بقلم عبد الرحيم بن بوشعيب مفكير
تقديم:
يلعب الإعلام عموما والمرئي على وجه الخصوص دورا حاسما ومفصليا في تأطير المواطنين صوب الاتجاه الذي يختاره المخرج أو المنتج أو مقدم البرامج. أيضا، للإعلام المرئي، إسهام مقدر ومعتبر في تربية الناشئة والتأثير الفكري والثقافي والقيمي الأخلاقي على الشباب والمشاهدين بصفة عامة في مجتمع تقترب فيه نسبة الأمية من نصف عدد المواطنين تزيدها الأمية الإعلامية سوءا، فيصعب في حالات عدة التمييز بين الواقع والخيال، الممكن والمستحيل، الأصيل والدخيل في المحتوى الإعلامي المعروض.
المسلسلات المدبلجة وصناعة التيه الثقافي:
تعتبر المسلسلات المدبلجة من البرامج الصانعة للتيه الثقافي والهوياتي لعدة اعتبارات. فمن ناحية المضمون، لا تخرج هذه المسلسلات، سواء كانت مكسيكية أو تركية أو غيرها، عن رباعي مقدس من القضايا المعالجة والقيم المروجة، وهي: الحظ والغرام المتحدي والمتجاوز لكل المعايير الاجتماعية والمال والصراعات العائلية. هذه القضايا تجعل المتلقي يعيش وهم الوصول إلى ما يريد بسهولة بمجرد التجرؤ على القوانين الاجتماعية، فيمكن الوصول إلى المال بالخداع والمراوغة أو انتظار الصدف والحظ، ويمكن للفتاة الثورة على عائلتها للحفاظ على علاقتها بشاب تحبه وهكذا. من ناحية الهوية الثقافية فعرض المسلسلات المدبلجة لثقافات مختلفة متشابهة المعالجة الدرامية يهدد من جهة بتذويب الثقافة المغربية ويدفع المشاهد إلى البحث عن ذاته وهويته في كل مسلسل، فيحلم بنفسه تركيا تارة ومكسيكيا تارة أخرى أو ياباني أو هندي أو غيره، ومن ناحية أخرى تهدد بتنميط الثقافة المغربية لأن تكرار نفس المواضيع سيجعل التفكير في عكسها أو الرغبة في صدها والوقوف في وجهها رجعية واعتداء على حرية الآخرين الذين يتربون على الوصول السهل للمبتغيات. أما من الناحية اللغوية، فإن تدريج المسلسلات يهدم البنيان الفكري الوجداني للمتلقي الذي يحتاج للغة تسمو بذوقه وتحترم عقله وتساير التطور الحاصل في المغرب في المستوى التعليمي للناشئة. ولذلك فتشجيع الدارجة إنما هو إسهام في تكريس الأمية وتعميم للرداءة وحراسة للتخلف الذي تستفيد من النخب المتغربة فكرا وتكوينا ويؤخر عجلة التنمية، خصوصا في المرحلة التاريخية التي يمر منها العالم العربي. كما أن تدريج محتوى إعلامي هابط يكسر الاحترام داخل الأسر ويعاكس، بل يضيع، المجهودات التربوية للأسرة والمدرسة والمسجد والجمعيات كمؤسسات للتنشئة الاجتماعية.
المسلسلات المدبلجة ومخالفة الدستور والقوانين:
من الناحية القانونية أكد الدستور المغربي، كما في ديباجته، على أن “المملكة المغربية دولة إسلامية، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية-الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية”. وتضيف الديباجة بأن “الهوية المغربية تتميز بتبوء الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها”. وتغليب المسلسلات المدبلجة في المشهد الإعلامي المرئي يضيع على المشاهد فرص التمتع بهذا الغنى الثقافي الوطني ويشجع على ثقافة التطلع لما لدى الآخر وتبخيس المشرك الذاتي، ويدفع باتجاه الانغلاق الثقافي كرد فعل على الانفتاح المشرع بلا حواجز. من جهة أخرى يؤكد الفصل الخامس أنه “تظل العربية اللغة الرسمية للدولة. وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها. كما تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة، بدون استثناء… يحدث مجلس وطني للغات والثقافة المغربية، مهمته، على وجه الخصوص، حماية وتنمية اللغات العربية والأمازيغية، ومختلف التعبيرات الثقافية المغربية، تراثا أصيلا وإبداعا معاصرا”. واللغة المستعملة في المسلسلات المدبلجة مزيج هجين بين العربية الفصحى والعربية المغربية، فلا هي فصحى واضحة تتماشى مع عربية الأخبار والجرائد والمقررات الدراسية والمراسلات الإدارية، ولا هي إحدى التعبيرات اللهجية لإحدى مناطق المغرب. أيضا يؤكد الفصل 22 أنه “لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف ومن قبل أي جهة كانت، خاصة أو عامة”. ولئن كانت المسلسلات المدبلجة ومثيلاتها من برامج الإسفاف الفكري لا تمس السلامة الجسدية بشكل مباشر، فإنها تهيئ الجو للتطبيع مع اللاأخلاق واللاقيم وتتحمل “مسؤولية معنوية” عن عدم احترام الشباب بكثير من قيم المجتمع، فوصلت الجرأة حد ممارسة الجنس في واضحة النهار أمام الملأ أو قرب المساجد، كما جاء في تحقيق مجلة آش كاين أمولاتي الإلكترونية. وتتوالى في النص الدستوري الفصول التي تحث على الحكامة الجيدة للمرفق العمومي وربط المسؤولية بالمحاسبة وإعادة الاعتبار للمواطن في اختيارات وتحديد أولويات السياسات العمومية. فالفصل 28 يؤكد أن “للجميع الحق في التعبير، ونشر الأخبار والأفكار والآراء، بكل حرية، ومن غير قيد، عدا ما ينص عليه القانون صراحة… يحدد القانون قواعد تنظيم وسائل الإعلام العمومية ومراقبتها. ويضمن الاستفادة من هذه الوسائل، مع احترام التعددية اللغوية والثقافية والسياسية للمجتمع المغربي”، بينما الفصل 32 يضيف أنه “تسعى الدولة لتوفير الحماية القانونية، والاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال، بكيفية متساوية، بصرف النظر عن وضعيتهم العائلية”. من جهته يبين الفصل 154 أنه “تخضع المرافق العمومية لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية، وتخضع في تسييرها للمبادئ والقيم الديمقراطية، التي أقرها الدستور”.
كما جاء دستور 2011 بعدة مؤسسات تحرص على تحقيق النفع العام من السياسات العمومية وتحرص على جودة الخدمات العمومية المقدمة، بما فيها الخدمات الإعلامية والخدمات التي تستهدف الشباب والأطفال والأسرة. فجاء في الفصل 162 أن “الوسيط مؤسسة وطنية مستقلة ومتخصصة، مهمتها الدفاع عن الحقوق في نطاق العلاقات بين الإدارة والمرتفقين، والإسهام في ترسيخ سيادة القانون، وإشاعة مبادئ العدل والإنصاف، وقيم التخليق والشفافية في تدبير الإدارات والمؤسسات العمومية”، بينما أكد الفصل 165 أنه “تتولى الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري السهر على احترام التعبير التعددي لتيارات الرأي والفكر، والحق في المعلومة في الميدان السمعي البصري، وذلك في إطار احترام القيم الحضارية والأساسية وقوانين المملكة”. أيضا في الفصل 170 “يتولى مجلس استشاري للأسرة والطفولة، المحدث بموجب الفصل 32 من هذا الدستور، مهمة تأمين تتبع وضعية الأسرة والطفولة، وإبداء آراء حول المخططات الوطنية المتعلقة بهذه الميادين، وتنشيط النقاش العمومي حول السياسة العمومية الأسرية” بينما “يعتبر المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي، المحدث بموجب الفصل 33 من هذا الدستور، هيئة استشارية في ميادين حماية الشباب والنهوض بتطوير الحياة الجمعوية… وتنمية طاقاتهم الإبداعية، وتحفيزهم على الانخراط في الحياة الوطنية، بروح المواطنة والمسؤولية”، حسب الفصل 170.
إن تضييع هذه الحقوق يضع المسؤولية على عاتق الفاعل السياسي الرسمي والفاعل المدني الميداني على السواء وينتقص من إمكانيات نجاح الخيار الثالث عندما يرى المتتبعون استمرار ترويج قيم الرداءة واللامعنى من خلال المسلسلات المدبلجة رخيصة الثمن، هابطة المستوى الفني واللغوي والقيمي.
وتنص دفاتر تحملات القنوات التلفزية العمومية على أنه “تتولى الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة مهمة تنفيذ سياسة الدولة في ميدان التلفزة والإذاعة والبث التلفزي”. فالبث العمومي خاضع لقانون وهناك هيئات ساهرة على تطبيقه، خصوصا الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري. فحرية القنوات التلفزية في تسطير برامجها لا تؤسس لحرية تفلتها من الالتزام بتنفيذ سياسة الدولة ممثلة في الهيئات المنتخبة وذات الشرعية والعمق الشعبيين. ولذلك حرص دفتر التحملات على أنه “تتولى الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، في إطار المصلحة العامة، مهام المرفق العام الهادفة إلى الاستجابة لحاجيات الجمهور في ميادين الإخبار والثقافة والتربية والترفيه”. ويبقى السؤال مفتوحا عن التعاطي الديمقراطي مع آراء الجماهير في المسلسلات المدبلجة في غياب إحصائيات شاملة عوض الاكتفاء بإحصائيات ماروك متري التي تتبع منهجية العينة في جمع المعلومات. أما الإخبار والتربية والترفيه فسيبقى هامشها ضعيفا أمام عدد المسلسلات المدبلجة التي توزع على مختلف أوقات النهار.
استحضارا لأهمية البرمجة المتنوعة، حرصت دفاتر التحملات الجديدة على أن القنوات التلفزية العمومية “تقترح برمجة موجهة إلى أوسع فئات الجمهور، ذات مرجعية عامة ومتنوعة، تستند إلى القيم الحضارية المغربية الإسلامية والعربية والأمازيغية وكذا إلى القيم الإنسانية الكونية”. المسلسلات المدبلجة تخالف كل هذا وتستند إلى قيم خاصة بها أهمها التفلت واللامسؤولية والعبث واللاانضباط والصدفة والحظ والحرص على المال بشتى الوسائل وصناعة هالة من القداسة حول الحب بين الرجل والمرأة.
من النقاط التي تحتاج لمعالجة قانونية أن دفتر تحملات القناة الرابعة ذات البعد التعليمي يدفعها إلى أن “تسهر على إشاعة رؤية مواطنة وعصرية للتربية والتعليم والتكوين، عبر برامج مخصصة للدعم المدرسي ومحو الأمية والتكوين المهني وانفتاح الشخصية وتثمين قدرات التأمل والتحليل”. كما تساهم نفس القناة في “تحسين وضعية المواطن في المجتمع عبر برامج مرتكزة أساسا حول الأسرة والمرأة والشباب. وفي هذا الإطار تبث برامج تحسيسية وتوعوية من أجل الوقاية من ظاهرة انحراف الشباب حتى تتمكن الأسرة من تقوية توازناتها ومهامها”. إن هذا الإحساس بدور الإعلام في التنشئة الاجتماعية وقدرته في التأثير على العلاقات الأسرية سلبا أو إيجابا يستوجب التساؤل حول تخصيص قناة الرابعة بهذا الدور المفصلي مع ضعف الإقبال عليها، كما يسائل التكامل والتوازن بين البرامج الإعلامية على اعتبار أن المسلسلات المدبلجة تناقض هذه التوصيات والبنود المنصوص عليها. يصبح منطقيا طرح السؤال حول لماذا لا يتم تحويل هذه البنود إلى مختلف القنوات الإذاعية والتلفزية، خاصة مع الاعتراف بأن البرامج ذات البعد التحسيسي التوعوي والمرتكزة “أساسا حول الأسرة والمرأة والشباب” تحسن وضعية المواطن في المجتمع وتقي الشباب من الانحراف وتسند الأسرة في أدائها لدورها المجتمعي.
أيضا المادة 99 من دفتر التحملات تنص على أن الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة تضمن “التنسيق بين قنوات ومحطات خدمة الإذاعة التي تقدمها”. والتنسيق يبقى مقزما وغير ذا جدوى كبرى إن بقي محصورا في الجانب الشكلي المتمثل في مد القنوات لبعضها البعض بالبرامج، بل ينبغي أن يمتد التنسيق إلى تحقيق الأهداف الكبرى التي تؤهل القنوات التلفزية لتصب في اتجاه الخدمة العمومية والالتزام بالصالح العام.
خلاصة:
إن هذه المقتضيات الثقافية والحضارية والقانونية والمجتمعية تحتاج من المجتمع المدني الهوياتي استنهاض الطاقات للوقوف أمام تعميم الرداءة وتشجيع الشباب على اللاعفة وعلى التفلت من مسؤوليات نتائج التعاطي مع الجنس الآخر بلا قيود أخلاقية أو دينية أو مجتمعية.
ولا بد من إعداد مذكرة ترافعية حول المسلسلات المدبلجة، والقيام بإحصائيات لإحصاء الخروقات القانونية سواء على مستوى الشكل أو المضمون والإشهار وتوقيت البث- والخروقات القيمية، والقيام بمقترحات، وتقديم تعديلات قانونية، ومقترحات إضافات زجرية في حالة خرق قانون حماية المستهلك.
بقلم : عبد الرحيم بن بوشعيب مفكير