اسماعيل الحلوتي
مرة أخرى وكما عودنا على ذلك في مناسبات سابقة، يعود عاهل البلاد محمد السادس يوم الجمعة 11 أكتوبر 2024 إلى صناعة الحدث، من خلال خطابه السامي الذي وجهه لأعضاء البرلمان بغرفتيه الأولى والثانية، بمناسبة افتتاح الدورة “الخريفية” الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية الحادية عشرة، طبقا لمقتضيات الفصل 65 من الدستور، حيث ارتأى جلالته أن يخصص خطابه بالكامل للحديث عن القضية الوطنية الأولى للمغرب، والمتمثلة في ملف الصحراء المغربية والوحدة الترابية.
وهو الخطاب الذي جاء في سياق إقليمي ودولي دقيق، ليجسد توجيها استراتيجيا وسياسيا يعكس بوضوح تلك الرؤية الملكية الثاقبة والاستشرافية لإدارة ملف الصحراء المغربية على الصعيدين الوطني والدولي، متجاوزا بذلك تلك الأبعاد التقليدية المألوفة، ومؤكدا في ذات الوقت على ضرورة التحول الاستراتيجي والمرور السلس من مرحلة التدبير إلى مرحلة التغيير والتجديد، مشددا على أن قضية الصحراء لا يمكن حصرها في كونها مجرد نزاع إقليمي فقط، بل هي أكثر من ذلك قضية سيادة واستقرار، تستدعي التعامل معها بنوع من اليقظة وبكل ما يلزم من حزم واستباقية…
فالصحراء المغربية هي القضية الأولى لجميع المغاربة التي لا ترتبط بالحاضر وحسب، بل تمتد جذورها إلى ما هو أعمق: التاريخ والهوية المغربية، مما يتطلب انخراط كل الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والمدنيين في الدفاع عن الوحدة الترابية بكل جدية ومسؤولية، مع ما يقتضي الأمر من تعزيز إمكانات التصدي للطرح الانفصالي في المنابر الدولية، وتقوية الحجج والأدلة التي يمكن الاستناد عليها أثناء السجالات مع الأطراف المعادية للوحدة الترابية، باعتبار الصحراء قضية وجودية وليست مجرد ملف دبلوماسي ولا هي موضع تفاوض أو مساومة، فهي أساس كل السياسات الداخلية والخارجية للمغرب، الذي لن يتراجع أبدا ومهما اقتضى الأمر عن حقوقه التاريخية والسيادية في صحرائه.
وفي هذا الصدد يقول جلالته أمام البرلمان بأن “ملف الصحراء المغربية يمر من مرحلة التدبير إلى مرحلة التغيير… عملنا لسنوات بكل عزم وتأن ورؤية واضحة، واستعملنا كل الوسائل والإمكانات المتاحة للتعريف بعدالة موقف بلادنا وبحقوقنا التاريخية والمشروعة في صحرائنا، وذلك رغم سياق دولي صعب ومعقد” كما لم تفته الإشارة إلى اعتراف فرنسا في يوليوز 2024 بسيادة المغرب على الصحراء بالقول: “هذا التطور الإيجابي، ينتصر للحق والشرعية ويعترف بالحقوق التاريخية للمغرب، لاسيما أنه صدر عن دولة كبرى، عضو دائم بمجلس الأمن، وفاعل مؤثر في الساحة الدولية” وهو الموقف الذي يندرج في إطار الديناميكية الإيجابية، التي تعرفها مسألة الصحراء المغربية، وترتكز على تكريس سيادة المغرب على ترابه وتوسيع الدعم لمبادرة الحكم الذاتي…
كما أنه لم يفت عاهل المغرب وهو يستعرض مواقف الدول الداعمة بشكل صريح لمقترح الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية الذي اقترحه المغرب منذ سنة 2007، التوقف عند الموقف الإسباني البالغ الأهمية، باعتبار إسبانيا البلد المحتل السابق للمنطقة، لما يحمل من “دلالات سياسية وتاريخية عميقة”. والإشارة كذلك إلى دول الاتحاد الأوروبي، حيث توجد حاليا 19 دولة من أصل 28 دولة لها موقف إيجابي من مغربية الصحراء، وبالرغم من أن عدد البلدان المؤيدة للطرح الانفصالي في تناقص مستمر، فإن الملك دعا إلى ضرورة التحلي بالواقعية وعدم الاكتفاء بما تحقق، والاستمرار في إقناع باقي الدول القليلة التي مازالت تسير ضد منطق الحق والتاريخ، بالاعتماد على الحجج والأدلة القانونية والسياسية والتاريخية والروحية، التي تؤكد شرعية مغربية الصحراء، خاصة أن المرحلة القادمة تتطلب المزيد من التعبئة واليقظة، لمواصلة تعزيز الموقف المغربي، والتعريف بعدالة قضيتنا والتصدي لمناورات الخصوم.
وإذ ننوه بمضامين الخطاب الملكي، الذي أكد فيه جلالته على الأدوار الهامة للدبلوماسية البرلمانية والحزبية في حشد المزيد من الاعتراف بمغربية الصحراء، وتوسيع دائرة الدعم لمقترح الحكم الذاتي كحل وحيد ذي مصداقية لحل النزاع المفتعل، مبديا اعتزازه بالمكاسب التي ما انفكت بلادنا تحققها على مستوى تكريس الوحدة الترابية، فإننا نرفض أن تظل قضية الصحراء المغربية تقع على كاهل الدبلوماسية المغربية وحدها، حيث أنها تتطلب تضافر جهود المؤسسات والهيئات الوطنية الرسمية والحزبية والمدنية، وتعزيز التنسيق بينها، بما يضفي النجاعة اللازمة على أدائها وتحركاتها في الاتجاه الذي رسمه لها القائد الملهم محمد السادس برؤية متبصرة.