لعله من دواعي استياء المغاربة ونفورهم من العمل السياسي والعزوف عن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية، ما باتوا يلاحظون من إصرار بعض المنتخبين على ممارسات سيئة ودنيئة. حيث يأبون إلا أن يتهافتوا على المناصب ليس رغبة منهم في خدمة مصالح المواطنات والمواطنين والصالح العام، وإنما من أجل تحقيق مكاسب شخصية وأهداف حزبية ضيقة ليس إلا.
والأفظع من ذلك ألا يستحي البعض من تحويل المؤسسات والمجالس المنتخبة إلى حلبات للعراك، مستعملين مختلف أشكال العنف المادي والمعنوي، بدل تكريس جهودهم نحو تنمية البلاد والعباد، حتى أن ملك البلاد محمد السادس بدا في أكثر من مناسبة غير راض ولا مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة ويدار به الشأن العام، وفاقدا الثقة في عدد من النخب السياسية التي طالما وجه لها انتقادات شديدة اللهجة، داعيا إياها إلى الاختيار بين القيام بمسؤولياتها كاملة بحس وطني أو ترك الفرصة لمن هم أهل لذلك من الوطنيين الشرفاء.
إذ فضلا عما أضحى عليه حال الجماعات الترابية من فوضى عارمة في التدبير وتواتر القرارات، كما يتبين من خلال تقارير المجالس الجهوية الصادرة عن المجلس الأعلى للحسابات، التي ما انفكت تكشف عن عدة تلاعبات واختلالات في التدبير والتسيير لمعظم الجماعات الترابية بمختلف جهات المملكة، والمتمثلة في عدد من التجاوزات الإدارية والمالية مثل تمرير الصفقات العمومية دون مناقصات أو طلبات عروض، سواء تعلق الأمر بالقطاعات التي تدبرها شركات عمومية أو خاصة أو التي تسهر على تسييرها جماعات محلية بشكل مباشر.
وبصرف النظر عن الكم الوافر من ملفات الفساد المعروضة على المحاكم وخاصة منها محاكم الجرائم المالية، والقرارات المتوالية بمتابعة أشخاص سواء رؤساء جماعات أو أعضاء بمجالسها، وإحالتهم على المجالس المختصة بسبب ما أقدموا عليه من مخالفات متفاوتة الخطورة.
فإن هناك ظاهرة أخرى لا تقل خطورة عن معضلة الفساد المستشري في مؤسساتنا بشكل لافت، وهي تلك التي نجد فيها أن الشغب الذي لم نفتأ نندد بكافة أشكاله لم يعد منحصرا فقط في الملاعب الرياضية، بل تجاوزها إلى المجالس الجماعية التي يفترض أن ينكب أعضاؤها على حسن إعداد المجال وتدبيره وتنظيمه، بناء على الموكول إليها من الصلاحيات والاختصاصات والموارد المالية المرصودة لها. وذلك عبر ما أصبحت عليه دوراتها العادية والاستثنائية من “حروب”، حيث تبادل الشتم واللكمات والعبث بممتلكات الجماعة أمام أنظار الجميع وتحت عدسات الهواتف المحمولة.
وسنكتفي هنا بالإشارة فقط إلى ما شهدته هذه الأيام الأخيرة قبل حلول شهر رمضان الأبرك بقليل جلسات دورات المجالس الجماعية في مدن: تازة، سطات وبوزنيقة، وفق ما تداوله المواطنون عبر منصات التواصل الاجتماعي من أشرطة فيديو مقتطفة من النقل المباشر لتلك الجلسات. حيث تحول بعض المنتخبين إلى “بلطجيين” متمرسين، من خلال تصرفاتهم الرعناء المتمثلة في استعمالهم قاموس لغوي منحط أثناء مخاطبة زميلاتهم وزملائهم، ناهيكم عن تبادل الاتهامات، التشابك بالأيدي وإتلاف تجهيزات قاعات الاجتماعات، في مشاهد مخجلة ومثيرة للتقزز. فأين نحن من دور الأحزاب السياسية في التأطير الذي تتقاضى مقابله دعما ماليا ضخما من أموال الشعب؟ وهل هذه هي النخب التي راهن عليها الناخبون في تمثيلهم إبان انتخابات 8 شتنبر 2021، من حيث إعطاء القدوة في النزاهة والاستقامة وحسن التدبير والاهتمام بقضاياهم الأساسية؟
وكان لافتا أن تدخل وزارة الداخلية على الخط باستعجال وتتفاعل مع استنكار المواطنين لذلك العبث الموثق بالصورة والصوت، والذي أمسى ملازما لبعض دورات المجالس المنتخبة، وأن تستنفر العمال وتطالبهم بضرورة تطبيق مسطرة عزل المستشارين الجماعيين المتورطين في أحداث “الشغب”، الذين تسببوا بسلوكاتهم غير السوية في نسف تلك الدورات بالضرب والتهديد والتخريب. إذ تلقى “المشاغبون” استفسارات من سلطة الوصاية، عبر مراسلات خاصة حول ما اقترفوه من أفعال منافية للقانون.
فما لا يستسيغه الكثير من متتبعي الشأن العام المحلي ببلادنا ويثير استغرابهم، هو أن يسمح لأنفسهم أولئك “البلطجيون” من منعدمي الضمير بهدر أوقات دورات المجالس الجماعية في اللغو وإثارة الفتن والمعارك السياسوية في ظل وجود ذلك الزخم من الاختصاصات التي يخولها القانون التنظيمي للجماعات، دون أن يغفل التنصيص على حفظ حقوق المعارضة وتوضيح وظائفها. إذ أن من بين أهم اختصاصات مجلس الجماعة، أنه يفصل من خلال مداولاته في عديد القضايا ذات الارتباط الوثيق بالساكنة ويمارس الصلاحيات الموكولة إليه بمقتضى المادة 92 من القانون التنظيمي 14.113، إذ هناك ما هو متعلق بالمالية والجبايات والأملاك، الميزانية، تدبير أملاك الجماعة والمحافظة عليها وصيانتها، التعمير والبناء وإعداد التراب، ضوابط البناء والتدابير الصحية والنظافة وحماية البيئة وغيرها كثير…
إنه لمن المؤسف أن تنحرف مجالسنا الجماعية عن وظائفها ويتحول فضاؤها إلى معترك لتصفية الحسابات الضيقة بعيدا عن قضايا الوطن ومصالح المواطنين، ويصبح معنى المعارضة هو “البلطجة”، بينما هي بخلاف ما كان عليه الأمر في النظام الجماعي القديم من عشوائية، حين كانت تستخدم في الابتزاز السياسي، صار لها اليوم الحق في فضح كل مظاهر الفساد والتصدي لكل الممارسات غير الديمقراطية، ومساءلة الرئيس عن كل ما يخص مصالح الجماعة في أجواء من الانضباط والموضوعية، مما يستلزم تحلي الجميع بروح المواطنة والحس بالمسؤولية، والانخراط بفعالية في تدبير الشأن العام المحلي، والحرص على خلق تكامل بين الأغلبية والمعارضة، لخدمة الصالح العام وعدم الإساءة إلى العمل السياسي.
اسماعيل الحلوتي