بقلم: أحمد الحيسوني
الشورى المعلمة والشورى الملزمة
لقد جرى في عصرنا هذا نقاش واسع حول ما إن كانت الشورى ملزمة أو معلمة، بمعنى أن الأمير ـ أو أي مترئس ـ إذا تشاور مع أهل الشورى عنده، هل تكون مشورتهم وآراؤهم ملزمة له، ويتعين عليه الأخذ بها، أم أنها معلمة لا ملزمة، بحيث يستوضح منهم ويستنير بآرائهم، ثم يختار ويقرر ما بدا له، مما يوافق آراءهم أو يخالفها.
عامة العلماء المتقدمين ـ من الفقهاء والمفسرين وغيرهم ـ يستفاد من كلامهم أن الأمير إذا استشار مع أهل شوراه، فإنه يأخذ من ذلك بما يراه صواباً، وما يبدو له راجحا، وبما هو في نظره حق أو أقرب إلى الحق. فالمرجع في النهاية. هو رأيه وتقديره. وهذا هو معنى “الشورى المعلمة”.
وأما المعاصرون، من علماء ومفكرين، فيميل أكثرهم ـ وبشكل متزايد ـ إلى ضرورة التزام الأمير المستشير بما اتفق عليه مستشاروه، كلهم، أو أكثرهم. وهذه هي “الشورى الملزمة”.
ومنهم من فصل وفرق، فجعل الشورى ملزمة في حالات وغير ملزمة في حالات أخرى. وهذا ما ذهب إليه الدكتور قحطان الدوري، حيث يرى أن الاختلاف إذا وقع بين الإمام وهيئة الشورى في مسألة اجتهادية لا نص فيها “فالترجيح للإمام وحده إذا كان مجتهداً، سواء وافق رأي الأغلبية أم خالفه. وعليه فحق تشريع القوانين ـ فيما لا نص فيه ـ وتعديلها وإلغاؤها بيد الإمام المجتهد.
وأما إذا كان الإمام غير مجتهد، أو كان الإمام مجتهداً، ولم ير رأياً، وأوكل تقرير الأمر إلى مجلس الشورى، واختلف أعضاء المجلس فيه، أخذ برأي الأغلبية.” ( )
والحق أن العلماء المتقدمين ـ من مفسرين وفقهاء وغيرهم ـ لم يناقشوا هذه المسألة نقاشا حقيقيا، ولم يستعرضوا أدلة على الإلزام أو الإعلام، إلا ما يتعلق بالشورى النبوية، حيث يذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم كان في غنى أصلا عن المشاورة وعن آراء المشاورين، فكيف يكون ملزما بآرائهم؟!.
غير أننا إذا تجاوزنا هؤلاء المتقدمين، إلى من هم أقدم منهم وأسبق، أي إلى السيرة النبوية، وسنة الخلفاء الراشدين وعموم الصحابة، فسنجد التوجه واضحا إلى الالتزام بمقتضى الشورى والأخذ بما اتفق عليه المستشارون، أو ذهب إليه أكثرهم.
وبما أن مسألة إلزامية الشورى تتداخل ـ حتى تكاد تتطابق ـ مع مسألة الأغلبية، فإني سأعرض الأدلة المشتركة بينهما، عند التطرق ـ قريبا ـ إلى مسألة الأغلبية.
وأكتفي الآن ببعض الآثار الدالة على التوجه المبدئي القاضي بالأخذ بنتيجة الشورى ،ممثلة في الرأي المتفق عليه، أو الرأي الغالب، عند المستشارين.
من ذلك الحديث الذي تقدم، في الأمر ينزل ليس فيه كتاب ولا سنة، قال: “…اجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد.” ( )
فالتوجيه واضح إلى اتباع الرأي الجماعي، وتحاشي اتباع الرأي الفردي. فهوـ عليه السلام ـ لم يقل: تتشاورون فيه، ثم يقضي فيه أميركم، بل نهى عن التفرد بالأمر.
وكذلك قوله لأبي بكر وعمر: “لو اجتمعنا في مشورة ما خالفتكما” ( )، فإذا كان القائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول هذا لإثنين من تلاميذه وأتباعه، فكيف بمن يستشير جماعة، وهم في الغالب من أنداده وطبقته؟!.
“وأخرج أبو داود في (المراسيل) من رواية عبد الله بن عبد الرحمان بن أبي حسين، أن رجلاً قال: يارسول الله، ما الحزم؟ قال: أن تشاور ذا لب ـ وفي رواية: ذا رأي ـ ثم تطيعه.”( )
وإذا كان هذا هو اللازم ـ أو اللائق ـ لمن يستشير شخصا واحدا ذا رأي، فإن من يستشير جماعة من خيرة علماء الأمة وذوي الرأي فيها، أولى له ذلك وألزم. وهذا ما تدل عليه مشورات الخلفاء الراشدين، وخاصة أبا بكر وعمر. وقد تقدم بعض من ذلك. ومنه أيضا قولة أبي بكر لعمرو بن العاص حين أرسل إليه خالد بن الوليد: “شاورهم ولا تخالفهم.” ( )
وروي عن عمر بن عبد العزيز ـ الخليفة الراشد ـ أنه لما ولي إمارة المدينة دعا عشرة من فقهائها … وقال لهم: “إني إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعوانا على الحق. ما أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم.” ( )
وأما ما ذهب إليه الدكتور الدوري من أن الإمام إذا كان مجتهداً فإنه يتبع رأيه واجتهاده ولو خالف هيئته الشورية، وأنه ينفرد بالتشريع فيما لا نص فيه، فربما بناه على ما يقوله الأصوليون من أن المجتهد لا يقلد غيره من المجتهدين، بل يتبع ما يؤديه إليه اجتهاده. وهذا إنما يكون في الاجتهاد العلمي المحض، الذي يمارسه أي عالم في تخصصه، ولا يكون له صفة الإلزام لعموم الناس. فمن حق كل صاحب رأي أوصله إليه نظره واجتهاده أن يأخذ به لنفسه أو يفتي به غيره، وله أن يدافع عنه ويتمسك به، فمن شاء اتبعه فيه ومن شاء اتبع غيره.
وأما ما نحن فيه فهو الرأي الذي يصبح تشريعاً عاماً نافذاً على الناس، وكذلك الرأي المتعلق بتدبير شؤون الناس ومصالحهم، ويكون لازما لهم كذلك، بحكم الحاكم وسلطانه. فهنا لا ترد مسألة تقليد المجتهد لغيره أو عدم تقليده، وحتى إذا أردنا تطبيقها هنا، فنقول: الإمام المجتهد له أن يتمسك لنفسه برأيه،المخالف لرأي مستشاريه، وله أن يعتقد صوابه أو رجحانه، وله أن يستمر في بيانه والدفاع العلمي عنه. وهو بهذا يكون غير مقلد لغيره، فرداً أو جماعة. لكن الرأي المتبنى والمعتمد لينفذ على الأمة وعلى الجماعة، فهذا ـ من الناحية العملية ـ له شأن آخر، هو ما نحن بصدد بيانه وتفصيله.
مسألة الأغلبية:
القول بإلزامية الشورى، إنما هو في حقيقته ومآله قول بمبدأ الأغلبية. فإلزامية الشورى تعني في النهاية الأخذ برأي الأكثرية من المستشارين. فحينما يجري التشاور في أمر، نكون في الغالب أمام إحدى حالتين ( ): حالة إجماع المتشاورين على رأي واحد. وهذه الحالة لا كلام فيها، فالأمر فيها جلي واضح.
والحالة الثانية: انقسام المتشاورين إلى رأيين أو أكثر. وكل رأي كان عليه أكثر المتشاورين، فهو رأي الأكثرية، أو الأغلبية. وكل رأي كان عليه العدد القليل، فهو رأي الأقلية. وحتى حينما يتفق المستشارون على رأي واحد، ويكون رأي الأمير ـ أو الرئيس ـ على رأي مخالف، فنحن هنا أيضا نكون أمام رأي للأغلبية، وآخر للأقلية، وإن كانت هذه الحالة هي كذلك نادرة الوقوع.
إذن، فالغالب المعمول عليه في المشاورات: إما إجماع لا إشكال فيه. وإما انقسام في الرأي ما بين أكثرية وأقلية. فهذا هو أكثر ما يقع، وهو محل النزاع، وهو موضوعنا الآن.
والرأي الذي أقول به ولا أتردد فيه، هو لزوم الأخذ برأي الأغلبية في المجالس والهيئات الشورية التقريرية.
وبما أن هذه القضية بشقيها أو بوجهيها (الإلزامية و اتباع الأغلبية) هي المحدد الأكبر لمسار الشورى ومصيرها، فلا بد من الوقوف عندها وبسط الأدلة فيها بما يكفي ويشفي إن شاء الله تعالى.
1ـ النظر في القرآن الكريم:
مما لا شك فيه أن القرآن الكريم ليس فيه ذكر لهذه المسألة ولا تصريح بحكمها، غير أن بعض المعاصرين ذهبوا إلى محاولة إبطال القول بالأغلبية، اعتماداً على ما في القرآن من ذم للكثرة والأكثر من الناس.
من هؤلاء الدكتور حسن هويدي، الذي يوضح هذا الوجه من وجوه اعتراضه على مبدإ الأغلبية بقوله: “فقد وردت الآيات الكريمة كنصوص عامة من كتاب الله تذم الأكثرية وتمدح الأقلية.
قال الله تعالى: وإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ… وهكذا نجد أن الخيرة هم القلة، حين مقارنة المؤمنين بالكافرين، وحين مقارنة المؤمنين بعضهم ببعض. فأين أمست الكثرة بعددها أمام القلة بفضلها؟…” ( )
ومنهم الدكتور أحمد رحماني الذي ألف كتاباً كبيراً سماه (الحقيقة الجوهرية في مشكلة الأكثرية والأقلية ـ دراسة في التفسير الموضوعي). ولشدة حماسة المؤلف لنصرة الأقلية وتسفيه الأكثرية، فقد وقع في كثير من الخلط والتعميم والتبسيط، رغم إقراره ببعض الاستثناءات والخصوصيات.
وقد لخص نتيجة كتابه بقوله “وقد انتهى ـ بعد بحث مدقق ـ إلى نتيجة أساسية، وهي أن الأكثرية (الجماهير الشعبية) على مدار التاريخ البشري، تقف في الجانب السلبي، وأن الأقلية الواعية هي التي تقف في الطرف الإيجابي، متمثلة فيما عبر عنه المصطلح الإسلامي بـ(جمهور العلماء) ومن اتبعهم.” ( )
ويؤكد المؤلف أنه حتى “على مستوى الدول الإسلامية نفسها، نلاحظ مشكلة محاربة أصحاب الدعوة الإسلامية وكثرة الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً ويبغونها عوجا. والعلة وراء كون الأكثرية دائما في الطرف السلبي، والأقلية فقط هي التي تكون في الطرف الإيجابي، هو أن الإنسان يكمن سر كماله واستقامته في استكمال قوته، قوة النظر والعلم وقوة الكسب والعمل…” ( )
ويختم الباحث كتابه بقوله “فهل آن الأوان لنفكر بجد ونعود لعقلنا، فنعطي القيادة للأقلية الصالحة، وهم جمهور العلماء ومن سار على هديهم من الصالحين؟” ( )
ولست أدري ما جدوى توجيه هذه الدعوة إلى التعقل وتسليم القيادة للأقلية الصالحة، ما دامت الأكثرية المعنية بهذه الدعوة تقف “دائما في الطرف السلبي”، لأنها لا تملك “قوة النظر والعلم وقوة الكسب والعمل؟”
على أن الانزلاق الأساس الذي يقع فيه أصحاب هذا الفهم لموضوع الأكثرية المذمومة في القرآن الكريم، هو عدم مراعاتهم للسياق والنطاق اللذين يأتي فيهما هذا الذم. فالآيات التي تذم “أكثر الناس” أو “أكثرهم” تتحدث عادة عن الكافرين، عن المشركين، عن المتكبرين، عن المنافقين، عن أهل الكتاب، ومجال ذمهم هو كبرهم وكفرهم بالحقائق الغيبية وما يترتب عن ذلك من استخفاف بالدار الآخرة، وبالقيم والأعمال الأخروية.
وهذه الأمور كلها مصدرها الوحي والخبر اليقين. وكل من لم يعتمد الوحي مصدراً لها، فهو إلى ضلال، سواءً كان من العوام ومن السواد والأكثرية، أو كان من النخبة المتعالمة المتعالية. ومن هنا لم يكن الضلال والذم القرآني من نصيب العامة بأكثر مما هو من نصيب النخبة، سواء كانت نخبة حاكمة أو نخبة متعالمة.
وقد كان عدد من الفلاسفة والمفكرين والأذكياء، هم كبار الضالين المضلين. فهل كان هؤلاء على مر الأزمان وتعاقب الأمم والأجيال، من الأكثرية أو من الأقلية؟ أو هم أكثرية الأقلية، أو هم الأقلية التي تقود الأكثرية؟.
وإذا كان القرآن الكريم قد ذم في عدد من آياته الأكثرية، أو بعض الأكثريات، فإنه أيضا ـ وفي آيات كثيرة ـ كذلك ـ قد ذم (الملأ)، ووصفهم بالضلال والإضلال، ووضعهم في مقدمة المناهضين لدعوات الأنبياء، الحاجزين لأقوامهم وجماهيرهم عن الاستجابة لها وحتى عن الإنصات إليها.
فمن عهد نوح عليه السلام نجـــد: قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)[1] فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)[2] إلى محمد صلى الله عليه وسلم: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)[3]
مرورا بكافة الرسل والأنبياء مع أقوامهم، حيث الملأ (النخبة المهيمنة) يتصدون بكل الوسائل الممكنة لدعوات الأنبياء لصد الناس عنها، من مثل: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)[4] {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) [5]
وحتى في الإسلام وفي المجتمع الإسلامي، فقد رويت أحاديث وآثار تحذر من فساد النخبة القيادية، وهم العلماء والأمراء، وأن بفسادهم يفسد المجتمع، كما أن في صلاحهم صلاح المجتمع.
ومن مشكاة النبوة نبع قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “اعلموا أنه لا يزال الناس مستقيمين ما استقامت لهم أئمتهم وهداتهم” ( )، وهو تحذير من أن الانحراف العام سيأتي بسبب انحراف الأئمة والقادة.
وهذه القولة العمرية كأنها تكرار لقولة مماثلة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، ففي الصحيح: “دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب، فرآها لا تكلم، فقال: ما لها لا تكلم !؟ قالوا: حجت مصمتة. فقال لها تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية. فتكلمت فقالت من أنت؟ قال امرؤ من المهاجرين، قالت: أي المهاجرين؟ قال: من قريش. قالت من أي قريش أنت؟ قال: إنك لسؤول، أنا أبو بكر. قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم، قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى. قال: فهم أولئك على الناس.” ( )
قال الحافظ ابن حجر: “الأمر الصالح: أي دين الإسلام وما اشتمل عليه من العدل واجتماع الكلمة ونصر المظلوم ووضع كل شيء في محله.” إلى أن قال يبين كلام أبي بكر “قوله: (أئمتكم)، أي لأن الناس على دين ملوكهم، فمن حاد من الأئمة عن الحال مال وأمال.” ( )
ولقد ذهب بعضهم إلى استهجان الكثرة في ذاتها والاستخفاف بها وإهدار قيمتها، وذلك اعتمادا منهم على الآية الكريمة: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)[6]، مع أن الآية ليس فيها انتقاص للكثرة ولا أي تفضيل للقلة على الكثرة. فهي إنما تنتقص الخبيث ولو كان كثيرا، وتقرر أن القليل من الطيب خير من الكثير الخبيث. فالمقارنة والمفاضلة هنا ليست بين قلة وكثرة، وإنما بين طيب وخبث. أما الكثرة في حد ذاتها فمحمودة حسنة، وهي نعمة يمتن الله بها على عباده: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)[7]
أما الذي يستحق الاستهجان فعلا فهو إقحام المسلمين، في مقارنة تتعلق بالخبيث والطيب، وتشبيه كثرتهم بكثرة الخبيث، مع أن الخبيث يراد به المشرك والكافر والمنافق، ويراد به الكسب الحرام، أو الشيء النجس المستقذر !.
والمسلمون المؤمنون في عمومهم طيبون وطيبات. والشيء الطيب ـ بدون شك ـ كثيره أفضل من قليله، مثلما أن الشيء الخبيث قليله خير من كثيره. فالزيادة الكمية والعددية فيما هو طيب، هي زيادة خير وفضل. وهذا ينطبق على عموم المسلمين، فكيف إذا تعلق الأمر بأهل شوراهم وعلمائهم وذوي الحل والعقد فيهم؟!
ومن لطائف الاستنباطات وعجيب المفارقات، ما ذهب إليه ابن عرفة التونسي، وحكاه عن ابن المنير الإسكندري، من أن هذه الآية نفسها: قُلْ لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ تدل على الاعتداد بالكثرة والترجيح بها. ( ) فقد نقل عنه ابن عاشور قوله في تفسيره “وكنت بحثت مع ابن عبد السلام ( ). وقلت له: هذه الآية تدل على الترجيح بالكثرة في الشهادة، لأنهم اختلفوا إذا شهد عدلان بأمر، وشهد عشرة عدول بضده. فالمشهور أن لا فرق بين العشرة والعدلين، وهما متكاملان (أي متساويان). وفي المذهب قول آخر بالترجيح بالكثرة. فقوله (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) يدل على أن الكثرة لها اعتبار، بحيث إنها ما أسقطت إلا للخبث، ولم يوافقني عليه ابن عبد السلام بوجه. ثم وجدت ابن المنير ذكره بعينه.” ( )
و مما يدل على الاعتداد بالكثرة الطيبة وإعلاء مقامها،ما جاء في صحيح مسلم (كتاب الجنائز)، عن أنس بن مالك قال: “مُرَّ بجنازة فأُثنيَ عليها خيرا،فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: “وجبت وجبت وجبت”. ومُرَّ بجنازة فأُثنيَ عليها شرا.فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: “وجبت وجبت وجبت” قال عمر: فدىً لك أبي وأمي،مـر بجنازة فأثني عليها خيراً، فقلت: وجبت وجبت؟. ومر بجنازة فأثني عليها شرا، فقلت: وجبت وجبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: “من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار.أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض.” ومعناه الصحيح عند الإمام النووي: “أن كل مسلم مات فألهم الله الناس أو معظمهم الثناء عليه،كان ذلك دليلا على أنه من أهل الجنة…”
فإذا كانت شهادة الكثرة من المؤمنين يعتد بها في الحكم بالجنة والنار،فكيف لايعتد بها في شؤون الدنيا ومصالحها،أو في اختيار الأصلح للولايات والإمارة ونحوها…؟!
ومن الآيات التي تشعرنا بأن الشورى الحقيقية هي التي يكون الرأي فيها جماعيا والقرار مشتركاً، ولا ينفرد بذلك أحد، آية الشورى (وأمرهم شورى بينهم)، فالأمر يكون شورى بينهم، إذا ظل ملكا لهم جميعا، وأخذ بالاعتبار رأيهم جميعا، ثم يحسم بقول مجموعهم أو أكثرهم. فالأمر من أوله إلى منتهاه دائر بينهم ولا يؤول إلى واحد منهم، إلا برضاهم.
ومن الآيات التي يمكن الاسترشاد بها والاستئناس بها في الموضوع ما جاء في قصة ملكة سبأ، حيث حكى الله تعالى عنها أنها: قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)[8]
والشاهد عندي هو قولها: (ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون).
وحتى يستقيم الاستشهاد بقول ملكة سبأ، ولا يبقى فيه مجال للإنكار والاعتراض، لا بد من التنبيه على أمرين:
الأول: ما قرره الشاطبي ـ ولا أعلم مخالفاً له فيه ـ وهو: “كل حكاية وقعت في القرآن، فلا يخلو أن يقع قبلها، أو بعدها ـ وهو الأكثر ـ رد لها، أوْلاَ. فإن وقع رد فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي وكذبه. وإن لم يقع رد، فذلك دليل على صحة المحكي وصدقه… فإن القرآن سمي فرقانا، وهدى وبرهاناً، وبياناً وتبياناً لكل شيء. وهو حجة الله على الخلق، على الجملة والتفصيل، والإطلاق والعموم. وهذا المعنى يأبى أن يحكى فيه ما ليس بحق، ثم لا ينبه عليه…” ( )
وما قالته ملكة سبأ والتزمت به، من أنها لا تبرم أمرا إلا بموافقة ملئها، ليس عندنا في القرآن، لا في نفس الموضع ولا في غيره، ما يرده ويبطله.
وكذلك في سنة المصطفى وسيرته صلى الله عليه وسلم، لا تجد إلا ما يشهد له ويؤيده، على ما رأينا وما سنرى. ومن هنا، فلا مجال لإبطال ما قالته هذه المرأة والتزمت به، وحكاه الله عز وجل ليتلى على عباده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولا دليل على تلك النزعة الاتهامية، التي عبر عنها الأستاذ عدنان النحوي بقوله: “فلم تكن الشورى التي طلبتها، بحثا عن مخرج، أو تحريا لحق، إنها لم تكن أكثر من أسلوب في الإدارة، ونمط من أنماط الحكم، إدارة الآلات، وحكم الأموات”. ( )
فلو أن ما عبر عنه مستشاروها كان صادراً عن خوف منهم وعجز وتملق، وعن استبداد وتجبر منها، لم تكن بحاجة إلى أن تقول لهم (ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون). فهذا يدل على أن المُتّبع المعمول به بينهم، هو أنها لا تقطع في أمر دونهم. ولو كانوا مجرد آلات ومجرد أموات، لم تكن بحاجة إلى التصريح بأنها لا تقطع أمرا دون موافقتهم، بل لم تكن بحاجة إلى استشارتهم أصلاً.
الأمر الثاني: وهو أعلى درجة من سابقه، هو أن ملكة سبأ سيقت في القرآن مساق التنويه والرضى عن تــدبيرها وتصرفهـا وعـاقبة أمرها. أما شـركها الأول، فــلأنها إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)[9] ولكنها ما أن سمعت دعوة الحق، حتى قالت: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)[10]
فهي من صنف الذين قالوا رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا. ( )
فكل ما حكاه القرآن من أقوالها وأفعالها ـ منذ تلقت كتاب سليمان ـ يدل على أنها سيقت مثلا للتعقل وحسن التدبير، على غرار ما حكى الله تعالى عن ذي القرنين. وقد فهم عدد من المفسرين هذا السياق، فاعتبروا به ونبهوا عليه.
قال القرطبي معلقا على مشاورتها ومحاورتها لملئها :
“فأخذت في حسن الأدب مع قومها، ومشاورتهم في أمرها،وأعلمتهم أن ذلك مُطَّرد عندها في كل أمر يعرض ، بقولها: مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ فكيف في هذه النازلة الكبرى . فراجعها الملأ بما يُقـر عينها، من إعلامهم إياها بالقوة والبأس، ثم سلموا الأمر إلى نظرها”. قال القرطبي: “وهي محاورة حسنة من الجميع.” ( )
وقد كشفت أقوالها وتصرفاتها عن أنها كانت أهلا لذلك التفويض الذي منحها إياه مجلس شوراها،وأنها صدرت فيها عن خبرة ودراية و حكمة، ولهذا لما حكى الله تعالى قولها: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً عقب سبحانه مؤيدا كلامها بقوله: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)[11] قال ابن عباس: هو من قول الله عز وجل، معرفا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته بذلك ومخبرا به. ( )
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي: ” ألا ترى أن ملكة سبأ، في حال كونها تسجد للشمس من دون الله، هي وقومها، لما قالت كلاما حقا، صدقها الله فيه، ولم يكن كفرها مانعا من تصديقها في الحق الذي قالته، وذلك قولها فيما ذكر الله عنها: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً. فقد قال تعالى مصدقا لها في قولها: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)[12]
فبناء على أن قولها ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون محكي في كتاب الله عز وجل، دون أي إبطال أو ذم…
وبناء على سياق التأييد والرضى، الذي جاء فيه هذا القول…
فإن قولها والتزامها بأن لا تقطع في أمر من أمور الدولة، إلا بعد أن يشهده ملؤها ويوافقوا عليه، يعتبر مثالا يحتذى. وذلك إنما يتمثل في إجماعهم، أو تراضيهم، أو أكثريتهم.
2ـ مراعاة الأغلبية في السيرة النبوية:
مثلما تقدم عن القرآن الكريم، فإن السنة والسيرة النبوية، ليس فيها شيء صريح بمراعاة الأكثرية واتباع قولها والأخذ برأيها، كما ليس فيها تصريح بضد ذلك. ولكن التطبيقات الشورية النبوية قوية في ثبوتها وفي دلالتها على أن الشورى تنتهي إلى اعتماد رأي الأكثرية من المستشارين والعمل بمقتضاه. وفيما يلي أمثلة ذلك.
1.2ـ غزوة بدر:
لما علم النبي صلى الله عليه وسلم بأن قريشا قد تجهزت لقتال المسلمين، استشار الصحابة في شأن الاستعداد لملاقاة قريش ومناجزتها. فتكلم أبو بكر وعمر والمقداد بن عمرو، وكلهم أيدوا الرأي النبوي لمواجهة قريش، ولكن هؤلاء الثلاثة كانوا كلهم من المهاجرين، وكان عليه السلام يريد أيضا معرفة رأي الأنصار، فاستمر يقول: “أشيروا علي أيها الناس”. قال ابن إسحاق: “وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس”.( ) أي أكثريتهم.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يدخل المعركة حتى يضمن التأييد والاستعداد من جمهور أصحابه، من المهاجرين والأنصار، ولكن من الأنصار بالدرجة الأولى، لأنهم هم “عدد الناس” كما عبر ابن إسحاق.
فلما ضمن ذلك وتأكد منه، بتصريح سادتهم وزعمائهم أمر بالانطلاق قائلاً: “سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم”.( )
وفي نهاية المعركة وجد المسلمون بأيديهم عدداً من الأسرى المشركين، ولم يكن قد نزل في حكم المسألة شيء، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة مرة أخرى.
جاء في صحيح مسلم، من رواية عمر بن الخطاب قال: “فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قلت لا والله يا رسول، ما أرى الذي رأى أبو بكر. ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم… فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو بكر ولم يهو ما قلت. فلما كان من الغد، جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قائعدين يبكيان، قلت: أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء. لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة (شجرة قريبة من النبي صلى الله عليه وسلم). وأنزل الله عز وجل: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)[13] إلى قوله فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا، فأحل الله الغنيمة لهم. ” ( )
وإذا كانت الرواية تفيد في أولها أن القول الذي أخذ به رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو الفدية ـ كان رأي أبي بكر رضي الله عنه، فإن آخر الرواية واضح في أن أكثر الصحابة كانوا عليه “أبكي للذي عرض علي أصحابك… لقد عرض علي عذابهم…”
فالرسول عليه السلام قد أخذ في هذه النازلة برأي الأغلبية من أصحابه، ولذلك جاء اللوم عاما من الله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)[14]
قال ابن عاشور “والخطاب في قوله (تريدون) للفريق الذين أشاروا بأخذ الفداء. وفيه إشارة إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معاتب، لأنه أخذ برأي الجمهور” ( ) “وروي أن ذلك كان رغبة أكثرهم.” ( )
واللوم الذي وجهه الله تعالى للصحابة، لم يكن بسبب الرأي الذي أشاروا به في حد ذاته، ولكن بسبب الدافع الذي وراءه، وهو الكسب الدنيوي الذاتي (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا)، ولذلك لا يدخل فيه منهم إلا من تحكمت هذه الرغبة في الرأي الذي أشار به.
2.2 ـ غزوة أحد:
بعد هزيمة قريش في معركة بدر، قام زعماؤها بتعبئة بشرية ومالية واسعة للانتقام ورد الاعتبار. واستشار النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة، وعرض عليهم رأيه، وهو البقاء بالمدينة ومواجهة هجوم قريش داخلها. غير أن عددا كبيرا من الصحابة لم يحبذوا هذا الرأي، وارتأوا الخروج لملاقاة جيش قريش ومقاتلته خارج المدينة، لأن ذلك هو الأليق بشجاعتهم وحماستهم، ولكي لا تظن قريش ـ أو غيرها ـ أن عدم خروجهم من المدينة ناجم عن ضعف وخوف. قال ابن العربي: “وقال حمزة، وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك بن ثعلبة، وغيرهم من الأوس والخزرج: أما تخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبنا، فيكون هذا جرأة لهم علينا؟ وتكلم الأنصار بمثل ذلك… وتكلم بعض بني الأشهل بمثله، وقال أبو سعد بن خيثمة نحوه في كلام حسن، وغيره مثله…” ( )
فما زالوا يتكاثرون ويلحون على فكرة الخروج، حتى قرر النبي صلى الله عليه وسلم الاستجابة لهم. فلما تأهبوا للخروج، خشي بعض الصحابة أن يكونوا استكرهوا نبيهم على هذا الخروج، فقالوا له : اسْتنكْرَهْناكَ ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلى الله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته، أن يضعها حتى يقاتل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه…” ( )
هذه المشاورة وما نتج عنها وما تبعها، أثارت ـ في زمننا هذا ـ نقاشات كثيرة حول دلالتها في مسألتنا، وهل يستفاد منها إلزامية الشورى وإلزامية اعتبار الأغلبية، أم يستفاد منها عكس ذلك؟
لقد قرئت “مشاورة أحد” وفهمت على الوجهين معاً، من خلال قراءتين مختلفتين:
ـ قراءة ظاهرة ـ وليست ظاهرية ـ وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم تنازل عن رأيه لرأي الأكثرية من أصحابه، ومضى الأمر على ذلك بلا نقض ولا نسخ ولا مؤاخذة، بل نزل بعدها مباشرة قوله تعالى: (وشاورهم في الأمر).
ـ قراءة تأويلية، مفادها أن اتباع الأغلبية المخالفة لرأي الإمام مسلك غير صحيح وغير سليم، وأن الهزيمة التي لقيها المسلمون في هذه الغزوة جاءت درسا وعبرة و”موعظة باقية للمسلمين حتى لا يخالفوا إمامهم في رأي يصر عليه ويرتضيه، متوهمين بإلزامية الشورى، أو متعللين برأي الأغلبية.” ( )
وإنما اعتبرتُ هذه القراءة تأويلية، لأنها تركت الدلالة الظاهرة الواضحة للواقعة، وذهبت تفترض الافتراضات وتحملها ما يقتضي إبطال الدلالة الظاهرة.
فقد افترضوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مصرا على البقاء بالمدينة، وليس هناك ما يدل على هذا “الإصرار”. وكل ما في الأمر أنه أبدى رأيه، فلما كثر القائلون بالرأي الآخر، وتحمسوا له، صار إليه وأخذ به.
وافترضوا أن هزيمة المسلمين في أحد كانت بسبب الخروج الذي نادت به الأغلبية، فجاءت الهزيمة لتلقنهم درساً قاسياً، وتكون تحذيرا لمن بعدهم…
والحقيقة أن هذا الافتراض هو أقرب شيء إلى الافتراء، إذ من المعلوم قطعا أن سبب الهزيمة لا علاقة له بالخروج، ولم يذكر ذلك أحد من الصحابة الذين عاشوا الأحداث، ولم يذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لا يترك فرصة للتنبيه والتعليم والتربية إلا اغتنمها. بل القرآن الكريم نفسه قد تطرق بتفصيل إلى هذه الغزوة وتداعياتها، دون أن يذكر شيئا من هذا التأويل.
من جهة أخرى، فإن سبب الهزيمة معلوم مذكور في كافة كتب السيرة، وعدد من كتب الحديث، وهو المخالفة التي ارتكبها الرماة الذين أمرهم القائد صلى الله عليه وسلم أن يلزموا الجبل، ولا ينزلوا منه ـ مهما يكن سير المعركة ـ إلا بأمره. ولكنهم لما رأوا انتصار المسلمين في الجولة الأولى، ظنوا أن المعركة قد حسمت، ولاحت لهم الغنائم الوفيرة، فعصوا ونزلوا …
ومثل هذه المخالفة لا علاقة لها بالخروج، وكان يمكن أن تقع ـ أو يقع غيرها من المخالفات ـ في أي مكان وفي أي وضع.
ونستطيع أن نقول ـ بلا تأول ولا تعسف ـ: إن قرار الخروج قد أدى إلى نصر مبين وسريع. وهذا أيضا أمر مذكور ومسلم في كتب السيرة والحديث. ثم دارت الدائرة بعد ذلك بسبب الخطأ الجسيم الذي وقعت فيه فرقة الرماة الذين كانوا على موقع كبير من الأهمية والخطورة، فلما أخلوه انقلبت الأمور، وكل ذلك مفصل في مظانه فلا أطيل بسرده.
3.2ـ غزوة الخندق (غزوة الأحزاب)
في هذه الغزوة تحالف المشركون واليهود والمنافقون، لأجل استئصال المسلمين. وقد حاصروا المدينة حصارا شديدا، أصبح معه المسلمون في محنة بلغت منهم كل مبلغ، كما صورها القرآن الكريم: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)[15]
أمام هذا الوضع العسير والعصيب، فكر النبي صلى الله عليه وسلم في طريقة لكسر هذا الطوق وإحداث ثغرة فيه. فلجأ إلى أضعف حلقاته وأقلها حرصا عليه، وهي قبيلة غطفان. فساومهم وانتهى معهم إلى أن ينسحبوا ويهادنوا المسلمين مقابل ثلث ثمار المدينة لتلك السنة، ولكنه جعل تنفيذ الاتفاق معلقا على مشاورة أصحابه، وبالذات زعماء المدينة (أي الأنصار)، لأن الثمار التي ستدفع لغطفان إنما هي ثمارهم، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم “حتى استأمر السعود” ( )، يقصد سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن مسعود، وسعد بن خيثمة. فلما سمع هؤلاء مشروع الاتفاق ومضمونه، وعلموا أنه ليس وحيا من الله تعالى، ولا هو رغبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه إنما يريد بذلك تخفيف محنتهم وكسر طوق الحصار عنهم، لما علموا هذا وفهموه قالوا ـ على لسان سعد بن معاذ ـ : “يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فأنت وذاك” فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: ليجهدوا علينا” ( ).
ففي هذه النازلة نجد النبي صلى الله عليه وسلم قد فكر ودبر، وهيأ حلا يخفف به محنة المسلمين، وفاوض وانتهى إلى اتفاق أولي مع زعماء غطفان، لكنه ـ قبل إمضائه وتنفيذه ـ عرضه للشورى، وانتهى به الأمر إلى التخلي عن رأيه وتدبيره، والأخذ برأي مستشاريه الذين يمثلون جمهور المسلمين من أهل المدينة.
مقام النبوة وخصوصيته:
حينما نتحدث عن مشورات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان أكثر الناس مشورة، وأنه كان يترك رأيه لرأي جمهور أصحابه وحتى لرأي آحادهم أحيانا، فلا ينبغي أن نغفل عن مقامه ومنزلته، ولا عن صفاته وخصائصه، بل نحتاج أن يقال لنا كما قيل لمن هم خير منا (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ)[16]
فإذا وجدناه في حالات كثيرة لا يتوقف على الشورى، ولا ينتظر رأي أحد، فلأن هذا هو الأصل فيه، فهو رسول الله قبل كل شيء وفوق كل شيء.
فمعه ما هو أفضل من الشورى، وما هو فوق الشورى وهو الوحي، ثم إنه عبد الله المعصوم عن معصية الله. وكما أنه لا ينطق عن الهوى، فإنه لا يتصرف ولا يرى رأيا عن الهوى. وهو لا يصدر عن مصلحة أو غرض لنفسه، ولا يخضع لطبعه ومزاجه. فهو يفكر ويتصرف بمنتهى النزاهة وغاية الاستقامة، ظاهراً وباطناً.
فلو أنه استشار أصحابه، أو لم يستشرهم أصلا، وأمضى شيئا على خلاف ما رأوه ورغبوا فيه، فكل ذلك له، وليس لأحد من بعده، خليفة كان، أو عالماً أو أميراً…
وأما حين نجده يشاور ويكثر المشاورة، وحين نجده ينزل عن رأيه لرأي أصحابه ـ فيما ليس فيه وحي ـ فهذا يعني أن غيره من الأمراء والرؤساء أولى بذلك بمرات ومرات.
ولو أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يستشير، أو كانت الشورى لا تلزمه ابتداء، أولا تلزمه نتيجتها انتهاء، لما كان هذا سائغا لأحد غيره. فلا نبي بعده ولا معصوم بعده.
ومن هنا تسقط بعض التعلقات بحالات ـ هي على كل حال معدودة وخاصة جدا ـ أمضى فيها رسول الله ما أمضاه دون التفات إلى رأي أحد، كتعلقهم بصلح الحديبية، حيث أجراه وأمضاه رغم معارضة الصحابة له واستيائهم الشديد منه. وهو إنما كان وحيا إلاهيا وتدبيرا ربانيا، كما دلت على ذلك أدلة كثيرة:
منها بروك الناقة وقوله صلى الله عليه وسلم “حبسها حابس الفيل.” ( )
ومنها حين غضب عمر من الصلح الذي رآه مذلا للمسلمين، قال “فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت، يا رسول الله، ألست نبي الله حقا، قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. فقلت: علام نعطي الدنية في ديننا إذا؟ ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا؟ فقال: إني رسول الله، وهو ناصري، ولست أعصيه.” ( )
فواضح أن الأمر كان بأمر الله، وأنه عليه السلام كان ينفذ ما أوحي إليه، ولذلك فهو لم يستشر أصلا في شأن الصلح، لا في مبدئه، ولا في تفاصيله.
ومنها ما صرح به القرآن الكريم نفسه في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)[17]
وعلى هذا الأساس، فإن القول بأن “الصلح كان استراتيجية عسكرية لم يشأ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفصح عنها حتى لا تتسرب إلى العدو فيعمل على إفساد خطة المسلمين” ( ) يبقى مجرد تخمين وتخيل. والأنبياء لا يجعلون من عهودهم ومواثيقهم مجرد خدعة عسكرية، يخفونها عن أصحابهم وأعدائهم. نعم، الحرب خدعة. لكن السلم والصلح والعهد والأمان لا خداع فيه. فكيف إذا تم الأمر بوحي من الله تعالى.
3ـ الترجيح بالأكثرية عند العلماء
يظن بعض الناس أن اعتبار الأكثرية أو الأغلبية، إنما هي فكرة مقتبسة من النظام الديمقراطي الغربي، وأنها دخيلة على الفكر الإسلامي وثقافته الشرعية، وأنا لا أنكر أن للثقافة الديمقراطية الغربية أثرا كبيرا في ترويج هذه الفكرة ودعم الأخذ بها حديثا، ولكني أقول: إن الفكرة ليست جديدة ولا دخيلة على ثقافتنا الشرعية، بل هي قديمة أصيلة فيها. فالترجيح بالكثرة، أو بالأكثرية، قيل به وعُمل به عند علمائنا، في عدد من المجالات، وإن لم يكن من بينها المجال السياسي.
فقد اعتبرت الكثرة مرجحا للروايات عند المحدثين.
واعتبرت مرجحا في الاجتهادات الفقهية عند الفقهاء والأصوليين.
واعتبرت مرجحا في الاجتهاد القضائي والإثبات القضائي. وقد رأينا من قبل بعض من قالوا بترجيح كثرة الشهود على قلتهم، لو استووا في صفة العدالة. بل إن شهادة “الأكثر من الناس” تكون مرجحا حتى في اختيار من يُستفتى ويُتّبع من العلماء. قال القاضي أبو بكر بن العربي “فرْض على العامي إذا نزلت به نازلة أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته، فيمتثل فتواه. وعليه الاجتهاد في معرفة أعلم أهل وقته بالبحث عن ذلك، حتى يتصل له الحديث بذلك ويقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس.”( )
وإذا اختلفت أقوال العلماء في مسألة من المسائل، فالأرجح والأسلم هو اتباع ما عليه أكثرهم. وينطبق هذا ابتداء من الصحابة رضي الله عنهم. قال أبو إسحاق الشيرازي “وإذا كان على أحد القولين أكثر الصحابة، وعلى الآخر الأقل، قُدّم ما عليه الأكثر، لقوله صلى الله عليه وسلم “عليكم بالسواد الأعظم.” ( ) وقال ابن القيم “فإن كان الأربعة ـ يقصد الخلفاء الراشدين ـ في شق، فلا شك أنه صواب، وإن كان أكثرهم في شق، فالصواب فيه أغلب.” ( )
«وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: “استشارني عمر في أمهات الأولاد (يعني الإماء)، فأجمعت أنا وهو على عتقهم، ثم رأيت بعد أن أُرقَّهم. فقال له عبيدة (هو عبيدة السلماني، تابعي): رأي ذَوَيْ عدل أحب إلينا من رأي عدل واحد.» ( )
وفي مسألة أخرى مماثلة قيل له: «لَأمْرٌ جامعتَ عليه أمير المؤمنين، و تركت رأيك أحب إلينا من أمر تفردت به ، فضحك.» ( )
فقول الأكثر، أو الأكثرية من العلماء، أو من أهل الحل والعقد، أو من عامة الناس فيما يرجع إليهم، يعتبر حجة ترجيحية عملية، وليس بالضرورة دليلا قطعيا ودائما على الحق والصواب. فاتباع الأكثرية إنما يضمن لنا أن نكون أكثر صوابا، وأقرب إلى الصواب، وأقل خطأ وأبعد عن الخطأ، “لأن الأغلب أن الصواب يكون مع الأكثر” كما يقول أبو الحسين البصري ( ). وكما يقول شمس الدين الأصفهاني: “ويبعد أن يكون قول الأقل راجحا، إذ الغالب أن متمسك الواحد المخالف للجمع العظيم يكون مرجوحا، لأن قوله عليه السلام (عليكم بالسواد الأعظم)، يدل على رجحان قول الأكثر، وإذا كان راجحا وجب العمل به.” ( )
ومن هنا فإن الأخذ بمبدأ الأكثرية، واعتبار الكثرة مرجحا، وأن الصواب مع الكثرة يكون أغلب، لا ينفي إمكانية حصول العكس، وهو أن تكون الأكثرية على خطإ، والأقلية ـ وحتى الفرد الواحد ـ على صواب، ولكن هذا قليل أو نادر، وخاصة في القضايا العملية الواقعية، والنادر لا حكم له، إذ الأحكام والتصرفات الشرعية تبنى وتُمضَى على الغالب.
كما أن القول بإمكانية الصواب عند الأقلية، أو عند الفرد الواحد، في مقابل رأي الأكثرية، يبقى في الغالب مجرد احتمال نظري، لا يمكن إنكاره، ولكن أيضا لا يمكن الجزم به أو التعويل عليه. فنحن في حالة الاختلاف الشوري، أو غير الشوري، نجد أنفسنا أمام رأي الأغلبية، معززا بأدلته وحججه، ورأي الأقلية المخالفة أو الواحد المخالف، معززا بأدلته وحججه. فالقول بأن الحق أحق أن يتبع، ولو كان رأي فرد واحد، وأن المرجع والمرجح هو الدليل لا غير، وأن الأمير في هذه الحالة يجب أن يتبع الدليل، “فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عمل به…” ( )، هذا كلام جميل ومعقول من الناحية النظرية والمبدئية. ولكن هذا إنما يستقيم إذا فرضنا أن المسألة واضحة، أو قد اتضحت، وليس فيها احتمالات متعددة، ووجوه مختلفة، أو إذا فرضنا أن الرأي المتروك ليس له شبه بالكتاب والسنة، وليس لأهله علم بهما…
أما حين يكون الناس من طينة واحدة، ويكونون جميعا ممن (لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا)( )، وحين يكون لكل ذوي رأي اجتهادهم ونظرهم، وأدلتهم وحججهم، وكل طرف يرى أن موقفه هو الأشبه بالكتاب والسنة، وهو الأحفظ لمصلحة الإسلام والمسلمين في تلك النازلة…، فلا يجدينا في هذه الحالة أن نقول: نتبع الحق مع من كان، سواء مع الأكثرية، أو الأقلية، أو مع الواحد. فلو عرف هذا “الحق” بشكل واضح لا غبار عليه، لما بقيت أقلية ولا أكثرية، كما مضى في مسألة الغُسل من التقاء الخِتانين.( )
فلا يبقى أمامنا عمليا إلا أن نتبع “الحق” الذي مع الأكثرية، أو “الحق” الذي مع الأقلية.
وأما ما يقوله ابن حزم ومن على شاكلته “ولم يأمر الله تعالى بالرد إلى الأكثر، والشذوذ هو خلاف الحق، ولو أنهم أهل الأرض لا واحد.” ( ) فهذه مجرد مكابرة وإغراق في المنطق الصوري. ولله در الإمام الشاطبي الذي ختم حياته العلمية بهذه العبارة المضيئة المتوازنة “إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال، فالحق أيضا لا يعرف دون وسائطهم، بل بهم يتوصل إليه، وهم الأدلاء على طريقه.” ( )
فأهل العلم والرأي والخبرة ـ وكذلك عموم الناس فيما يرجع إليهم، وما يتعلق بأحوالهم ومصالحهم ـ هم الأدلاء على الحق والصواب، أو على ما هو أكثر صوابا وأهدى سبيلا، أو هم الأدلاء على ما يقتضيه الكتاب والسنة وما فيهما من مقاصد وقواعد، أو هم المقياس لما يمكن وما لا يمكن، ولما يتحمل وما لا يتحمل…
فتكاثرهم وزيادة عددهم على رأي من الآراء، ليس مجرد أرقام عمياء صماء، بل هو زيادة نظر وزيادة دليل وزيادة رجحان. فالأصل أن الحق والصواب معهم، دائما أو غالبا. وخلاف هذا يبقى واردا، لكن على سبيل الاستثناء والاحتمال لا غير. وكما قال ابن بطال في شرحه لبض أحاديث البخاري “وإنما أنكر القياس النّظّام وطائفةٌ من المعتزلة، واقتدى بهم ممن ينسب إلى الفقه داود بن علي. والجماعة هم الحجة، ولا يلتفت إلى من شذ عنها.” ( )
والمراد بالجماعة هنا جماعة العلماء، أي جمهورهم وأكثريتهم.
[1] – (60) سورة الأعراف
[2] – (27) سورة هود
[3] – (6) سورة ص
[4] -(88) سورة هود
[5] -(90) سورة هود
[6] -(100) سورة المائدة
[7] – (86) سورة الأعراف
[8] – سورة النمل (29-30-31-32)
[9] – سورة النمل (43)
[10] – سورة النمل (44)
[11] – سورة النمل (34)
[12] – سورة النمل (34)
[13] – سورة الأنفال (67)
[14] – سورة الأنفال
[15] – ال؛زاب (10-11)
[16] – سورة الحجرات (7)
[17] سورة الفتح 24