بقلم الكبير الداديسي
تلخيص
سنحاول في هذه الدراسة مقاربة رواية (قطط إسطنبول) للروائي السوري زياد كمال حمامي والنبش في دلالات ورمزية القطط في هذا العمل وفق منهج الثنائيات الضدية لما (تشكله الثنائيات من تباينات دلالية تجعلها عنصًرا فاعلًا في تكوين المعنى، وإنتاج الدلالة، والخروج بالنص إلى أبعد المستويات) ولما للثنائيات من قدرة على تعرية الحقائق وكشف المواقف، وإظهار تناقضات المجتمع، والربط بين ما قد يبدو منفصلا، مع ردم الهوة بين طرفي الثنائية مهما كانت تلك الهوة سحيقة، حتى وإن كان الطرفان يقفان على طرفي نقيض (الإنسان / الحيوان) لنتساءل عن السر في اختيار القطط دون غيرها من الحيوانات الأليفة والمفترسة للتعبير عن الواقع العربي.
Summary
In this study, we will try to approach the novel (Istanbul Cats) by the novelist Ziad Kamal Hammami, and to dig into the connotations and symbolism of cats in this work according to the method of antithetical binaries (the binaries are formed from semantic differences that make them an effective element in forming meaning, producing significance, and taking the text to the farthest levels) and because binaries have the ability to expose facts and reveal positions, highlight the advantages and disadvantages, show the contradictions of society, link what may seem separate, and bridge the gap between the two sides of the binary no matter how deep that gap is, even if the two sides stand on opposite sides (human/animal) to ask about the secret in choosing cats over other domestic and predatory animals to express Arab reality.
تستمر الرواية تأكيد نفسها باعتبارها الجنس الأدبي الأنسب لتصوير ذبذبات الواقع العربي ورصد كل تفاصيله، والأقدر على مواكبة تفاعلات الإنسان العربي في واقع زئبقي مختل عصي على التصنيف يعاني أزمة قيم، يتحول (se métamorphose) باستمرار، لا يستطيع أي تعبير فني آخر غير الرواية مواكبة جميع تلك التفاعلات، فاستطاعت الرواية بذلك ملامسة كل المواضيع والقضايا الراهنة… ولعل من القضايا المعاصرة الحارقة في عصرنا، قضية وضع اللاجئين العرب في الدول المجاورة التي اضطر الكثير من العرب اللجوء إليها بعد تفجير الأوضاع بأوطانهم غداة انفجار أزمة الخليج الثانية والغزو الأمريكي للعراق ، وما نتج عنها من اندلاع أحداث الربيع العربي التي دحرت الكثير من العرب خارج أوطانهم… فتهاوت قيمة العربي في بورصة المعاملات الإنسانية، وجعلته يتقبل المهانة ويعيش معاناة الإذلال والاحتقار…
وقد حاولت الرواية تصوير هذا الواقع وتجاوزت تشيء الإنسان العربي إلى حيونته وإبراز أرذل الحيوانات أرقى منه، بعدما رأى الروائي العربي أن اللغة المباشرة عاجزة على استيعاب حماقات وزئبقية هذا العصر، وربما وجد في الرمزية الوسيلة الأنسب للتعبير عن واقع اختلت فيه الموازين وصار فيه الحيوان (الذي كان رمزا للوحشية والهمجية) أرقى من الإنسان وقيمه الإنسانية التي تتبجح كل حين بالكرامة والتسامح والتضامن… وقد يكون في حيونة الإنسان، وأنسنة الحيوان طريقة للتعبير عن واقع يعيش أزمة قيم، واقع أشبه ما يكون بغابة البقاء فيها للفاسد الأقوى، ولا مكان فيها للنبل والشرف، وضحاياه الأوائل العفة والكرامة الإنسانية… ولعل من الروايات الصادرة حديثا في هذا الموضوع رواية (قطط إسطنبول للروائي السوري زياد كمال حمامي لتنضاف إلى فسيفساء مشروعه الروائي بعد روايات (الظهور الأخير للجد العظيم) و(الخاتم الأعظم) ورواية (قيامة البتول الأخيرة) …
تحكي رواية (قطط إسطنبول) قصة لاجئ سوري – اختار له السارد اسم اللولو – يتفاعل مع عدد من القوى الفاعلة أغلبهم لاجئين سوريين في تركيا وقطته التي كانت طيلة أحداث الرواية تحدثه وتلهمه فجعلها أنيسة دربه بعد أن اختار لها اسم الآنسة “هند خانم” ، وهي في نظره (قطة مختلفة عن كلّ القطط التي تعجّ بها إسطنبول) ص.24 ولم يقتصر السرد على حياة اللولو في اللجوء بل كان السرد يتراجع في بعض اللحظات ليذكر بحياة هذه الشخصية في بلادها سوريا قبل الحرب، كما كان ينفتح على المستقبل الذي يتطلع إليه بطل الرواية…
أحداث الرواية وفضاؤها تضع رواية (قطط إسطنبول) في إطار أدب الهامش الذي يقارب معاناة المهمشين، ومنها معاناة اللاجئين والمشردين وما يتعرضون له من استغلال واضطهاد يفقدهم أحيانا إنسانيتهم، ويجعل حياتهم أشبه بحياة القطط الضالة والكلاب المشردة ، هذا ما كشفت عنه الرواية منذ أول فقرة فيها، فقد افتتحت الرواية بأول مشهد يقارن فيه السارد بين اللاجئين المشردين والقطط والكلاب الضالة: (ليس لدى المشردين مأوى في ليالي البؤس، غير ظلام الحدائق بعد منتصف الليل، أو مقابر المدن أو تحت الجسور الرَّطِبة أو الأماكن المهجورة، يتشابهون مع الكلاب الضالة وقطط الليل) بداية الرواية ص7. وظلت مقارنة اللاجئين بالقطط حاضرة في معظم المشاهد سواء وهم يتحركون في المجتمع أو وهم قابعون في السجون يقول السارد واصفا اللاجئين في السجن (الأجساد النائمة على جوانبها مثل القطط ) ص100
تدور معظم الأحداث بحي الغجر وهو (أسوء أحياء إسطنبول سمعة) ص 31 /32 وهو حي يعج ب (قوَّاد الدعارة وبائعي الحبوب المخدرة والحشيش والزبَّالين المتجولين، حتى عدم فتح أبواب البيوت أثناء سماع جرْسِ المبنى سرتْ عادة ، خشية أن يكون القادمُ لصّا أو مُحتالا أو عصابة … ) ص32
الرواية بهذا المحتوى تفصح عن مضمونها، وتنكشف للقارئ كرواية تحاول معالجة قضايا إنسانية كثيرة بأبعادها السياسية الاقتصادية الاجتماعية والثقافية… فتبسط للقارئ ملامح تلك الأبعاد بمجرد تصفح المشهد الأول من المشاهد الخمسة والأربعون التي تتشكل منها الرواية. وفيه يصادف اللاجئ (اللولو) بعد منتصف ليل في حديقة من حدائق إسطنبول فتاة سورية تدعى شام وهي في حالة نفسية منهارة ، حاول مساعدتها بأخذها إلى بناية في حي الغجر على أطراف “اسنيورت” ليجد نفسه في ماخور معد لاستغلال فتيات جنسيا من جنسيات عربية مختلفة منهن (ياسمين المغربية، جليلة من اليمن، بتول اللبنانية، سماح العراقية، مريومة الليبية…) مما يجعل معظم القراء يفترضون انطلاقا من هذا الافتتاح أن القطط في العنوان قد تكون تعبيرا رمزيا عن أولئك الفتيات ومن هن في وضعهن، خاصة وأنه شبههن بالقطط فقال في ياسمين (“ياسمينة” المغربية، هي شابة سمراء جميلة، عيناها صغيرتان مثل قطة إفريقية)… ويتعزز هذا الافتراض في تلك العداوة الشرسة المضمرة في الوعي الإنساني بين الكلاب والقطط، فأول ما تلفظت به القطة (شام) في حواراتها هو شتم الكلاب، فقد ظهرت وهي لا تكف عن وصف الآخرين بالكلاب (تنتهي شتائمها بترديد كلمة واحدة: “كلاب… كلاب”،) ص8 (تصرخ : كلاب كلّكم كلاب) ص20 …
إذا كانت هذه المؤشرات في بداية الرواية تسمح بافتراض إطلاق القطط على كل من هو في وضعية هذه الفتيات… فإن ذلك يفرض طرح أسئلة من قبيل: ما سبب اختيار القطط، دون غيرها من الحيوانات خاصة وأن الرواية ذكرت الكلاب قبل القطط في أول تشبيه لحال اللاجئين والمشردين (يتشابهون مع الكلاب الضالة وقطط الليل)؟ وما دلالة ورمزية القطط في هذه الرواية؟ وهل للقطط دلالة إيجابية أم دلالة سالبة خاصة وأن للقطط في الفكر الإنساني معاني متباينة؟…
لابد من الإشارة منذ البداية إلى أن القطط كانت موضوع دراسات فلسفية فكرية كثيرة نكتفي للإشارة منها إلى كتاب (فلسفة القطط) لجون جراي ومشروع البروفسورة لي كلير لا بيرج (ماركس الموجه للقطط: (Marx for Cats كما حضرت القطط في عدد من الأعمال الفنية والسردية منذ القديم مع اختلاف النظر إلى القطط وتباين الموقف منها بين:
موقف يبجل القطط ويبرز إيجابياتها في حياة الإنسان كحمايته من القوارض والزواحف السامة التي قد تهدد حياته، إضافة إلى دورها في تسلية الإنسان ومؤانسته، وبين من استعملها رمزا حسب الرسائل المراد تبليغها… لذلك وجدنا من المؤلفات ما تدعو إلى الاستفادة من القطط كما في كتاب (فكر وتصرف كأنك قط) لستيفان جارنييه ترجمة فالس بورس. وهو موقف يجد جذوره في ثقافات قديمة أضفت على القطط هالة من التقديس كما كان عند الفراعنة الذين اعتبروها إلهة البيت والخصوبة وحامية الفرعون، كما اعتبرها اليابانيون جالبة الحظ السعيد والثروة. وتوجد لدى الاسكندنافيين حكايات وأساطير تظهر فيها قطتان تجر عربة الإلهة فريا الإلهة المرتبطة في الثقافة الاسكندنافية بالحب والجنس والجمال والخصوبة والذهب والحرب والموت… وفي الثقافة الإسلامية قد يكون الإحسان إلى القطط سبيلا لدخول الجنة، وسوء معاملتها سببا في دخول جهنم إذ روي عن الرسول قوله (عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ في هِرَّةٍ سَجَنَتْها حتَّى ماتَتْ، فَدَخَلَتْ فيها النَّارَ، لا هي أطْعَمَتْها ولا سَقَتْها، إذْ حَبَسَتْها، ولا هي تَرَكَتْها تَأْكُلُ مِن خَشاشِ الأرْضِ)
– في مقابل ذلك وجد ويوجد موقف يهين القطط ويعتبرها رمزا للشر والدناسة وسببا في نقل الكثير من الأمراض للبشر، إضافة إلى ما قد يسببه شعرها وفضلاتها من إزعاج أو مرض لبعض الأشخاص الذين لهم حساسية تجاه ذلك، لذلك يدعو أصحاب هذا الموقف عدم مخالطة القطط، وضرورة إبعادها عن البيت .
والمتتبع للأعمال السردية العربية المعاصرة يلاحظ مدى حضور القطط في عناوين عدد من الروايات المعاصرة مثل رواية (خمارة القط الأسود) لنجيب محفوظ، ورواية (قطط العام الفائت) لإبراهيم عبد المجيد، ورواية (قطة في عرين الأسد) للكاتبة منى سلام ومنها (قطط إسطنبول)… فكيف حضرت القطط في هذه الرواية الأخيرة.؟ وما دلالات حضورها في الرواية؟
في قراءة لرواية (قطط إسطنبول) تبين أن لفظة (قطط) تكررت في الرواية حوالي 128 مرة، توزعت حسب الجنس (مذكر قط 34مرة ومؤنث قطة 48 مرة) وذكرت جمعا (قطط 46 مرة) واستعمل اللفظ حوالي مائة مرة بمعناه الحقيقي في إشارة إلى ذلك (الحيوان المستأنس الأليف من فصيلة السنوريات) وفي الحالات الأخرى استعير القط للتعبير عن الإنسان، أو استعير الإنسان للتعبير عن القطط … فتراوح استعماله بين الرفع من قيمة القطط وأنسنتها بإسناد أفعال وصفات إنسانية إليها، وبين الحط من قيمة الإنسان وقطقطته وإبرازه في أدنى المراتب الحيوانية…
وبما أن الرواية بنيت على التقابل بين عالم واقعي مرفوض تسوده قيم سالبة تقوم على الاستغلال والاضطهاد يرفضه البطل، وبين عالم منشود يحلم البطل بتحقيقه يستعيد فيه إنسانيته وتراعى فيه القيم الإنسانية… فإن لفظ “قطط” ومشتقاتها تحكمت فيها نفس الثنائية: هكذا وجدنا لفظ (قط) الذي ارتبط في الغالب باسم البطل (اللولو) يتوزع بين دلالتين متقابلتين: دلالة موجبة تبرز القط قويا قادرا على المناورة والانتصار على خصومه (اللولو يتلاعب بالجميع تلاعب القط بالفأر) ص102، ودلالة سالبة هي الأكثر حضورا يرفض فيها اللولو أن يحيا حياة القطط (أنا لست قطا) ص161. كما يستعمل كلمة قط في سياقات تحط من شأن البطل ويرفض فيها (أن يكون مجرد شِبْهَ قط من قطط إسطنبول) ص 161 وينتقد وضعا تحط فيه الكرامة الإنسانية سواء بمدينة حلب أيام الحرب حيث (أصبحنا فيه مجرد قطط تائهة) ص112 أو بمدينة إسطنبول حيث قيل له (أنت مجرد قط لاجئ) ص182… وحتى إذا قصد قنصلية بلاده بحثا عن وثائق تؤكد لديه صفة لاجئ وتتيح له حرية الحركة في تركيا (أهين أمام مبنى الهجرة وطرد مثل قط أجرب)ص224 فلم يبق أمامه سوى التساؤل في حالة اليأس (هل أنا محنط مثل قط) ص 236 … والتساؤل في حال التفاؤل (ماذا لو تحولت إلى قط جائع) ص255
هكذا تتغير دلالة القط في ارتباطها بالبطل اللولو، وهي شخصية مبنية في الأساس على التقابل بين دلالة اسمه الإيجابية، ودلالة حياته التي لم تكن سوى سلسة من الخيبات والمآسي: فاسمه الحقيقي كما ورد في الرواية (جميل بن سعيد بن فوزية الحلبي) شاب لم يتجاوز الثلاثين سنة يشعر أن صفات اسمه لا تطابق فيه شيئا يقول :(لستُ شابا مثيرا تتودّد إليه النساء، ولم يكن أبي سعيدا لقد عاش عاملا، في مزرعة الأغا، وكان يقول دائما: كلاب الآغا تعيش أحسن منَّا. – لم تفُزْ أمّيِ بأيّ شيء ، ولا أدري لماذا أسموها فوزية ؟ ! وهي المرأة التي كانت تلعن حظها العاثر دائما، وتشتم عمرَها كله، حتى حين أنجبتني، كانت تدير وجهها عنّي، وتقول لي: ما أتعسَك! إنكَ تشبه والدك…. ولكن السؤال الذي يجب ألا أنساه، كيف سأغيّر حياتي وأبني؟ حين أستطيع دفنَ الماضي اللئيم، سأكون شخصا آخر غير الذي يعدونه لاجئا منبوذا) ص 120 .
ومن مظاهر التقابل في شخصية البطل أيضا ذلك التقاطع بين الكاتب والسارد والبطل، والتداخل بين السيري التاريخي الذي عاشه الكاتب وبين الروائي المتخيل الذي تخيله السارد، فحتى وإن ظلت شخصية اللولو شخصية متخيلة لا وجود لها إلا على الورق، فقارئ الرواية يشم الكثير من الأحداث الذاتية من سيرة الكاتب ينسبها السارد للولو عبر سارد يتحكم في رقاب شخصياته، يبعد ويقصي من يشاء ويعلي من قدر من يحب، يعرف عن كل شيء عن شخصياته: تفاصيل ماضيهم، وما يعيشونه في حاضرهم، وما يفكرون فيه في خلوتهم وحتى ما يحلمون به، بل كان يتسلل إلى عقل القطط فيعرف ما تفكر فيه وما يدور بخلدها، وما يسعدها، ولم ترتاح من زوارها، ومن وما يقلق راحتها، فيحرك كل الشخصيات على هواه…
ومن مظاهر التقابل كذلك في حياة البطل الروائية التركيز على تلك العلاقات المأزومة بين بطل يحاول الظهور بطاقة وقيم إيجابية، يصارع واقعا مأزوما ينخره الفساد ولا أمل في إصلاحه وتغييره، حيث حاول اللولو التعامل بطهرانية في واقع موبوء فاسد، اشتغل مهناً كثيرة دون أن تؤمن له أي مهنة لقمة عيش كريم، يقول اللولو (اشتغلتُ في البداية عاملَ بناء كي أتابع دراستي، ثم بائع “موبايلات” مستعملة، تطورت قليلا، افتتحت محلا لبيع وتصليح الآلات الموسيقية، خسرت، ربحت، غامرت، اجتهدت، قاومت كلّ ما يحبط هدفي، ومن أجله سأستمر) ص175 ويقول في مكان آخر (اشتغلتُ في سوق الخضار حمَّالا، للبطيخ ومناولا ، ومنظفا للمستودعات…) ويقول فيه السارد (أمام وابلٍ من الإحباط المتتالي، والتنقُّلِ من مهنة غسلِ الصحون في مطعمٍ ما، إلى حمَّالٍ للأدوات المنزلية المستعملة، ومن مُوَزّع المياه الغازيّة المعبأة بعبوات بلاستيكية إلى صيَّاح في “بازار” المنطقة الكبير، ناهيك عن أعمال الدهان، ومهنٍ أخرى، وَجَد اللولو عملا مقبولا ً بعد عُزلة مقيتة، لم يحصد فيها غير الندم…) ص 249 وكل شغل اشتغله إلا اكتشف كيف يتسلل الفساد إلى دواليبه، وكيف بني على امتصاص دم الفقراء، ويكفي الإشارة إلى ما وقف عليه من تزوير في تواريخ استهلاك المواد، وعبث الفئران والصراصير فوق المأكولات التي تقدم للناس، مما جعله يقف مشدوها ويتساءل (أكنَّا نأكل من هذه الأغذية الفاسدة ولا ننتبه إلى بداية تاريخ الإنتاج، ونهاية مدّته الصحية؟!”.) يقول السارد واصفا المخزن الذي أوكلت إليه مهمة ترتيب المواد الغذائية فيه (المخزن الكبير تقطنه جحافلُ الفئران، وربما أبرمت عهودا مع كتائب القوارضِ المرئية وغير المرئية، رأى بعينيه الثاقبتين تلك الصراصيرَ المنفردة، تمشي فوق البقايا الطريّة لنُتَفٍ من حلويات سكريّة ترقد مهروسة على الأرض، وها هي تعبث في المكان، دون أن يمنعها أو يبيدها أحد…. أصابه شيءٌ من الغثيان، عندما تأكد أن كلّ ما في المخزن الكبير قد فقد صلاحيتَه منذ وقتٍ طويل! ) ص252 وعلى الرغم من كل تلك السوداوية في الحياة، والفساد الذي يعمّ الواقع فقد ظل اللولو أبيَّ النفس عزيزها لا يقبل الإهانة، ولا يرضى لنفسه أن يعيش عالة على أحد، بل و(لا يقبل أن يدفع أحدٌ من الذين يجلسون على طاولته ليرة واحدة. هو يتكفل بكل شيء) ص 29…
هكذا ظل هذا البطل المأساوي يصارع الحياة، والسارد يضيق عليه الخناق، وما أن يفتح أمامه أملا كاذبا حتى يكتشف بداية معاناة جديدة، تكالبت عليه المشاكل، وتحالفت عليه القوى الإنسانية وحتى الطبيعية، فما كاد يجد عملا يضمن له دخلا يكفيه ضنك العيش، من خلال (فتح “بسطة” صغيرة يضعها على أحد الأرصفة، ويبيع فيها “الجوارب والكلاسين” والقمصان الرجالية الداخلية…) ص 115 حتى ضرب إسطنبول فيضان جرف كل شيء -ولم تسلم منه حتى القطط- فجرف (بسطة) اللولو مما أزم علاقته بصديقه عبود الأقرع الذي موّل المشروع…
ومن ضمن الثنائيات التي تحكمت في مسار السرد نجد قطتين رئيسيتين فقط وسط كل هذا العالم المأساوي التراجيدي كانتا محببتين لقلب البطل اللولو: القطة الأولى: تجلت بمظهر إنساني مثلته فتاة سورية في العشرينيات من عمرها اختار لها السارد اسم (شام). أما القطة الثانية : فقدمتها الرواية بمظهر حيواني مثلته قطة اختار لها السارد اسم (هند خانم) وقد خضعت هاتان القطتان لنفس الثنائية وبنيت قصصهما هي الأخرى على التقابل:
* – هكذا قدم لنا السارد القطة الإنسان شام بقيمتين متناقضتين والنظر إليها من زاويتين مختلفتين نظرة إلى الجسد ونظرة إلى الموقف: وبقدر التركيز على جمال شام جسديا وإظهار مفاتنها فهي فتاة جميلة في العشرينات من عمرها ،جمالها فطري يعشقه كل من رآه فقد كانت منذ طفولتها (طفلة مرِحة، ذات شعر أشقر ، وعينين سماويتين.. قوامها متناسق، وصدرها أبيض مثل الحليب الشهي) ص33/34 بذات القدر رصدت الرواية التحول الذي أصاب جسد هذه القطة المشاكسة إذ صارت في نهاية الرواية فتاة مريضة منهكة جسديا(لم يعد قلبها يشتعل، وصراخها لم يعد يتعالى، العطش والجوع والبرد يحيلها إلى كتلة لا تقدر على الحَراك، ولا حتى على الزحف مثل سلحفاة عاجزة، تحسُّ أنها في قبرها، بلا شواهد، ولا صلاة، وتمنّت أن تنهار الجدران فوقها، تقبرها، وتقطع أنفاسها…) ص167 لقد انتهى جسد (شام) الفاتن، وصارت جسدا لا يحرك شهوة أحد، جسد يصفه اللولو للقطة المغربية ياسمين قائلا: (تفوح منها رائحة العطر والحشيش معا… كانت مستسلمة، باردة، لا شهوة تحركها ولا رغبة تناديها، مثلَ دمية لا أحاسيسَ فيها، الفارق بيننا وبين الدمى في تلك اللحظة، أننا نملك أرواحا مكسورة، متهالكة، مستبدة، مضطهدة، والدمى يا ياسمينة، كما تعرفين، هي بلا روح، ولكننا في تلك اللحظة كنَّا معا بلا حياة) ص168.
بالإضافة إلى هذا التقابل على مستوى الجسد، الذي تحول من جسد فاتن إلى جسد متهالك، رصدت الرواية تقابلا في القيم التي عاشت عليها القطة (شام) فهي وإن كانت تمتهن الدعارة فإنها تحمل قيم التمرد والرفض إنها قطة مشاكسة تحاول (التمرد على شرف مهنة الدعارة) بعد أن رفعت شعار (الموت أشرف لي من أن أكون داعرة) ص21 تصيح بأعلى صوتها (أنا شام… أنا لستُ داعرة.) ص7.
ويتجلى التقابل أكثر في البون الشاسع بين حجم المعاناة الداخلية والمظهر الخارجي في حياة (شام) فهي كانت تظهر للعامة وحتى لأقرب الناس إليها (أمها) أنها تعيش حياة مستقرة في أسرة محافظة، لكنها في العمق كانت تعاني ألم جرح غائر بسبب الاغتصاب والاستغلال الجنسي في سن صغيرة من طرف زوج أمها الذي كان بمثابة والدها…
* – القطة الثانية المحببة لقلب اللولو حيوان آثر السارد والبطل أن يصفانها بالآنسة والأميرة والقطة الفاضلة ص106 إنها (جميلةِ الجميلات الآنسة “هند خانم”، ذات الشعر الذهبي، والغرّة الوردية، والعيون الزرق السماوية…) ص23 بخلاف كل القوى الفاعلة التي كانت مواقفها تتطور وتتغير حسب الأحداث، فقد ظلت “هند خانم” على نفس الصورة الإيجابية طيلة النص الروائي فهي (مؤمنة ، ولا يمكن أي أحد آخرَ أن يغيّر رأيها أبداً) ص24. وهي على الدوام (تحمل قلبا طيبا مسامحا) ص99. (فهي قطة حساسة جدا) ص98 و(قطة ودودة، قطة مميزة) ص 99… (وهي القطة التي لم يخب ظنُّها في غدر بني البشر أبدا…) ص110 و(تعرف ما يخبّئه الإنسان من مشاعر نحوها) ص111… فهي على الدوام جميلة لا يتأثر جمالها بالمتغيرات حولها (أن القطة الجميلة ” هند خانم”، وهي القطة المختلفة عن بقية القطط…) ص174
وبخلاف كل الشخصيات التي تنوعت علاقتها بالبطل بين المد والجزر، فقد ظلت القطة “هند خانم” تحافظ على نفس العلاقة مع البطل تداعبه (تمدُّ الآنسة “هند خانم” يدَها الناعمة، تداعب صدره، في منطقة القلب العاشق غيرِ الآمنة) ص31 تشكل له السند والعون في كل اللحظات الصعبة، فهي من جعلته يتراجع عن تنفيذ الجريمة لما فكر في اختطاف طفل وطلب دية من أهله، فتراجع عن فكرته احتراما لمشاعر “هند خانم ” ص182، وما عاد إلى القبو إلا (نظرت إليه القطة الجميلة مستفسرة عمَّا فكربه) ص31، فقد لعبت دور الأم والحبيبة والصديقة التي تنصحه وتشجعه على القيام بالأفعال الإيجابية، وتحول بينه وبين كل ما هو سلبي: فهي التي فرضت عليه فتح حقيبة صديقه الشاعر المتوفى “نادر الرحَّال” وهي التي أوحت إليه بقرار الانتقام لقطته المحبوبة (شام). ص150… إن القطة “هند خانم” كانت دائما تنام بقرب البطل، وتسهر معه في أيام الشدة، تواسيه، تشعر بالخطر الذي يحدق به، تنبهه لتربص الأعداء، فلما شعرت بسوء علاقة اللولو ببراق الاسطنبولي رآها ( تبكي ثم تبكي ملء العين والذاكرة) ص178 ويكفي القطة “هند خانم” فخرا أنها وهي من جعلته تخلى عن فكرة ارتكاب جريمة ، فلم يتراجع عما كان قد خطط له إلا احتراما لمشاعرها قال بعدما اقتنع بصواب رأيها:(لا أريدها أن تفقد الثقة والأمان، ولا أن تنظر إلى وجهي، كما تنظر إلى وجه رجلٍ مجرم…) ص 183
هكذا يكتشف القارئ أن الرواية في كل تفاصيلها تؤنسن القطة “هند خانم” بل تجعل لها وظائف لم يتشرف بها الإنسان في النص، فعاشت حياة روائية بعيدة عن الفحش والفحشاء، يقول فيها السارد (ولا يمكن لمثلها أنْ يرتكب الفاحشة، ولا أن تحمِل سِفاحا، هذا أمرٌ معيبٌ في حقّها) ص160 فهي قطة صاحبة مبادئ لا تتوفر في أغلب شخصيات الرواية فهي دائما (تنتصرلمبادئها الواضحة) ص177 فيما كان الفساد والدعارة والغش والاستغلال والكراهية العملة الأكثر رواجا بين بني البشر، والقيم الأكثر تحريكا للعلاقات الإنسانية… لذلك لم يكن للبطل إلا أن يعامل القطة “هند خانم” (بكل مودّةٍ واحترام وتقدير) ص107 في الوقت الذي انعدمت فيه الثقة بين الأصدقاء وصار شخص يرى نفسه النموذج الأمثل ينظر للآخرين نظرة احتقار وازدراء لا يرى فيها إلا البلادة والتهور مهما كانت الصداقة ،ولنستمع كيف يقدم السارد شخصية عبود الأقرع صديق اللولو الذي لا يفارقه (أما “عبود الأقرع”، فهو حكاية مختلفة بحدّ ذاتها، وقد عَدَّه اللولو الظلَّ الذي لا يمكن التخلي عنه، رغم بلاهته أحيانا، وغبائه
السرمدي، وتهوّره الدائم الذي قد يسبب بعض الحرج في أوقات مصيرية حاسمة.) ص 30 . هكذا صار البطل ينظر لزملائه من الشخصيات الآدمية كقطط متشردة ضالة، فيما يرفع قطته (هند خانم) إلى مستوى الملائكة في قيمها وتصرفاته.
في ختام هذه الدراسة، يتضح مدى التقابل الذي بنيت عليه أحداث الرواية، وكيف سعى الكاتب زياد كمال الحمامي إلى أنسنة القطط بالرفع من قيمها وأفعالها وعلاقاتها بالإنسان من جهة، وقطقطة الإنسان بإظهار الجانب السلبي في علاقاته الإنسانية من جهة أخرى، هكذا وجدنا القطط في الرواية تتعامل وفق مبادئ ومشاعر صادقة في أحاسيسها وأفعالها ولكل قطة (هوية ودفتر صحي)… في وقت فشل اللولو وغيره من اللاجئين في الحصول على (الكيملك) “بطاقة الحماية الدولية للاجئين التي تكفلها كل القوانين الدولية” وأكثر من ذلك قصد قنصلية بلده التي يفترض فيها أن تحمي كل مواطن وتضمن له حقوقه، قصدها بحثا عن الأمن والأمان ف(أهين أمام مبنى الهجرة وطرد مثل قط أجرب) ص224… لكن كل ذلك لا يغيب آثار التضامن بين اللاجئين في بعض اللحظات الحرجة كما تجلى في سلوك لاجئين عندما تكفلوا (بدفع ما كانت تدفعه سلام لأهلها لشراء الدواء بعدما قتلها شاذ معتوه) وتضامن اللولو مع المرأة المسنة في محنة تجاوز الحدود ، وتلك خاصية من خصائص الثنائيات التي اعتمدناها منهجا في مقاربة هذه الرواية لما (تشكله الثنائيات من تباينات دلالية تجعلها عنصًرا فاعلًا في تكوين المعنى، وإنتاج الدلالة، والخروج بالنص إلى أبعد المستويات)
ولما للثنائيات من قدرة على تعرية الحقائق وكشف المواقف، وإبراز المحاسن والمساوئ، وإظهار تناقضات المجتمع، على الربط بين ما قد يبدو منفصلا، وردم الهوة بين طرفي الثنائية مهما كانت تلك الهوة سحيقة، حتى وإن كان الطرفان يقفان على طرفي نقيض (الإنسان / الحيوان)، فبأضدادها تتميز الأشياء… لذلك نأمل أن نكون برصد بعض الثنائيات قد وقفنا على إبراز الاختلافات، وإظهار التناقضات، في حياة مبنية على التقابل، لا استمرار فيها إلا بوجود الخير والشر، والصالح والفاسد، والمستغِل والمستغَل ومن وظائف الرواية والروائي إضاءة العتمات التي يعشش فيها الفساد وإماطة اللثام عن المسكوت عنه وكشف المستور.