محمد شلبي(*)
لا شىء في هذه الدنيا يعدل ذلك الفرح بلقاء عالم جليل، ومعلم قدير ، جمع بين المعقول والمنقول، وبين علوم الشريعة وعلوم الحقيقة، وبين النظرية والتطبيق، وبين التدريس والتأسيس، فيحيي فيك محبة العلم ويشعل في وجدانك سلوك طريق الصالحين، لم أشأ الكتابة عن شيخي وأستاذي عندما استُثْمِر تصريح له فتسلطت عليه الأقلام المأجورة والمداد المسموم الذي راح يرسم حوله الشبهة، ويلصق به التهمة؛ لعلمي أن من تلاميذه من يقوم بهذا الدور وقد فعلوا، وعكفت أنا على الدعاء له بأن يقيه الله شر كل حاقد، وعين كل حاسد، وكان ذلك عندي أولى وأحب، وكم كان يعتصرني الألم عندما تكاثرت عليه السهام وهو ذلك العالم الذي أحسب أن له عند الله وجاهة، وله في قلوب الناس مكانة، غير أني اليوم وبعد قرار استقالته الشجاع لم أجد بدا من أطاوع قلمي، وأستجيب لأناملي، وقد أبت على قلمي مروءته كما مروءة صاحبه أن أترك واحدا من علماء الأمة في مرمى النيران، بعدما وَطّنْتُ نفسي على أن أُشْهِرَ قلمي في ميادين المواجهة العقلية، وفي ساحات الاشتباك الفكري، خدمة للحق والحقيقة.
قد يخطىء البعض في تصريح أدلى به، أو في تبني خيار ارتآه، أو يؤثر انحيازا يراه الآخرون خطأ، غير أن هذا لا ينبغي أن يعرضه للاغتيال المعنوي، أو إهدار تاريخه وعطائه، وقد يقدم تبريرات على مواقفه يرى فيها غيره أنها ضعيفة وغير صالحة للاستدلال، ولا يضره ذلك إذا كان يبتغي من مقاله الله ورسوله والدار الآخرة، وإذا قدمه على أنه اجتهاد بشري قابل للأخذ والرد أو القبول والرفض، لا سيما وأن يكون هذا الاجتهاد في حدود ما كفله الشرع وسمح به التشريع.
بالإضافة إلى ذلك فإن النظرة المنصفة تقول إن الدكتور الريسوني مغربي الأصل ومغاربي الهوى وإسلامي الوجهة والفكر، وأنه ينتمي إلى هذه الجغرافيا ويعتبر كل من يعيش عليها أهلا وذا رحم، وأنه منهم وهم منه، ولا يُتَصَوّر غير ذلك.
اتفق أو اختلف مع الشيخ حول تصريحه، فقد ينطلق البعض في رفضه من مشاعر وطنية رأت في التصريح ما ينال منها، وما يمس سيادتها، ولهم الحق في ذلك لا يغمطهم فيه إلا متجن أو عنيد، وتأول البعض التصريح ووضعوه في سياق يحتمله دون ما انصرف الذهن إليه، وخرج الشيخ بعد اللغط الدائر ليبين مراده، ويحدد وجهته، وكم تمنيت كما غيري أن يدور النقاش حول الكلام لا حول صاحبه، وأن يخضع النقاش للفهم الدقيق، والتحليل العميق، والمنهجية السليمة.
إن التاريخ العلمي حافل بالنقلة والمخرجين على الأصول والفروع، غير أن نصيبه من المجددين قليل أو ضعيف، وهذا طبيعي فقد قال صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم:” إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد للأمة أمر دينها” في إشارة من المعصوم إلى الندرة والقلة، وأنا هنا لست في معرض توزيع الألقاب على الآخرين فلذلك منهجيته، بينما الذي لا يماري فيه أحد أن الريسوني أعطى للمقاصد آمادا وآفاقا، وأضحى له فيها تلامذة أخيار. والتساؤل المشروع عندئذ: لمصلحة من هدم الرموز العلمية.
ومن واقع المعايشة بين أسوار الجامعة وفي قاعات المحاضرات بين المقاصد والتجديد والتخريج وجدت في الرجل لسانا طليقا، وفكرا عميقا وغوصا على أسرار المعاني ومعاني الأسرار، وبديهة كالبرق، وتنظيما وترتيبا لا تراه إلا عند الراسخين في العلم الذين طوحت بهم الدراسة شرقا وغربا بالليل والنهار سرا وعلانية حتى ظن الناس أن العز بن عبد السلام بعث من جديد وأن الشاطبي يمشي بين الناس، هذا هو الريسوني العالم الذي ترونه خلف الشاشات وفي قاعات الدرس يؤصل وينظر، ويشرح ويبين، ويجمل ويفصل، أما الريسوني المعلم الذي تعامله فتلمس فيه حنان الأب ورقته، وصفاء الشيخ وطهارته، وفوق هذا فقد رزقه الله سعة في صدره، وبشاشة في وجهه، ونورا يليق بمن رضي الله عنهم ورضوا عنه.
كان يدرسني في الدكتوراة مادة التجديد ولا حظت وهو يقرأ توصيف المقرر أنه قد خلا من المجددين الذين ينتمون إلى المذهب الحنفي، وعندما ذكرت له ملاحظتي طلب مني مقترحات فاقترحت عليه التجديد الفقهي والأصولي عند أبي يوسف القاضي، فوافق على الفور وطلب مني عرض المادة في الإسبوع الموالي، وقد كان، وعندما كتبت بحثا في نفس الموضوع قيّمه وكتب ملاحظة ” ممتاز ، قد أنصفت صاحبك” لعلم فضيلته المسبق أنني أكثر ميلا للمذهب الحنفي، إنني لا أفهم من هذا إلا معنى التوريث والبناء.
إن المناصب تصنع بعضا ممن يريد أن يرفع بها خسيسته، أو يعلي بها مكانته، حتى تسمو منزلته ويتسامق بين الناس ذكره، ولكن هناك كوكبة من البشر هي التي تعطي المناصب قيمتها، والمواقع مكانتها، وأحسب الدكتور الريسوني منهم، لقد غادر منصبا ماديا مهما كان رفيعا وبقي موقعه الحقيقي عالما يخرج للأمة أجيالا يكونون واقعها وموقعها ومآلها ومستقبلها، فلله درك من عالم .
——–
(*) نُشر بموقع د. الريسوني