزيد من الدكتاتوريات العربية، وأن سقوط القذافي أيضا مسألة وقت حسب تكهنات مقربين من الرئاسة الفرنسية، مثل مستشار “ساركوزي” الخاص “هنري غينو”، والسكرتير الخاص السابق للرئاسة الفرنسية “كلود غيان”. في البداية سار كل شيء على ما يرام، وظهرت السعادة بالغة على مُحيَّا “ساركوزي” بتحقيقه هذا النصر العسكري الدبلوماسي، وهو ما تجلَّى خلال زيارته لطرابلس وبنغازي في سبتمبر/أيلول 2011، حينها زادت سعادة الرئيس الفرنسي بسماعه ذلك الهتاف الشهير: “وان، تو، ثري، ڤيڤا ساركوزي”.
لكن شهر العسل الفرنسي في ليبيا كان قصيرا، فما طمحت إليه باريس من وراء التدخل لصالح المعارضة الليبية من أن يصبح النظام الجديد أكثر كرما ويمنحها عقودا تجارية مربحة في كعكة البترول الليبي سرعان ما تبخَّر. لقد اعتبرت فرنسا نفسها معنية بكل ما قد يحدث بعد رحيل القذافي ودخول ليبيا في مرحلة انتقالية جديدة، لا سيما وهي ثاني مستورد في العالم للنفط الليبي بعد إيطاليا، علاوة على الغاز الطبيعي الليبي الذي وفَّر لها نحو 15% من حاجياتها عام 2010. بالإضافة إلى ذلك، طمحت باريس إلى تعزيز حضورها داخل ليبيا عبر خط إنتاج للنفط، فلم تكن شركة “توتال” تنتج سوى 2.6% من النفط الليبي، في حين حصلت الوكالة الوطنية الإيطالية للمحروقات “إيني” على نسبة تصل إلى 14%.
عصر الحلفاء الجدد:
في مقال له على موقع “ليبراسيون”، وصف لنا “بيير فيرميران”، الكاتب والمؤرخ الفرنسي المختص بمنطقة المغرب العربي، سمات الحاكم الذي تحبه فرنسا، وهو ذلك السياسي البيروقراطي الذي بدأ مسيرته في الستينيات أو السبعينيات، ويلعب دور الحارس الحازم على شعبه، ولعله عمل سابقا ضابط شرطة، أو محققا استخباراتيا، أو حتى عضوا في الحزب الحاكم. لا يملك هذا الرجل القوي أي انتماء أيديولوجي، لا يفهم، بل لا يهتم أصلا بالشعارات والنضال ولا الثقافة، يكره الجميع على حدٍّ سواء، الملتحون بداية والمثقفون أيضا، كانت فرنسا تبحث دوما عن شخص بهذه المواصفات في البلدان التي تعتبرها ساحة نفوذ لها، شخص بإمكانه لعب دور “عصى الردع” لكل مَن تُسوِّل له نفسه محاربة الاستقرار الذي سيُفرَض كرها لا طوعا.
في ليبيا كانت فرنسا تبحث عن شخص بهذه المواصفات تماما، خاصة بعد أن بدأت باريس تعاني مع الهجمات المسلحة التي استهدفت أراضيها منتصف العقد الماضي. هذه الهجمات، حسب مقال “لرولان لومباردي”، المؤرخ والكاتب المختص في العلاقات الدولية، اعتبرتها السلطات الفرنسية في أروقتها الداخلية عقابا على مواقفها من القضية الليبية. ونتيجة لذلك، بدأ التغيير يعرف طريقه إلى السياسة الخارجية الفرنسية مجددا، التي أصبحت أكثر براغماتية أو أكثر انفصاما إن توخينا الدقة، ففي الوقت الذي كان فيه “لوران فابيوس”، وزير الخارجية الفرنسي، يؤكد دعم بلاده لحكومة طرابلس المعترف بها دوليا، التي يقودها فايز السراج، كان “جون إيف لودريان”، وزير الدفاع حينها، يقترب أكثر فأكثر من “الجيش الوطني الليبي بطبرق” الذي كان يقوده الجنرال المتقاعد خليفة حفتر.
حارب حفتر الجميع، الإسلاميين أولا وحكومة طرابلس معهم، وتمكَّن من تلميع نفسه بعد انتصاره على “الجهاديين” في بنغازي عام 2014، حيث تمكَّن من نسج شبكة مصالح داخلية تتكون من المُعادين للإسلاميين ورموز سابقين في نظام القذافي، أما خارجيا فقد كان الرجل يجمع خلفه نخبة من الدول التي وجدت مصلحة مشتركة في مناهضة الأنظمة الجديدة التي أخرجتها الثورات، وعلى رأسها باريس التي بدأت تشعر بالفزع من صعود الإسلاميين. في هذا الوقت، استعان الرئيس الفرنسي الجديد ماكرون بجون إيف لودريان، وزير الدفاع السابق الذي أصبح وزيرا للخارجية، وهو رجل براغماتي كان من الأساس معارضا لخيارات الرئيس السابق هولاند فيما يخص الملف الليبي.
شاهد لودريان الصعود السريع لحفتر بداية من عام 2014 مستعينا بالمعلومات التي تصله من الاستخبارات الفرنسية، لذلك كان الاختيار بالنسبة لوزير الخارجية الجديد واضحا للغاية، فرنسا يجب أن تقف مع حفتر لا السراج، بجانب كل من مصر والإمارات التي تشارك فرنسا العداء لمشاريع “الإسلام السياسي” في المنطقة.
آثر “ماكرون” الذي لم يعرف الكثير عن المنطقة العربية أن يثق في حنكة وزير خارجيته، فلم يُلقِ بكامل أوراقه وراء حكومة السراج المعترف بها دوليا، لكنه حاول إمساك العصا من المنتصف. ففي حين حاول ماكرون الظهور بمظهر المؤيد لاتفاق الصخيرات الذي عُقد في ديسمبر/كانون الأول 2015 ونصَّ على ضرورة منح السلطة لحكومة شرعية معترف بها دوليا تعمل على تسيير شؤون البلاد واحتضن لقاء في يوليو/تموز 2017 بين طرفي النزاع انتهى بتوقيع اتفاق توقف إطلاق النار والعمل على إجراء انتخابات ديمقراطية، فإن العديد من المؤشرات أكَّدت وقوف فرنسا فعليا بجانب “خليفة حفتر”، أحدها تحطُّم طائرة مروحية كانت تقل 3 جنود فرنسيين في يوليو/تموز 2016 خلال عملية استخباراتية قرب بنغازي.
ومن ليبيا إلى مصر، حيث اختارت باريس دعم النظام الجديد الذي وصل إلى السلطة عام 2014. في غضون ذلك، تجاهلت باريس الاتهامات الحقوقية التي لاحقت الحكومة المصرية، حتى إن ماكرون اضطر إلى التصريح خلال إحدى الزيارات الرسمية بين باريس والقاهرة في ديسمبر/كانون الأول 2020 بأنه سيظل المحامي المدافع عن مشروع الانفتاح الديمقراطي في مصر، والمطالب بمجتمع مدني فعال، مستدركا بالقول إن المؤاخذات على الملف الحقوقي لن تؤثر على الشراكة الإستراتيجية بين البلدين.
حملة “السلاح للجميع”:
في غضون ذلك، كانت فرنسا توثق علاقاتها الأمنية والعسكرية مع السلطة الجديدة في مصر، وكانت العلامة الأبرز على هذا التعاون هي قيام باريس بتقديم “فخر المنتجات العسكرية الفرنسية”، طائرة الرافال إلى القاهرة في صفقة قُدرت قيمتها بـ5.2 مليارات يورو. لم تقتصر الأمور على رافال، حيث ارتفعت الواردات المصرية من الأسلحة الفرنسية بنسبة 69% خلال الفترة بين عامي 2012-2016 مقارنة بالفترة بين عامي 2007-2011، لتصبح مصر ثالث أكبر مشترٍ للسلاح والمعدات الفرنسية في هذه الفترة. وبشكل رقمي، ارتفع الإنفاق المصري على الأسلحة الفرنسية من 9.8 ملايين يورو عام 2011 إلى 1.3 مليار يورو عام 2016. بالعودة إلى ليبيا، كانت الحرب لا تزال محتدمة بين الفرقاء السياسيين، وفيما لم تتحمَّس فرنسا للإعلان عن وجود سلاحها في ليبيا الذي يدعم طرفا على حساب آخر، فإن الأخبار خرجت إلى العلن بعد اكتشاف مدافع “جافلن” أميركية الصنع في مخزن للسلاح تابع لقاعدة “غريان” الموجودة على بُعد 80 كيلومترا من العاصمة الليبية طرابلس في يونيو/حزيران 2019. وقد تمكَّن صحافيون من جريدة “نيويورك تايمز” من التأكد من أصل هذه المدافع بفضل رقمها التسلسلي، وتبين أنها أسلحة اشترتها فرنسا من الولايات المتحدة عام 2010 لتسليح جنودها في أفغانستان، وكان هذا أول دليل مادي على دعم الحكومة الفرنسية للجنرال الليبي “خليفة حفتر”.
اعترفت الحكومة بأن الأسلحة التي عُثر عليها مملوكة للجيش الفرنسي، لكنها نفت أن تكون هذه الأسلحة موجهة للبيع أو الشراء أو الدعم لأي طرف عسكري خارجي، مؤكدة أنها تابعة للقوات الفرنسية الناشطة في مجال محاربة الإرهاب، وبعد التأكد من تلف هذه الأسلحة تُركت في مخزن السلاح حيث وُجدت. نفت فرنسا تسليح حفتر، بيد أن هذا لم يمنعها من الاعتراف بأهميته في إستراتيجيتها لمحاربة “الإرهاب” رفقة شركائها الإستراتيجيين، وأبرزهم بالطبع الإمارات العربية المتحدة.
الإسلاموفوبيا.. حبة الكرز فوق الكعكة الفرنسية:
لم تقتصر حيرة فرنسا في مواجهة الربيع العربي على الحكومات، ولكنها صبغت أيضا مواقف المثقفين، وهو ما دفع صحيفة “لوموند” مثلا للتساؤل حول الصمت الرهيب لمثقفي البلاد أمام التطورات في المنطقة العربية في الوقت الذي كانوا فيه يتحرقون للنضال في “القضايا النبيلة الأخرى”. يُجيب الكاتب والصحفي الفرنسي “دانييل لايدنبرغ” عن هذا التساؤل بالقول إن عددا من المثقفين الفرنسيين يعتقدون في أعماق ذواتهم أن الشعوب العربية “ما هي إلا شعوب متخلفة، لا تُساق إلا بالعصى”. في السياق نفسه، يؤكد “باسكال بونيفاص”، المحلل الإستراتيجي، أن بعضا من المثقفين الفرنسيين وجدوا أنفسهم في قلق شديد جدا من أن تصل الديمقراطية إلى بلاد العرب، وهو أمر لا يتمنونه أبدا، معلقا: “ها قد سقط القناع”.
تعاني فرنسا من مشكلة حقيقية مع الإسلام داخليا، حيث تستهدف الجالية الإسلامية بقوانين تمييزية، التي كان آخرها قانون “الانعزالية الإسلامية” سيئ السمعة. أما خارجيا، فقد أظهرت باريس رعبا كبيرا من أن يتحول الربيع العربي إلى فرصة مواتية للإسلاميين، لا سيما في مصر، حيث تسابق الصحافيون والكُتَّاب الفرنسيون لإدانة نظام “الدكتاتورية الأصولية” -على حد قولهم- للرئيس السابق “محمد مرسي”، واصفين “محمد البرادعي” نفسه، أحد أبرز وجوه الليبرالية في البلاد، بحصان طروادة الذي يستعمله الإخوان المسلمون لتحقيق مآربهم.
حدث الأمر نفسه قبل ذلك في تونس بعد سقوط “بن علي”، فقد تسابقت الأوجه الإعلامية الفرنسية المؤثرة للتأكيد أن من الأفضل للجميع أن يكون هنالك “بن علي” على أن يحل محله “بن لادن”. وفي هذا السياق، تقول الصحفية “سارة قريرة” إن الإسلاموفوبيا إحدى أهم الركائز التي تنطلق منها السياسة الخارجية لفرنسا، مضيفة: “كنت في تونس خلال الانتخابات البرلمانية التي تلت الثورة، بعد عودتي لفرنسا وجدت الصحف والإعلام يتحدثون عن الإسلاميين بطريقة مبالغ فيها، رغم أنهم لم يكتسحوا الانتخابات أصلا، لكنني ظننت لوهلة أنني أقرأ عن أفغانستان، وليس تونس التي كنت فيها قبل أيام”. واعتبرت “قريرة” في حديثها مع “ميدان” أن الأمر في بعض الأحيان تجاوز حتى الإسلاميين أنفسهم وتعداه إلى اعتبار فرنسا أن الشعوب العربية لا تستحق الديمقراطية، وأن هذه الشعوب قاصرة وغير ناضجة، ومن الأفضل أن يحكمها الديكتاتوريون شريطة ألا يكونوا “إسلاميين”.
لعبت فرنسا دورا مهما في مسار ثورات الربيع العربي، فشكَّكت فيها في البداية، ثم دعمتها رسميا في مرحلة أخرى، لكنها عادت في الأخير ووقفت ضدها بطريقة ملتوية رافعة شعار محاربة الإرهاب. في النهاية، آثرت باريس أن يظل الوضع كما هو عليه، وأن تواصل الدكتاتوريات الإمساك بزمام الأمور في المنطقة العربية، وأن تظل صورة المنطقة العربية كما تخيلها المستشرقون دائما: شمس وصحارى، ورجال أشداء (عسكريون إن أمكن)، يضبطون إيقاع المجتمعات التي لا يمكن تصوُّر عيشها في إطار حديث حر وديمقراطي.
المصدر : الجزيرة