بقلم: بلال التليدي
ما من شك أن المغرب اختار طريقا صعبا للدفاع عن قضيته الوطنية، حينما قرن انخراطه في مسار التطبيع بتسوية ملف الصحراء، لكن من السابق لأوانه إجراء تقييم حقيقي لهذا المسار، في ضوء حسابات الربح والخسارة، فالمؤشرات لم تكتمل بعد، وما حققه المغرب من انتصارات دبلوماسية، لا يمكن الجزم بكونها ثمرة من ثمرات هذا المسار.
ثمة ثلاث مقاربات لتقييم هذا المسار، مقاربة مبدئية، تناهض التطبيع، وتعتبر أن مساره مهلكة للعالم العربي، وأنه لا يمكن بحال إحراز أي تقدم على حساب القضية الفلسطينية وثوابتها، وأن التطبيع يعتبر اصطفافا مع العدو وتآمرا على القضية الفلسطينية.
المقاربة الثانية، تزيد على المبدأ شيئا آخر، يرتبط بتقييم تجارب سابقة في التطبيع، وبالتحديد تجربة مصر والأردن، بل وتجربة السلطة الفلسطينية نفسها، وأن التطبيع لم يحل مشاكل مصر الأردن، وأنه على العكس من ذلك، زادها تعقيدا، وأضحت مصر والأردن خارج مربع الفعل المحوري في المعادلة العربية وفي منطقة الشرق الأوسط، بل تتحدث هذه المقاربة عن تآمر إسرائيلي ضد البلدين بتخريب الزراعة (مصر) وتعميق أزمة الأمن المائي (الأردن).
لا نريد اعتماد هذه المقاربة في تقييم مسار التطبيع المغربي، وإنما نقترح مقاربة أخرى، تعتمد حسابات الربح والخسارة، والمغانم والمغارم التي ستحصل للمغرب من جراء الانخراط في هذا المسار.
واضح من الموقف المغربي، أنه حرص -على الأقل من حيث الخطاب-أن يبعث برسالة متوازنة، أن تطبيعه لا يعني أبدا تنكره للثوابت الفلسطينية، وأنه ليس ثمة أي مقايضة سياسية، يقدم المغرب وفقا لها القضية الفلسطينية قربانا لقاء كسب وحدته الترابية.
على مستوى عملي، أعقب التوقيع على الاتفاق الثلاثي، استقبال المغرب لقادة حماس، ورئيس مكتبها السياسي السيد إسماعيل أبو هنية في زيارة دامت أياما بالرباط، في رسالة مفادها أن مسار التطبيع، لا يعني بالمطلق، اصطفاف المغرب ضد حركات المقاومة الفلسطينية، بل بالعكس من ذلك، يمكن أن يؤهله هذا الموقع للعب أدوار مستقبلية في الحوار مع هذه الفصائل لخدمة السلام والقضية الفلسطينية.
لكن، بعيدا عن هذه المؤشرات الشكلية، أو البروتوكولية، لنتجه إلى ما هو مهم في هذه المقاربة، أي تقييم المكاسب والخسائر في مسار التطبيع.
عمليا، يمكن أن نتحدث عن كسب مهم حققه المغرب بعد مسار التطبيع، دون جزم بوجود تلازم بين الأمرين، فقد ضاعف عدد التمثيليات الدبلوماسية للدول الأجنبية في المناطق الصحراوية، وأعادت واشنطن تأكيدها على الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، وعلى أن المبادرة المغربية للحكم الذاتي تعتبر المقترح الجدي والواقعي للحل السياسي العادل لتسوية النزاع، وتحول الموقف الألماني والإسباني لجهة دعم المقترح المغربي للحكم الذاتي، وقبل ذلك، خرج قرار مجلس الأمن حول الصحراء، منتصرا للموقف المغربي، وواضعا نهاية لحلم تقرير المصير بالشكل الذي تتأوله البوليساريو وحاضنتها الجزائر، وتمكن المغرب من دعم قدراته العسكرية، بمنتوجات عسكرية جد متطورة تكنولوجيا، مكنته من منع أي تحرك للبوليساريو في المنطقة العازلة، وأضحت الجزائر معزولة وفاقدة للمبادرة المناوئة.
لكن، مع كل هذه الانتصارات المهمة، ثمة أسئلة مهمة تطرح بخصوص علاقة كل ذلك بالانخراط في مسار التطبيع، وما إذا كان من الممكن للمغرب أن يحقق هذه الحزمة من المكاسب من غير تطبيع، وثمة سؤال آخر، أقوى منه، وهو الأفق الذي تمضي إليه الأمور في قضية الصحراء، وهل يمكن الحديث مع شهر أبريل القادم (الشهر الذي عادة ما يناقش فيه تقرير الأمين العام ويصدر قرار من مجلس الأمن بخصوص قضية الصحراء) عن انعطافة نهائية لخيار المقترح المغربي للحكم الذاتي واعتباره الحل الوحيد لتسوية النزاع في الصحراء؟
عمليا، يصعب أن نحسب عائدات الدبلوماسية المغربية بشكل كلي على التطبيع، فمكاسب المغرب سواء في علاقته مع إسبانيا وألمانيا، تحركت فيها أوراق أمنية واقتصادية وتجارية كبيرة، ولم تكن ورقة التحالف مع نادي الكبار أو العلاقة مع إسرائيل سوى جزئية محدودة التأثير في تفسير الكسب الدبلوماسي المغربي، فالتقدم العسكري الذي حققه المغرب من جراء علاقاته بإسرائيل، رغم المخاوف التي أثارها لدى النخب العسكرية والأمنية الإسبانية، إلا أن التقييم الإجمالي لها إسبانيا، لم يصل إلى حد الاعتقاد بخلخلة موازين القوى العسكرية بين الرباط ومدريد، بل إن النخب العسكرية في إسبانيا أعلنت أكثر من مرة، بأن تقوية المغرب لقدراته العسكرية لا يمثل تهديدا جديا لإسبانيا.
ثمة أسئلة مهمة تطرح بخصوص علاقة كل ذلك بالانخراط في مسار التطبيع، وما إذا كان من الممكن للمغرب أن يحقق هذه الحزمة من المكاسب من غير تطبيع، وثمة سؤال آخر، أقوى منه، وهو الأفق الذي تمضي إليه الأمور في قضية الصحراء
واضح من خلال تتبع زمنية تنزيل الاتفاق الثلاثي، أن الوتيرة لم تكن متناسبة، فقد حصل نوع في البدء نوع من التباطؤ من جهة الرباط، بل حصل توتر مهم في العلاقة بين الرباط وتل أبيب بسبب تصريحات منسوبة لممثل الدولة العبرية بالرباط، أعقبتها انفراجة في العلاقة، ظهرت مؤشراتها في شكل تبادل الرحلات الجوية، وتنسيق التعاون الأمني والعسكري، فضلا عن إبرام علاقات تعاون في المجال الزراعي والسياحي.
لكن، هل كان هذا هو منتهى الرؤية المغربية؟ أو للدقة، هل كان العرض المغربي الذي لقي استحسانا أمريكيا وإسرائيليا، يتضمن فقط هذه النقاط؟ وهل كان المغرب يتطلع فقط إلى اعتراف أمريكي بالصحراء، ودعم إسرائيلي لقدرات المغرب العسكرية، بشكل يمكنه من تطهير المنطقة العازلة من اختراقات جبهة البوليساريو، ومن إبطال مفاعيل مخططات الجزائر؟
يصعب الجواب في ظل غياب معطيات تفصيلية عن محتوى الاتفاق الثلاثي، والمصالح المشتركة التي تم التعهد بتلبيتها والوفاء بها، لكن خطاب وزير الخارجية المغربي في صحراء النقب، وأيضا في الندوة الصحافية التي جمعته بنظيره الأمريكي أنتوني بلينكن، تكشف جانبا مهما من هذه التفاهمات التي لم تتنزل لحد الآن على أرض الواقع.
تحليل خطاب السيد ناصر بوريطة يشير إلى أن المغرب، كان يتطلع لأكثر من مجرد الدعم السياسي الأمريكي لقضيته الوطنية، وأنه يريد أن يحصن هذا المكسب (الدعم السياسي) بشراكة تجارية استراتيجية، بين واشنطن والرباط، بحيث يلعب المغرب دور المنصة العابرة للسلع الأمريكية إلى العمق الإفريقي.
السيد بوريطة استعمل عبارتين دالتين في كل من صحراء النقب، والندوة الصحافية بالرباط، فقال في النقب، بأنه “يأمل أن تجمعه صحراء أخرى مثل صحراء النقب بنفس الروح”، في إشارة إلى الدعم السياسي المنتظر في قضية الصحراء، وتحدث في الرباط عن جزء من مضمون الشراكة مع واشنطن، كما تم تصورها عند توقيع الاتفاق الثلاثي، وذلك بتحرك مشاريع أمريكية ضخمة من المغرب إلى العمق الإفريقي عبر الصحراء.
لنلاحظ في المحطتين معا، استعمال مصطلح “نأمل” في الأولى، و”ننتظر” في الثانية”، وهي عبارات تحيل على المستقبل، ولا تقيم ما حصل في الحاضر، أو في الماضي القريب، وهو ما يعني أن الرباط لم تنل كل ما كانت تتوقعه، أو بالأحرى ما تم التعهد به إليها، من قبل واشنطن.
الذكاء الأمريكي، كان حاضرا في ندوة الرباط، فبدل أن يتحدث السيد بلينكن عن مشاريع ضخمة خططت لها واشنطن لتعبر منطقة الصحراء إلى العمق الإفريقي، تحدث عن دعم مرتقب للمغرب لمواجهة أزمة الجفاف التي يمر منها، أي أن واشنطن، لحد الآن لا تزال مترددة في إحاطة دعمها السياسي لقضية الصحراء بضمانات استراتيجية (مصالح تجارية كبرى تعبر الصحراء)، وتكتفي بمجرد الدعم السياسي، وذلك حتى لا تكبل إرادتها وتترك الخيارات مفتوحة.
تقديري، أن مكاسب المغرب مع دول أوربا، لم يكن لملف التطبيع دور حاسم فيها وإنما لعبت فيها أوراق الأمن (الهجرة السرية)، والإمدادات الطاقية (الكهرباء، والهيدروجين الأخضر)، والحصار الاقتصادي لسبتة ومليلية، الدور الحاسم، بحيث من المرتقب أن تسير بريطانيا حذو إسبانيا وألمانيا، لنفس السبب (الإمدادات الكهربائية)، وأن أقصى ما جاء به التطبيع هو دعم سياسي أمريكي، لا يزال يتردد في أن يحاط بضمانات استراتيجية، في شكل تعاون استراتيجي، يشكل فيه المغرب منصة العبور للمنتجات الأمريكية إلى العمق الإفريقي.
في المدى القريب يمكن أن ننتظر دعما سياسيا أمريكيا وأوروبيا قويا لمقترح المغربي للحكم الذاتي، من الممكن أن ينعكس على قرار مجلس الأمن الجديد، لكن، من غير المؤكد إن كان القرار الجديد سيكون حاسما، أم أنه سيضيف بعض النقاط لفائدة الرباط بالمقارنة مع قرار مجلس الأمن للسنة الماضية في انتظار نقاط أخرى تأتي في المستقبل لحسم ملف الصحراء بشكل نهائي.
٭ كاتب وباحث مغربي