بقلم : محمد سرحان
هربوا من محاكم تفتيش الأندلس فأحرقهم البرتغاليون أحياء.. كيف دخل الإسلام إلى البرازيل؟
تكتظ بهم المساجد، وتتحول من أماكن للصلاة والعبادة فقط إلى مراكز لتجمّع المسلمين وترسيخ الهوية وتعميق أواصر الترابط فيما بينهم، فيتم استقبالهم فيها يومياً للإفطار الجماعي والأنشطة الدينية والتعليمية والمسابقات، وقد أضيئت بالمصابيح وتزيّنت بأصوات القراء المبتعثين استعداداً لشهر رمضان، فأهلا بك في البرازيل.
بهذه التجمعات اليومية والأجواء يقضي المسلمون في البرازيل شهر رمضان، فتقيم المساجد إفطارات يومية، ومؤسسات إسلامية أخرى تقدم سِلالاً غذائية وإفطارات للعائلات، وتقام المسابقات الدينية والثقافية، ويغلب الطابع الشامي على الإفطارات والأجواء؛ نظراً لأغلبية المسلمين اللبنانيين والسوريين من مسلمي البرازيل
أعداد المسلمين في البرازيل تُقدر بنحو 1.5 مليون مسلم، من إجمالي عدد سكانها البالغ 200 مليون نسمة، ورغم قلة نسبة المسلمين، والتي هي أقل من 1% فإن حضورهم وتأثيرهم أكبر من ذلك، بحكم الامتداد التاريخي الذي هو بعمر البرازيل، فالحكومة البرازيلية تفتح الباب أمام الجالية المسلمة للعمل، ويتم تسهيل تراخيص المساجد والمؤسسات الإسلامية، وسبق أن اختيرت شخصيات إسلامية كمواطن العام، تقديراً لإسهامهم في المجتمع.
وليس هذا فحسب، بل منذ عام 2008، وبقرار رسمي، يُعد تاريخ 25 مارس/آذار يوماً سنوياً لتكريم الجالية العربية، وهذا التاريخ إشارة لشارع 25 مارس بمدينة ساو باولو، وهي منطقة تجارية أقام فيها العرب الأوائل تجارتهم، وكذلك ما أقره برلمان ولاية “ساو باولو” في 2009، باعتبار يوم 12 مايو/أيار من كل عام يوماً لتكريم الدين الإسلامي، وبرلمان ولاية بارنا أقر لاحقاً الخطوة نفسها كذلك، كما يعد يوم 29 نوفمبر/تشرين الثاني يوماً سنوياً للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وبخصوص المرأة المسلمة في البرازيل، سواء مواطنة أو مقيمة، فهي تستطيع استخراج الأوراق الرسمية بصورتها وهي ترتدي الحجاب.
أما المسلمون من السكان الأصليين فتتجاوز أعدادهم 10 آلاف مسلم، ينحدرون من أصول مختلفة، ومسلمو البرازيل هم أكبر جالية مسلمة في أمريكا الجنوبية، يتركزون في عدة ولايات بالبرازيل، يتركز نحو 70% منهم في ساو باولو، وهناك نسبة كبيرة في منطقة الحدود مع كل من الأرجنتين والباراغواي، إلى جانب وجودهم في بقية الولايات، ولهم مساجد كبيرة ومؤسسات إسلامية عريقة.
أول الحكاية:
قد تتعجب من هذه الخصوصية الممنوحة للمسلمين رغم قلتهم، لكن عندما تتعرف على قصة وجود الإسلام هناك سيتلاشى هذا العجب، ويمكن تقسيم الحضور الإسلامي إلى ثلاث مراحل.
الموريسكيون:
تبدأ المرحلة الأولى من نهايات القرن 15م مع حركة الاكتشافات الجغرافية للعالم الجديد، وبخصوص البرازيل فالوجود الإسلامي فيها يمتد منذ اكتشافها من قبل البرتغالي “بيدرو الفاريس كابرال” سنة 1500، إذ كان بصحبته بحارة ومرشدون مسلمون متمرسون في علوم البحار، وهؤلاء البحارة كانوا من الأندلسيين الذين فروا من محاكم التفتيش في إسبانيا.
تظاهروا بالنصرانية، حتى إن البرتغال بعد اكتشاف البرازيل سعت في منع مسلميها من الهجرة إليها، ولو تظاهروا بالنصرانية، ومن الباحثين من يذهب إلى أن وصول الإسلام إلى الأمريكتين سابق على وجود البرتغاليين والإسبان، ممثلاً في البحرية العثمانية، استدلالاً بخرائط “الريس بيري”، المذكور في مسلسل “بربروس” التركي الذي يعرض حالياً.
لكن هؤلاء المسلمين الذين تظاهروا بالنصرانية لم يسلموا من التنكيل، فأقام لهم البرتغاليون محاكم تفتيش جديدة في مدينة “باهيا” في البرازيل عام 1594، وهذه المحكمة وضعت معايير لتحديد من هو مسلم سراً، منها: الاستيقاظ مبكراً والاغتسال ونظافة الملابس والصيام وتم إحراق كثيرين منهم أحياء بتهمة الإسلام.
وينقل د. علي الكتاني في الجزء الثاني من كتابه “المسلمون في أوروبا وأمريكا”، أن “هناك عائلات برازيلية من أصل برتغالي تحتفظ في بيوتها بمصاحف عربية توارثوها عن أجدادهم ويقدسونها رغم أنهم نصارى”.
العبيد الأفارقة:
العبودية في البرازيل
المرحلة الثانية لوصول المسلمين للبرازيل كانت مرحلة الأفارقة، الذين جلبهم البرتغاليون واستعبدوهم خلال الفترة من منتصف القرن 16م حتى نهايات القرن 19م، قُدرت أعدادهم بنحو 6 ملايين كما يذكر د. علي الكتاني في كتاب “المسلمون في أوروبا وأمريكا”، مثل المسلمون حوالي 30% من هؤلاء العبيد، إلا أن هؤلاء كان نسبة كبيرة منهم يجيدون القراءة والكتابة، وكان بعضهم أصحاب مكانة ووجهاء وعلماء في بلادهم، تم أسرهم وترحيلهم قسراً إلى هذه البلاد كعبيد، نجح هؤلاء المسلمون في الحفاظ على دينهم وتنظيم العبيد وربطهم بدينهم، بل نجحوا في استمالة كثير من العبيد الآخرين للإسلام، وأصبحت مكونات المسلمين من هؤلاء المستعبدين الأفارقة قوية ومنظمة في ولايات باهيا وريو دي جانيرو، وكانت لهم أماكن للتعليم والصلاة دون أن يسموها مسجداً.
ثورة العبيد المسلمين:
لكن للأسف كان هؤلاء ضحية قمع وعنصرية، وصلت حد تحويل المسلمين للمسيحية قسراً، فضلاً عن هضم حقوقهم، ما دفع هؤلاء العبيد وفي مقدمتهم المسلمون للقيام بثورات وحركات تمرد، كان أشهرها ثورة 1835م، والتي بالمناسبة كانت في شهر رمضان، إلا أنها فشلت وترتب عليها التنكيل بالمسلمين وقتلهم وتدمير مؤسساتهم، وأدى ذلك إلى تغييب تام للإسلام في البرازيل، ومَن بقي منهم اضطر لإخفاء دينه ومنهم من هاجر إلى إفريقيا.
من المهم أن نشير هنا إلى نقطة مهمة أكد عليها المؤرخ البرازيلي “جاو خوسيه ريس” في كتابه “تمرد الرقيق في البرازيل.. انتفاضة المسلمين عام 1835 في باهيا”، وهي أن العرق المشترك لم يكون وحده المحرك أو الرابط بين هؤلاء العبيد الذين ثاروا، بل إن الدين كان حاضراً رئيسياً؛ إذ أسهم الإسلام كدين مشترك بين مجموعات عرقية متعددة في توحيد هذه العرقيات، بل إن المصادر التاريخية تؤكد أن حركات التمرد التي قام بها العبيد في البرازيل قادها المسلمون، وهو ما أسهم في تناقص أعدادهم كما يذكر د. عاطف معتمد في دراسة بعنوان “الإسلام في البرازيل.. عبء الماضي وتحديات المستقبل”، أنه “بعد كل ثورة كانت السلطات تمارس الإعدام والتنكيل بزعماء الثورة المسلمين”، وهذه المرحلة تنتهي بإعلان إلغاء الرق رسمياً عام 1888م.
بعد ثورة 1835 لم يتبخر الوجود الإسلامي في البرازيل، رغم هذه الصورة المأساوية والتنكيل بالمسلمين، فبحسب ما يذكر الشيخ عبد الرحمن البغدادي في مخطوطة له بعنوان “مسلية الغريب في كل أمر عجيب”، تناول هذه المخطوطة بالدراسة والتحقيق الشيخ خالد تقي الدين، رئيس المجلس الأعلى للأئمة والشؤن الإسلامية في البرازيل حالياً.
والشيخ البغدادي كان إماماً للبحرية العثمانية في عهد السلطان عبد العزيز الأول، ووفق المخطوطة، رافق في عام 1282 هجرية 1866م سفينتين عثمانيتين كانتا متجهتين إلى البصرة، مروراً بطريق رأس الرجاء الصالح، لكن الرياح حملت السفينتين إلى بلاد بعيدة، تبيّن لاحقاً أنها ريو دي جانيرو، عاصمة البرازيل آنذاك، وهناك صادف الشيخ وجود مسلمين برازيليين من أصول إفريقية، لكنهم نسوا كثيراً من تعاليم الإسلام، فألحّوا على الشيخ بعد أن تعارفوا عليه أن يبقى معهم يعلمهم أمور دينهم مجدداً، وهذا كان بعد 30 سنة من ثورة باهيا، فبقي الشيخ معهم نحو 3 سنوات، ويوضح الشيخ أن الوجود الإسلامي بقي في البرازيل لسنوات طويلة؛ إذ كان المسلمون يمارسون دينهم سراً.
الموجة الثالثة
وبدءاً من عام 1860 كانت موجة جديدة من الهجرة للبرازيل من دول عربية، أبرزها لبنان وسوريا وفلسطين، كثير منهم كانوا مسيحيين، وبدأ مسلمون أيضاً يتجهون لهذه البلاد مع بدايات القرن الـ20، خصوصاً من لبنان وبلاد الشام، مع الاضطرابات السياسية والاقتصادية، حتى إن أعداد من ينحدرون من أصول عربية تُقدر بأكثر من 12 مليوناً أغلبهم مسيحيون، عمل أكثرهم في التجارة، والمسلمون منهم أسّسوا أقدم جمعية خيرية في أمريكا اللاتينية، في يناير/كانون الثاني 1929، ومسجد البرازيل بدعم عربي وإسلامي، ويشار إلى أن مسجد البرازيل لقي اهتماماً مصرياً خاصاً في الستينيات من القرن العشرين، فمنبر المسجد والنجف جاءت خصيصاً من مصر.
وبمرور الوقت، ومنذ منتصف القرن الـ20، مثلت هذه المؤسسات الإسلامية قبلة للمسلمين الذين بدأوا في الازدياد، وحاضنة تحفظ هويتهم، ولم يفُت مسلميه استثمار المواسم الرياضية في بلاد السامبا، فخلال استضافة البرازيل كأس العالم 2014 لكرة القدم، دشن المسلمون بمساعدة مؤسسات من دول عربية وإسلامية حملة “سلام برازيل”، للتعريف بالمونديال، ووزعوا نحو مليون كتاب ومئات الآلاف من المطويات الدعوية، فأثمرت عن إسلام 12 شخصاً، وهناك أيضاً طاولات الدعوة في الشوارع، إلا أن هذا الوجود الإسلامي لا يخلو من التحديات، أهمها قلة عدد الدعاة مقارنة بعدد المساجد والمصليات التي تتجاوز 100، فضلاً عن أن يكون هذا الداعية يجيد لغة المجتمع، وعلى دراية بواقعه المختلف تماماً عن بيئاتنا العربية والإسلامية.
* محمد سرحان صحفي مصري مهتم بالأقليات المسلمة حاصل على ليسانس الآداب قسم الإعلام، درست دبلومتين في كلية