عبد الرحيم بودلال
نشأت العلوم الاجتماعية والإنسانية في بيئة تؤمن بالحرية والاختلاف والتعددية، فهي بنت الحداثة التي تشكل لها علوماً نقدية موجهة ومصححة. لهذا هي تمتلك خاصيتين؛ خاصية التفسير والفهم الصحيح للواقع، وخاصية التدخل من أجل تصحيح الواقع. فهي مبنية على القيم الكبرى التي جاءت بهم الثورة الفرنسية؛ كرامة وحرية وعدالة واجتماعية.
لهذا عندما يتمكن الصحفي من العلوم الاجتماعية والإنسانية بالإضافة للعلوم التقنية التي توفرها له معاهد الصحافة، فإنه يكتسب حساً نقدياً وموقفاً معارضاً اتجاه النظام والسياسات العمومية. كما توفر له هذه العلوم المصطلحات والمفاهيم التي يكتب بواسطتها، فهو عندما يكتب عن الفقر فإنه يكتب عنه وفق تعريف العلوم الاجتماعية، فيعرفه أنه “غياب التوزيع العادل للثورة”، وليس وفق التعريف الديني بأنه “قضاء وقدر”، فهو بذلك يسعى لتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية وليس لتكريس مزيد من الفوارق الطبقية وأصناف العبودية. كما يكون قادراً على توظيف مفاهيم أخرى قريبة منه مثل الهشاشة والتهميش والمركز والهامش والهيمنة والطبقة البرجوازية والمتوسطة، وهي كل مفاهيم تمتح من علم الاجتماع والعلوم السياسية.
كتب الصحفي محمد البقالي كتاباً بعنوان “سؤال المهنية والأيديولوجيا في الصحافة، الحالة المغربية أنموذجا”، وظف فيه مناهج علم الاجتماع، فقدم فيه أجوبة شافية حول هوية الصحافيين المغاربة والقيم التي ينهلون منها وكيف يتمثلون أخلاقيات المهنة بين الحيادة والانخراط، وطبيعة المؤسسات الإعلامية التي ينتمون إليها.
أيضاً توفيق بوعشرين وهو داخل السجن طلب مجموعة من الكتب المرجعية، من بينها والتي أخذت حصة الأسد كتب علم الاجتماع؛ كتاب حسن أحجيج “مدخل إلى علم الاجتماع ونظرياته ومناهجه”، ثم كتاب بيير بورديو “عن الدولة؛ دروس في كوليج دو فرانس”، ثم كتاب نور الدين الزاهي “مدخل إلى علم الاجتماع المغربي”، وأهم هذه الكتب والذي دائما ما كان يستدل به بوعشرين في مقالته هو كتاب إحسان نراغي “من بلاط الشاه إلى سجون الثورة”.
استدل به بوعشرين في مقال له بعنوان “قول الحقيقة للملك”، وظف مقطع الحوار الذي جرى بين الشاة وعالم الاجتماع إحسان نراغي في قصر سعد أباد في أعالي طهران، “حيث استدعى الملك واحداً من كبار مثقفي بلاده ليسمع صوتاً جديداً غير الأصوات المحيطة به، والتي عجزت كلها عن إعطائه تفسيراً للتظاهرات التي تجتاح شوارع البلاد منادية بسقوط “الطاغية”، كان حوارا ممتداً إلى السياسة والفكر وطبائع السلطة ومخاطر الحكم”.
من ذلك: الشاه يسأل ضيفه: ماذا يجري يا نراغي في إيران؟ وكيف أن أحداً من المسؤولين حولي لم ينبهني إلى هذا السيل المتدفق من الغضب والإحباط والرفض لي ولنظامي في الشارع؟ بلا شك أن هذه الأزمة ليست ابنة البارحة؟
نراغي يجيب: يا مولاي، الحكم التقنوقراطي الذي أقمته حولك، ولم تكن لديه الوسائل ولا الثقافة ولا المعرفة لسماع صرخة الحقيقة في الشارع، هو الذي منع عنك الحقيقة.
الشاه يعقب: لكننا اخترنا أطر الحكم من بين أفضل المتخصصين في الجامعات الأوروبية والأمريكية، لماذا لم يستطع هؤلاء المهندسون والدكاترة والمتخرجون من المعاهد الغربية إخباري بأمر هذه الأزمة التي نضجت على نار هادئة؟
نراغي: هذا راجع، يا مولاي، إلى طبيعة نظامك الهرمي، حيث رئيس الوزراء لا يهتم إلا بما يأتيه من الأعلى، ولا أحد يشعر بأنه مسؤول على الصعيد السياسي، لأن كل القرارات المهمة تصدر عنك وحدك، وبما أنك انفردت بتحديد الأهداف، فإن النخبة اعتبرت أن دورها ينحصر في تزويدك بالمعلومات التي تتفق مع خطك السياسي. هذه النخبة استعملت ذكاءها وعلمها لتتبعك، وبعبارة أخرى لتمنع عنك الرؤية. أردت أن تضع التقنوقراط في كل مكان. التقنوقراط آلة لا تجيب إلا عن الأسئلة التي تطرح عليها، وهي لا تطرح الأسئلة من جهتها…
كما أن الصحفي بوعشرين استطاع أن يستوعب إشكالات كبيرة في العلوم الاجتماعية لم يستطع خبراء وباحثين الحسم فيها، من ذلك العلاقة بين الديمقراطية والتنمية، حيث يُنظر بعض الخبراء في المغرب لإمكانية قيام التنمية بدون ديمقراطية، لكن بوعشرين يقول: “الدولة أرادت أن تفرق بين الديموقراطية والتنمية، فبعد اليوسفي جاءت بالتكنوقراط فضربت الديموقراطية… فتحت مجموعة أوراش لدعم التنمية، لكن لم يتحقق شيء من التنمية”.
كما يستدل بوعشرين بالعروي كثيرا ويفسر من خلاله واقع السياسة المغربية، من ذلك أنه استدل بقول في الجزء الرابع من “خواطر الصباح”، “أن علال الفاسي لم يكن يقبل يد الملك… كذلك يلاحظ أن اليوسفي لا يقبل يد الملك الجديد، فيما الوزراء الشبان يقبلون يد الملك مرتين، تنتعش المخزنية بتجدد الأجيال، حيث تكثر المنافسة”…
لهذا فإن توظيفه للعلوم الاجتماعية بالإضافة إلى أسلوبه الجيد في الكتابة جعل عموده داخل الجريدة دائماً ما يحظى باهتمام القراء والمتابعين، كما جعل هذا العمود جريدة أخبار اليوم تنتقل لمصاف الجرائد الأكثر مبيعاً في المغرب، وهو ما أعطاها خط تحريري متميز يتسم بالاستقلالية وبالحس النقدي.