عدنان بن صالح
عن الجزيرة . نت .aljazeera.net
قبل احتلال المغرب بسنتين، سيولد علال الفاسي لأسرة عربية مسلمة عريقة في العلم وشرف النسب عام 1910 بمدينة فاس العالمة. حفظ القرآن الكريم في صغره، وتجاوز ذكاؤه ونبوغه مجايليه، صغيرا وكبيرا، ثم انتقل للدراسة بجامع القرويين ومنه تخرج بشهادة العالمية سنة 1930، تطوع بعدها لتدريس مادة التاريخ الإسلامي. عرف بنشاطه الطلابي والمدني ضد الاستعمار منذ وقت مبكر، وقاد مظاهرات ضد الظهير البربري، فاعتقل، ثم أسس جمعية سرية، صارت لاحقا كتلة العمل الوطني التي تقدمت ب”دفتر مطالب الشعب المغربي”، ثم ب”المطالب المستعجلة”، وأدى ثمن ذلك اعتقالا تعسفيا سنة 1936، ففر إلى المنطقة الخليفية، ومنها إلى إسبانيا، ففرنسا. وأتاحت له إقامته في فرنسا الانخراط في النضال المغاربي والعربي ضد الاحتلال، فأقام علاقات موسعة مع رموز العمل الوطني في البلدان المغاربية والأفريقية. وناضل عن الطبقة الشغيلة، وعن الكفاح المغاربي وانتقل للقاهرة وباريس ومدريد وكان له فيها نشاط فوق العد والحصر. ومن أرض الكنانة، أعلن عن انطلاق المقاومة المسلحة سنة 1953، ودعم عمل جيش التحرير المغربي.
في المغرب وفي المنفى وفي رحاب عواصم عربية، واصل الأستاذ علال نضاله، مؤسسا معية وطنيين آخرين “الحزب الوطني لتحقيق المطالب”، وطالب جهارا بالاستقلال منذ عام 1940، فنفي إلى الغابون ومنها إلى الكونغو مدة ناهزت 9 سنوات، انفتح فيها على أمهات المصادر والمراجع في الفكر العربي والعالمي.
كان عضوا نشطا في مكتب المغرب العربي بالقاهرة، ثم كاتبا عاما للجنة تحرير المغرب العربي، ونسج علاقات تعاون مثمر مع الأمير ابن عبد الكريم. في ما بين عامي 1949 و1952 قاد عدة فعاليات وأنشطة ضد الاستعمار، وألف كتابه الاستثنائي “النقد الذاتي”، وأسهم إسهاما وافرا في الصحافة الوطنية.
وهو بين هذا وذاك، لا ينفك يشتغل بجدية وموسوعية ومقاربة تجديدية على قضايا: الوحدة المغاربية، وبناء المغرب العربي الكبير، والصحراء المغربية، والدولة الوطنية الحديثة، والإصلاح الاجتماعي، والحرية، وموقع الشريعة في حياة المجتمع.
عقب الاستقلال، تقلد رئاسة لجنة صياغة الدستور، ثم عين وزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية، وسكرتيرا للجنة الخاصة بمدونة الأحوال الشخصية، كما حاز عضوية البرلمان المغربي لسنوات. وعلى المستوى الحزبي، بقي أمينا عاما وزعيما لحزب الاستقلال إلى حين مماته في إطار مهمة رسمية في التعريف بمغربية قضية الصحراء، وذلك بمدينة بوخاريست عاصمة رومانيا يوم 13 مايو/أيار 1974.
في هذا المسار الممتزج فيه ما هو نضالي بما هو سياسي وثقافي وإعلامي، ترك لنا الأستاذ علال الفاسي محاضرات قيمة ومصنفات مرجعية في حقول معرفية متعددة. نذكر من كتبه “دائما مع الشعب”، “القضية الفلسطينية في الفكر والوجدان”، “النقد الذاتي”، “مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها”، “كي لا ننسى”، “مهمة علماء الإسلام”، “صحراء المغرب المغتصبة”، “في منفى الكابون 1937-1946″، “حديث المغرب في المشرق”، “الحركات الاستقلالية في المغرب العربي”، “نضالية الإمام مالك ورجال مذهبه”، “تاريخ التشريع الإسلامي”، فضلا عما عرف به في أوساط مجايليه وأقرانه من الأدباء والشعراء من غزارة في الإبداع الشعري، فكان بحق شاعرا مبدعا وعالما مجددا وسياسيا كبيرا وكاتبا مشهودا له بالموسوعية المدهشة.
إلا أن أهم ما استوقفنا في مسار الرجل العلمي، وأدهش خيالنا، كتابه المميز “النقد الذاتي”، الذي نضعه في طليعة إصدارات المفكر علال الفاسي، لأنه في العمق والمقصد دلالة على أفكار نوعية، متسقة، وبرنامج إصلاح وطني، وتجديد فكري وبعث حضاري لمغرب ما بعد الاستقلال.
هذا العمل يحمل في ذاته شرف خلاصة 10 سنوات من القراءة والتأمل والنظر والمقابلة بين كبرى نظريات العصر، ومحصلة سنة من التحرير والنشر في مجلة “لسان المغرب”، بانضباط أسبوعي صارم. ومن عنوانه يلج القارئ إلى عالم الكاتب، الذي قوامه الموسوعية، والتأمل النظري والعملي العميق، والسعي لمحاسبة الذات والنفس والمجتمع والدولة، وتكوين أفق نظري وعملي محوره “ثورة فكرية شاملة”، ودعوة لأداء الواجبات البسيطة والكبيرة من أجل مغرب وشعب ناهضين قويين.
“النقد الذاتي” امتحان للضمير الوطني الجمعي، ونقد صارم صادق للحركة الوطنية والقوات الديمقراطية الإصلاحية، وخطوة استباقية خشية حدوث تغيير غير مخطط له، على كيفية لا يريدها الكاتب لنفسه ولا لوطنه، وتأكيد مستمر على كون “إصلاح الفكر” أرضية أساسية للتحرك في باقي مجالات الحياة.
والمغرب في كف الحماية كل شيء به محاصر، إلا الفكر الحر، والعقلية المستشرفة الراحلة إلى المستقبل، يتجاوز الأستاذ علال الفاسي الواقع العنيد ليضع منهاجا لسير المجتمع ونموه، ويدعو لتأسيس الدولة الوطنية، القائمة على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتقدير قيمة الحرية، معتمدا منهج التدرج في إيصال هذه الرسالة للشعب المغربي وحكامه ونخبه؛ قيمة وسبيلا وأداء، إذ ينطلق من أخص خصائص النفس البشرية، ارتقاء صوب التفكير في الذات، فالمجتمع، فالوطن، فالإنسانية.
جاء الكتاب دعوة جريئة للدخول في عصر أنوار مغربي، كتب في عز ظلام الاستعمار والاستبداد، وتنبيها للرأي العام للإيمان ب”النظر والحوار، وتحديد المثل العليا، واختيار أحسن السبل للوصول إليها..” (انظر: “النقد الذاتي”، ص: 17)، وانتصارا من الكاتب والكتاب للقيم المغربية الأصيلة، والمنحازة للجانب المشرق في الإسلام، والمتعاطفة مع الكادحين والبسطاء ومع تاريخ الهامش والمهمشين.
قيمة الجهد الذهني المبذول في الكتاب تقدر من لدن القارئ عند التأمل بعين المرحلة وعين الباحث، وتظهر جلية عندما نقف على صنافة القضايا الرئيسية الكبرى في متنه، فنجد أن قضايا الفكر -وما أعقدها وأصعبها- تأخذ من مساحة الكتاب نحو 150 صفحة، نقدا وتقويما ودعوة للتجديد. فيتعرض للفكر الوطني والفكر الإسلامي والفكر المغربي بمستوياته: الإداري، السياسي، الحزبي، القضائي، ثم الفكر الاقتصادي بمستوياته الثلاث: إسلامي، غربي، مغربي، فيستحضر ويناقش كبرى النظريات الاقتصادية في الشرق والغرب، ويدحض أضاليلها، ويبين بعض الشبهات المرتبطة بالاقتصاد الإسلامي، ويسلط الضوء على الجوانب الإصلاحية في النظرية الاقتصادية للإسلام، ويقترح على المخزن طرقا جديدة لتدبير الأملاك العمومية وأراضي الجيش، ويدعو لتبني اقتصاد وطني عادل مساهم في التنمية الشاملة والنافعة لكل طبقات المجتمع.
تليها قضايا الاجتماع الإنساني -بشرا وعمرانا- يستحضر فيها الكاتب المواطن المغربي والمجتمع، والمدينة والبادية، والطبقات الفقيرة والغنية، والروح والعقل، والجغرافيا والتاريخ والهوية ومسار تشكل الأمة المغربية، وشؤون العائلة والأسرة نظرا لأهميتها “التي تفوق كل ما عاداها من مظاهر الاجتماع، لأنها مصدر كل المؤسسات”، حسب تعبيره في “النقد الذاتي”، ص: 265. والمرأة، وإشكالية البغاء، ويبرز موقفه من مسألة تعدد الزوجات ويدعو لمنعه “منعا باتا عن طريق الحكومة”، انظر: “النقد الذاتي”، ص: 288. ويتعرض لمشاكل المخدرات وتأثيراتها المدمرة على النسيج الاجتماعي، وظاهرة أطفال الشوارع واليتامى والمجانين والمرضى، وتحدي نظافة المنازل المغربية وسلامتها من العنف والأمراض والتشتت الأسري، فضلا عن عنايته بمسألة الصحة العامة ومناعة الجهاز الاجتماعي بما يضمن قوة ونهضة العمران المغربي.
كذلك يخص قضية الحرية بوافر الاهتمام الفكري والثقافي، الحرية التي يراها “كسائر الأشياء الحبيبة محاطة بكثير من المكاره”، ولكن وجبت صيانتها واعتمادها دواء لعلاج كثير من أدوائنا، لأن “دواء الحرية صعب؛ ولكنه وحده الدواء الصحيح”، على حد تعبيره، (ص: 67). وكم كان لافتا للنظر حديث علال عن أحقية الشعب في الحرية والتحرر وهو تحت وطأة الحماية التي ما جاءت إلا لتكبل حرية الفكر والعمل والسيادة، ودعوته لإعزاز قيمة الحرية في العقول والأرواح، إذ بفضلها سنخرج “من قبضة الحكم الأجنبي علينا (..) ونأخذ طريقنا في البناء، وبعث الذاتية الإسلامية الوطنية التي حجبها عنا المستعمر”، على حد تعبير الكاتب في كتابه “دفاع عن الشريعة”، ص: 30.
أما قضايا التربية والتعليم، فنالت نصيبا مهما من تفكير واستشراف السيد علال الفاسي، واعتبرهما “قضية حياة أو موت، لأن كل ما نريده للأمة من رفاهية وأمن وحرية لا يمكن أن يتم إلا إذا أعدته لنفسها بنفسها”، عن طريق إصلاح التعليم وتعميم المعرفة، وإيلاء كبير الاهتمام لأهداف التربية، ولغة التعليم، وصيانة الهوية الدينية للتعليم، والسعي لإجبارية التعليم حتى لا يبقى في صفوف مغاربة ما بعد الاستقلال جاهل أو أمي، وبذل الجهد في اقتراح مواد ومناهج ناجحة، مع التفكير الجدي في مسألة التعليم المهني، لما فيه مصلحة فئة عريضة من شباب المغرب الذين اختاروا طواعية أو اضطرارا مسارا مهنيا.
كما لم يفوت تخصيص حيز لقضايا العمل والتنظيم النقابي واقتراح أفكار مطورة للنظام النقابي، ودعوة العاملين إلى الانخراط في النقابة الوطنية تحقيقا لمطالبهم وحاجاتهم، وتدبير أوقات فراغ العمال والموظفين لما يعنيه ذلك من “معاونة المواطنين على الاستمتاع بجمال الحرية، وإرهاف حواسهم على تذوق المعالي، وإعداد أبدانهم لتحمل أعباء العمل الذي يحسن أحوالهم وأحوال أسرهم المادية، في مأمن من كل كدر وكسل، وفي حمى من كل ظلم أو استبداد”، بتعبير علال في “النقد الذاتي”، ص: 438.
ظل الأستاذ علال الفاسي وفيًا لقيمة النقد وهو يتناول معظم هذه القضايا وغيرها مما لم نورده هنا، ويسجل مواقفه تجاهها بعقلية العالم وحاسة السياسي ومقصد المصلح، حيث نجده يعارض بشدة مسألة تعدد الزوجات بعد أن يورد الحجج والبراهين والاجتهادات في قراءة الحالة الاجتماعية في المغرب، انظر الصفحتين 288 و291 من كتابه “النقد الذاتي”. ويعد الثورات غالبا ما تكون في عمقها “محافظة” (ص: 409)، ويحض على ضرورة الضريبة على الشباب الذين بلغوا الـ25 من العمر ولا يزالون عزابا (ص: 284)، ويدعو إلى تجريم البغاء السري والعلني بصفة قانونية، ويناشد المجتمع التحرر من عرف الوعد بتزويج الصغيرات (حالة تطوان)، ويرى من واجب الدولة تأسيس عيادات مجانية للحوامل ودور مجانية للولادة في كل الجهات (ص: 330).
إن مستويات النقد في كل فصول هذا المنتج الفكري الهام عالية جدا، تطال الذات والعائلة والجماعة والمجتمع والدولة والأمة والتاريخ والحركة الوطنية والتراث وأعطاب فكر أزمنة التخلف والجمود.
وفي لفتة نادرة، انتقد الزعيم علال ما يفرضه جيل اليوم على أجيال الغد -الحديث هنا عن مغرب أواخر الأربعينيات وعقد الخمسينيات- إذ يرى أنه من “حقوق الإنسان ألا يفرض جيل اليوم نظامه وأعماله على جيل الغد”، انظر “النقد الذاتي”، ص: 167.
بهذا العمل الفكري النوعي، وسائر كتب العلامة علال الفاسي، نوقن في قدرة أرض المغرب الأقصى على إنتاج النبغاء، ونوقن أيضا في تميز واجتهاد هذا الرجل، ووطنيته وتمكنه العلمي، وأنه بحق من خيرة عقلاء ونبغاء مغرب القرن العشرين، إذ درس جوانب متعددة من الفكر الاجتماعي، وقعّد ونقد العناصر التي تكون منها المجتمع المغربي في مسيره، وبحث الطاقات المعنوية والمادية التي سيرت المجتمع المغربي، والفواعل القديمة والجديدة التي عملت وتعمل على توجيهه، وآمن بوجود الأمة المغربية ودعا إلى احترام مؤهلاتها وعناصر تكوينها، وحض على أن يكون السير نحو “التطور المطلق” منبنيا على “التفكير المطلق”، لتحقيق “التجديد المطلق” في البناء المغربي الخالد.
فرحمه الله، ونفع بما خلف للمغرب وللأمة الإسلامية من جليل المعارف.
مصادر ومراجع
“موسوعة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير بالمغرب”، الجزء الثاني، المجلد الأول، (أعلام العائلة الملكية والحركة الإصلاحية)، الطبعة الأولى 2008.
(بوتان) مويس: “الحسن الثاني، ديغول، بن بركة؛ ما أعرفه عنهم”، ترجمة رشيد برهونس، مراجعة عثمان بناني، دفاتر وجهات نظر، الطبعة الأولى 2014.
(الفاسي) علال: “النقد الذاتي”، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الطبعة التاسعة، سنة 2010.
“الحركات الاستقلالية في المغرب العربي”، منشورات مؤسسة علال الفاسي، الطبعة 6.
“الديمقراطية وكفاح الشعب المغربي من أجلها في الماضي والحاضر”، منشورات مؤسسة علال الفاسي، الطبعة الثانية 2009.
“دفاع عن الشريعة”، مراجعة المختار باقة، منشورات مؤسسة علال الفاسي، الطبعة الخامسة، 2010.