محمد فتحي* :
تقديم
العمل الجمعوي ظاهرة مترسخة في قيم واخلاق الشعب المغربي لم يولد كما يتبادر الى الذهن مع فترة الاستقلال وإصدار قانون الحريات سنة 1958 ، بل تمتد جذوره عميقا في تاريخ المغرب، وكان دائما مكونا أساسيا لتقاليدنا العريقة في التضامن والتعاون التي جعلت المواطنين منذ القدم يبادرون جماعات وافراد لتعويض عمل الدولة المركزية عندما تعجز هذه الأخيرة عن تلبية حاجات المواطنين. فقد عرف المغرب أشكالا من التنظيمات الاجتماعية التقليدية الشعبية، ساهمت في تأطير المجتمع والقيام ببعض المهام الأساسية على عدة اصعدة، و كان لها دور مهم في حماية الفرد والجماعة من الاستبداد والقهر المخزني أو للتمرد عليه عند الازمات وارتفاع منسوب القمع ، أو للقيام بالأعباء الاجتماعية التي توالت عبر مختلف مراحل تاريخ المغرب.
فقد عرف المجتمع المغربي في مسيرته ،أشكالا مميزة من التضامن والتكافل والتعاضد، بين مختلف مكوناته وفئاته داخل المدن والقرى والحواضر والأرياف، انطلاقا من التعاليم الدينية السمحة، ومن قيم مجتمعية راسخة عبر الحقب التاريخية ، تقوم على أساس أن “الجماعة في خدمة الفرد والفرد في خدمة الجماعة “، وهناك العديد من الأمثلة التي تدل على أن التضامن قيمة راسخة في الثقافة المغربية، على امتداد تاريخ المغرب، كالتضامن عند وفاة شخص ما، حيث تلتئم الأسر المجاورة لتعزية ومواساة عائلة المتوفى، ومؤازرتها ماديا ومعنويا والتكفل بنفقات الجنازة وإطعام المعزين والمشيعين طوال الأيام التي تلي الوفاة .وهناك ما يصطلح عليه ب “التويزة”، كعمل جماعي تطوعي من افراد الدوار والقبيلة للمساعدة في عمليات الحرث وجمع المحاصيل الزراعية وتشييد المباني وإصلاح المسالك وحفر قنوات الري، وغيرها من الأشغال التي تعود بالنفع على الفرد والجماعة، ومن مظاهر التكافل أيضا بالبوادي والقرى المغربية والتي لا زالت سائدة لحد الان خصوصا بالمناطق الشرقية والجنوبية بناء وصيانة مسجد القرية عبر جمع التبرعات والهبات والمساهمات العينية ،مع تدبيره بما يسمى “الشرط” مع فقيه لإقامة الصلاة وتعليم الأطفال القرآن، حيث تتكفل جميع الاسر حسب عرف يسمى “النوبة” بإطعام الفقيه على مدار أيام السنة، حيث لعب المسجد دور مقر الجمعية الان، فيه يجتمع افراد الجماعة للتداول في شؤون القرية المشتركة ،وفيه تحل الخصومات خصوصا خلال شهر رمضان والاعياد الدينية .
لقد لعبت هذه المنظومة القيمية دورا أساسيا في مواجهة الاستعمار، بعد ان تكيفت مع واقع الاحتلال واستفادت من المعطيات الجديدة التي اتى بها المحتل، حيث بدأت أولى انوية المجتمع المدني الحديث تزداد توهجا وقوة مع بداية الثلاثينات ،ابان البداية الرسمية للحركة الوطنية واستطاعت ان تكسر إرادة المستعمر الذي كان يطمح لخلخلة البنية الاجتماعية والثقافية للشعب المغربي ،وفتح نوافذ لطمس تقاليده وعاداته لتسهيل عملية الاختراق وتأبيد وجوده تطبيقا لمقولة أساسية في المخطط الاستعماري مفادها ” انه يجب إخضاع النفوس قبل إخضاع الأبدان” و هي مقولة معروف أهدافها و مراميها، لهذه الأسباب راهن العمل الوطني على ضرورة حضوره في العديد من الإطارات الجمعوية بأشكال و تمظهرات مختلفة .
وبعد الاستقلال الشكلي للبلاد ،والشروع في بناء مؤسسات وهياكل دولة ما بعد رحيل الجنود الفرنسيين، وامام محاولة استفراد الطرف المتنفذ بالسلطة ،وتهميش الحركة الوطنية ومكونات المقاومة المغربية ،وجدت الإطارات الجمعوية نفسها في مواجهة صارخة مع قيم استعمارية في ثوب جديد مما فرض عليها ضرورة مواصلة مقاومتها إلى جانب الحركة الوطنية خصوصا في مرحلة تميزت بتقاطعات الثقافي و السياسي و الاجتماعي الى حد يصعب الفصل بينها، و من هذا المنطلق شكل العمل الجمعوي على مستوى الممارسة الفعلية، خصوصا لدى الجمعيات الجادة استمرارا للأداء النضالي الوطني من اجل التحرر الحقيقي، واصبحت صوت الجماهير المطالبة بالتغيير وجبهة للدفاع عن الحريات وعن حقوق الإنسان مما عرضها للتضييق و المنع والاعتقال وامتد هذا الصراع لسنوات طويلة، بصمت فترة مهمة من تاريخ المغرب بقمع اسود ذهب ضحيته الاف من المناضلين والوطنيين.
لقد وجد المجتمع المدني نفسه منذ بداية الستينات في قلب الصراع السياسي حاضرا بأشكال وتعبيرات ثقافية، ورياضية، وشبابية، وحقوقية وأندية سينمائية، ومجموعات غنائية ومنظمات تعمل في مختلف واجهات العمل التعاوني والتضامني … استطاع من خلالها ، ان يلعب دورا رياديا في ترسيخ القيم المدنية ، وفي الدفاع عن حقوق الاساسية للمواطنات والمواطنين وضل اداءه ملفتا للنظر في الوساطة الاجتماعية، وفي ديمقراطية القرب وكان دائما منحازا لمبادئ و أهداف الحركات المنادية بالتغير، مما أهل هذا الحقل للإسهام في ترسيخ مجموعة من القيم الهادفة والملتزمة بهموم الشعب وقضاياه، وهو الأمر الذي جعل المسؤولين يستغلون مناخ التوتر الاجتماعي الذي ساد منذ بداية الثمانينات للإجهاز على كثير من نقط القوة في الفعل الجمعوي ، إما باستصدار قوانين تضيق الخناق ماديا و معنويا على كل المبادرات الجادة في خريطة الممارسة الجمعوية ،وإما بالقمع المباشر مما يجعل هذا العمل يعاني من صراع مرير بين الرغبة في الاحتفاظ على التوازن و الاستمرار من جهة، والإصرار على مواجهة كل المخططات الرامية إلى خنق العمل الجمعوي من جهة ثانية. الأمر الذي لم يكن سهلا في ضل شروط بدأت منها أزمة الشباب (البطالة) تعرض نفسها كمعطى جديد لم يكن واردا في الستينات و السبعينات مما جعل العمل الجمعوي يحاول إن يوازي بين واقعه و متطلبات واقع ألازمة، بل وطرح الموضوات المرتبطة بها كمحاور لأنشطتها الإشعاعية سوءا في بعدها الوطني أو القومي .
وعلى الواجهة القانونية ، ضل تطور النص القانوني مرتبط بشكل كبير بحيوية المجتمع المدني، وقوته الاقتراحية، ومرافعاته حول الحرية والحق في المشاركة المدنية، ورغم ان مردودية هذا المجهودات ضلت تخضع دائما لمنطق الصراعات السياسية وموازين القوى على الساحة فانه استطاع في خضمها ان يحقق مكاسب مهمة تجلت في اصدار ظهير الحريات العامة سنة 1958 ثم دسترة دور المجتمع المدني سنة 2011 ، حيث جاء في البند 12 من الدستور “تُؤسس جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية وتمارس أنشطتها بحرية، في نطاق احترام الدستور والقانون .لا يمكن حل هذه الجمعيات والمنظمات أو توقيفها من لدن السلطات العمومية، إلا بمقتضى مقرر قضائي.تُساهم الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام، والمنظمات غير الحكومية، في إطار الديمقراطية التشاركية، في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها. وعلى هذه المؤسسات والسلطات تنظيم هذه المشاركة، طبق شروط وكيفيات يحددها القانون.يجب أن يكون تنظيم الجمعيات والمنظمات غير الحكومية وتسييرها مطابقا للمبادئ الديمقراطي”
واقــع العمــل الجمعــوي وطنيا :
حسب ظهير الحريات العامة لسنة 1958 “الجمعية اتفاق لتحقيق تعاون مستمر بين شخصين أو عدة أشخاص لاستخدام معلوماتهم أو نشاطهم لغاية غير توزيع الأرباح بينهم” من هذا المنطلق وتأسيسا على الموروث الانساني في مجال التعاون والتضامن لا يمكن ان نتحدث عن العمل الجمعوي بدون استحضار روح التطوع والرغبة في تقديم الخدمة المجانية للأفراد والجماعات والاهتمام بالإنسان وتكوينه وتربيته على روح المسؤولية، والخروج به من دائرة الفكر المتحجر في اتجاه تفكير عقلاني متحرر.
إن المتتبع للعمل الجمعوي في بلدنا يلاحظ انه اذا كانت جمعيات قليلة استطاعت ان تحقق مكاسب مهمة في المحيط الذي تشتغل فيه فان أغلب باق الجمعيات تفتقر لرؤية وتوجه واضح المعالم حيث تسود العفوية والارتجالية في العمل، وغياب الابداع والابتكار والتماهي مع مشاريع السلطات والسعي للتقرب منها ، بحثا عن مكاسب خاصة مادية ومعنوية ،ولذلك لوحظ في الفترة الأخيرة اسهال في تأسيس الجمعيات في جميع مناطق المغرب بالقرى والمدن والمداشر حيث صار الحقل الجمعوي المغربي يضم الوانا متعددة من الجمعيات الكثير منها بعيد كل البعد عن الأهداف النبيلة للعمل التطوعي ،فالعديد منها يسعى افرادها لمطامح شخصية او تصفية حسابات ضيقة مع أعضاء جمعيات أخرى لها نفس الاهتمام كما ان تأسيس جمعيات كثيرة اخرى اتي بإيحاء و تعليمات جهات تتخصص في توزيع منح أو في توظيف الإطارات الثقافية لأهداف ربحية وسياسية او محاصرة والتشويش على جمعيات جادة تحت شعار خدمة الطفولة والشباب والبيئة والتنمية …..
وفي السنين الاخيرة لوحظ سعي العديد من الجمعيات للبحث عن شراكات لتمويل مشاريعها المختلفة مع ممولين أجانب وقد افلح بعضها في ذلك، وانجز مجموعة من المشاريع التنموية بالمناطق النائية ككهربة الدواوير وجلب الماء الصالح للشرب…الخ كما عملت جمعيات اخرى في هذا الاطار على تنفيذ مشاريع تهم التحسيس بالقضايا المختلفة للمرأة والفئات الهشة ….،لكن بعض الجمعيات الاخرى اتخذ ملفات حساسة كالطفولة و المعاقين والبيئة وسيلة للتسول واغتناء أعضائها خاصة في مجال التكاوين التي تشرف عليها جهات متعددة من الاتحاد الأوربي والامم المتحدة بل هناك من نصب نفسه كوسيط مع جمعيات محلية لتحقيق الهدف نفسه بمبالغ خيالية.
مثل هذه السلوكات لطخت العمل الجمعوي وأحادته عن دوره الإنساني والاجتماعي ،وجعلت المصالح الضيقة هي السائدة وهو ما تسبب في عزوف المواطنين والمواطنات عن انشطة الجمعيات .
لقد استفادت الدولة من هذا الواقع الموبوء وانتبهت لأهميته في خلق التوازنات ،ويلاحظ في الآونة الاخيرة تناسل العديد من الجمعيات اذ وصل عددها لمستوى قياسي بالمقارنة مع العقود السابقة ، ففي سنة 2003 كان عدد الجمعيات حوالي 19000 جمعية ،وبعد انطلاق برنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سنة 2005، قفز هذا العدد الى 45000 جمعية سنة 2012 ، ولمواجهة المد الجماهيري المطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، الذي بدأت شرارته مع حركة 20 فبراير2011 شجعت الدولة تأسيس عدد كبيرا من الجمعيات، تشتغل عمليا تحت وصايتها حيث بلغ عدد الجمعيات مع بداية سنة 2017 حوالي 130000 الكثير منها يعمل تحت مراقبة وامرة السلطات الادارية ،ويتبين ان عملية تفريخ هذه الجمعيات عملية مقصودة للتشويش على نضالات الشعب المغربي ، ومحاربة جمعيات سعت إلى أخذ مسافة بينها وبين الدولة وشكلت بعضها العامل في المجال الحقوقي عنصر إحراج للنظام في قضايا حقوق الإنسان أمام المنتظم الأممي .
لقد عملت الدولة في اطار ابتداع اشكال مختلفة لاستدامة الاوضاع على تمييع العمل الجمعوي وتفكيك القيم والأعراف الاجتماعية الغنية بالتضامن والتضحية والإيثار ،وتفتيت رأس المال الكفاحي للشعب المغربي ،واضعاف ذخيرة التضحية لديه للنضال من أجل الحياة السعيدة ،وضد كل مظاهر القهر والعسف والكوارث الطبيعية والاجتماعية ، وتعويضها بقيم “التعياش” والثعلبة والتسول والتزلف والخنوع، وكان المجتمع المدني ميدانا للاستقطاب ونشر مثل هذه القيم اما بالإغراء المالي واستغلال الجهل وقلة الوعي المدني والسياسي لأعضاء جمعيات انتشرت كالفطر في مختلف انحاء المغرب .
هذه الجمعيات تمولها الجماعات المحلية والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية ،وبعض القطاعات الوزارية، حيث تشير المعطيات الرقمية إلى ازدياد حجم الدعم المالي الموجه للعمل الجمعوي، الذي بلغ 3 ملايير درهم (300 مليار سنتيم) سنة 2016، كما تشير المعطيات الرسمية إلى بلوغ الدعم الأجنبي للجمعيات 29 مليار سنتيم سنة 2016.. وتشير معطيات الشفافية والحكامة إلى أن 95 بالمائة من الجمعيات لا تقدم أي كشف بخصوص حساباتها، ولا يقتصر الأمر على الجمعيات الصغيرة بل يمتد إلى جمعيات “الحظوة” المتمتعة بصفة “المنفعة العامة”، فقد كشف تقرير الأمانة العامة للحكومة عن مراسلتها ل166 جمعية تحمل صفة المنفعة العامة لم تدل بتقاريرها المالية السنوية، وتبين لها أن 17 جمعية منها لم تدل بشكل قاطع بتقاريرها. وتؤكد المعطيات المتعلقة بالحياة الجمعوية ومنها البحث الوطني للمندوبية السامية للتخطيط حول “المجتمع المدني” إلى أن أكثر من نصف الجمعيات المغربية لا تتوفر على مقر، وأن 80 بالمائة من الجمعيات تعاني من نقص في التجهيزات الضرورية، وأن 5.4 بالمائة فقط من الجمعيات تتوفر على ميزانية تفوق 500 ألف درهم، وأن 32 بالمائة من موارد الجمعيات تأتي من الهبات والتمويلات الجارية المقدمة من الأسر ثم الدولة.
من جهة اخرى تؤشر معطيات التنظيم الذاتي للجمعيات على ضعف في الحكامة وخضوع الفاعل الجمعوي للفاعل السياسي.
لقد واجه المجلس الأعلى للحسابات صعوبات كثيرة في مهمة مراقبة استخدام الأموال العمومية الممنوحة للجمعيات، وقد تضافرت عدة عوامل لإفشال مهمة تتبع مسار صرف 3 مليار درهم تلقتها الجمعيات من طرف القطاعات الحكومية والمؤسسات والمقاولات العمومية سنة 2014، ولعل أهمها غياب المعلومة، وعدم مسك الوثائق المحاسبية، وانعدام الحكامة والشفافية.
واذا كانت الدولة تستفيد من خدمات عديد من الجمعيات فان جهات أخرى عملت على تأسيس العديد من منها تشتغل بخلفية دينية، كجمعيات البر والإحسان ،وبناء المساجد وصيانتها ،ومنها من يشتغل تحت يافطة التنمية الاجتماعية والبيئة والطفل والمرأة، جل أنشطتها تتمحور حول تقديم المعونات العينية (قفة رمضان واضحية وملابس العيد….)، وإعطاء دروس التوجيه والإرشاد، وتنظيم حملات اعذار الأطفال، وتكثر مثل هذه الأنشطة خصوصا في شهر رمضان والاعياد الدينية، وقبيل موسم الانتخابات المختلفة. لقد عمل جيش هذه الجمعيات التي تعمل فيما يشبه الخفاء في تكوين احتياط انتخابي استفادت منه بعض الأحزاب السياسية بشكل كبير. ويلاحظ ان العديد من الجمعيات تغلق أبوابها مع نهاية الحملات الانتخابية، كما تخبو انشطتها كلما انتهت مواسم الاعياد الدينية وشهر رمضان.
نقط القوة وسبل التطوير :
رغم ما تم سرده سابقا فانه لا يمكن ان ننفي مجموعة من نقط القوة والسبل القابلة للتطوير ويمكن سرد البعض منها فيما يلي:
1- راكمت حركة المجتمع المدني منذ نشأتها ومراحل تطورها مجموعة من المكاسب الرمزية والمعنوية، واستطاعت رغم العراقيل، ومحاولات الطمس والتمييع، ان توطن ثقافة جديدة عن العمل التطوعي وقيم التضامن، في مواجهة المحن والصعوبات ،واصبح من غير الممكن التراجع عن هذه المكاسب مهما بذل خصوم المجتمع المدني من جهود، من اجل محوها من الذاكرة الجمعية للشعب المغربي، وهناك جنوح صاعد للشباب المغربي نحو الاستقلالية والحرية والانفتاح على المبادرات والاهتمامات العالمية.، خصوصا ما تعلق بالبيئة وحقوق الانسان ومحاربة الرشوة ، والمرافعة المدنية، ومساءلة السياسات العمومية محليا ووطنيا .
2- حققت مكاسب على المستوى القانوني: ظهير الحريات العامة لسنة 1958؛ وما تم تحيينه وتطويره منذ تعديل 2002 للقانون رقم 78.00 الى دستور 2011 ،ثم ما تم على مستوى الملاءمة القانونية للمقتضيات التشريعية والتنظيمية الوطنية حول الحقوق والحريات الأساسية والمشاركة المدنية، مع المواثيق والإعلانات الدولية لحقوق الإنسان، مما فتح الباب امام المجتمع المدني اذا توفرت الارادة الذاتية للمواطنين والمواطنات ،خصوصا نخبة الشعب المغربي لكي يلعب أدوار محورية، إلى جانب الأحزاب السياسية والنقابات والمنظمات المهنية، للحفاض وتعميق المكتسبات و تكريس مواطنة كاملة وشاملة تكون عمادا لمجتمع ديمقراطي حقيقي.
3- رغم محاولة تمييع واحتواء المجتمع المدني، فما زال الكثير من الشباب والشابات مصرون على الحفاض استقلالية أدوارهم عن الدولة من جهة، وعن الفاعل السياسي من جهة أخرى، والنضال من اجل حقهم في مواكبة مستقلة وإرادية للسياسات العمومية، ومراقبتها بعيدا عن أي توجيه أو تحريف لأدوارها عن قيمها الأخلاقية النبيلة.
4- أصبح المجتمع المدني الجاد والنشيط ،رغم كل العيوب والمعيقات والنقائص قادرا على ايجاد حلول بديلة على مستوى ديمقراطية القرب والعمل الميداني ،في مجالات التنمية والتضامن والتربية على المواطنة والدفاع عن حقوق الإنسان؛ بل اصبح فاعلا ميدانيا في مجالات التنمية المحلية، وحاجات المواطنات والمواطنين اليومية، من سكن، وصحة، وتضامن، وتربية على المواطنة، ومحاربة للأمية، وترفيه ،وتنشيط رياضي. الذي لم يقتصر على المدن والمراكز الحضرية بل امتد نشاط المجتمع المدني الى القرى النائية والدواوير ليساهم في عمليات التواصل والتحسيس الاجتماعي، وفي تفعيل البرامج المختلفة لتعميم الكهرباء والماء الصالح للشرب والتطهير السائل، ومحاربة الأمية، والوقاية من الأمراض والمساعدة الاجتماعية والطبية ورعاية الفئات المعوزة، وتقريب خدمات التنشيط الثقافي والرياضي بالمجالات الهشة.
5- تحقيق جمعيات الحركة النسائية لمجموعة من المكاسب بفضل النضال المرير ضد القهر المزدوج داخل المجتمع وضد التيارات المحافظة وقد اتاح لها ذلك الشروع في التغيير التدريجي للمنظومة القانونية التي تخص النساء من جهة وتحقيق مكتسبات مهمة على واجهة المجتمع.(تغيير مدونة الأحوال الشخصية-تعديل الفصل 475 من القانون الجنائي-تعديل مدونة الاسرة- اخراج قانون العنف الممارس ضد النساء…)
6- توطين ثقافة حقوق الانسان كما هي متعارف عليها دوليا بفضل نضال الشعب المغربي ومنضاليه المخلصين حيث تعتبر جمعيات ومنظمات حقوق الانسان والجمعيات النسائية بالمغرب الانشط على مستوى شمال افريقيا والشرق الاوسط.
نقط الضعف والاكراهات
هناك نقط وقضايا كثيرة تعيق تطور المجتمع المدني، ليلعب دوره الريادي في تأطير المواطنين والمساهمة في تلبية حاجياتهم الاجتماعية والثقافية والترفيهية والرياضية ومواكبة ومراقبة السياسية العمومية ،وطرق صرف المال العام ،والدفاع عن الحقوق والحريات العمومية، منها ما هو مرتبط بالشروط الموضوعية التي يفرزها المحيط الاجتماعي والسياسي، او بعوامل ذاتية مرتبطة بثقافة سائدة تم تخزينها في مخيال الشعب المغربي عبر سنين من القمع والتخويف، لإبعاد المواطنين عن الاهتمام بالمشترك والشأن العام من جهة ،ومن جهة ثانية تبخيس قيم التضامن والتعاون وخدمت الاخر وغرس الانانية وحب التملك، من هذه الاكراهات يمكن ان نذكر على سبيل المثال لا الحصر :
1- التضييق على العمل الجمعوي وعدم تطبيق القانون والاستخفاف بدور المجتمع المدني
يخضع عمل الجمعيات لتجاذبات الصراع السياسي، ويتوسع هامش الحريات وفق موازين القوى على الساحة ففي فترات تسمح اجهزة الدولة بهامش مهم للعمل، وفي فترات اخرى يسود الشطط في استعمال
السلطة؛ للحد من هامش الحركة لدى عدة جمعيات، وهو ما يترك انطباعا سلبيا عند فئات واسعة من المواطنين ولا يشجعهم ذلك على العمل التطوعي، درء لمشاكل مع هذه السلطات ويزداد احتراز هؤلاء المواطنين من الاهتمام بالعمل الجمعوي لما يعاملهم بعض رجال السلطة بشكل مزاجي، بالامتناع عن تسلم وثائق التصريح بتأسيس الجمعيات ، والتأخر والتلكؤ او الامتناع عن تسليم الوصولات النهائية، خصوصا اذا كان من وراء التأسيس مواطنون ومواطنات تشك السلطات في ولائهم السياسي للدولة واجهزتها ،هذا دون الحديث عن فرض عدد كبير نسخ من الملف القانوني وفرض شروط تعجيزية للحيلولة دون تأسيس هذه الجمعيات او تجديد هياكلها.
2 – نقص الامكانيات و الموارد المالية و البشرية
إن جردا لواقع الجمعيات يؤكد نقصا واضحا في التجهيزات والموارد المالية، فحسب دراسة للمندوبية السامية للتخطيط نسبة كبيرة من الجمعيات لا تتوفر على مقرات خاصة بها ، وأنه في سنة 2007 حوالي 90 في المائة من الجمعيات تعتمد على مواردها الذاتية ،نفس التشخيص ينسحب الموارد البشرية
حيث لا تشتغل اغلب الجمعيات بمهنية واحترام للضوابط ، اذ بينت الدراسة المنجزة من قبل المندوبية
السامية للتخطيط أن أكثر من % 94 من الجمعيات لا تمسك محاسبة، حسب المعايير الجاري بها العمل،
وأن نسبة % 78 منها غير منخرطة في أي شبكة، وأن غالبية الجمعيات لا تتوفر على حاسوب .
3- علاقة الدولة بمكونات المجتمع المدني لا تحكمها الشفافية
يبين الواقع عدم خضوع علاقة الدولة مع جمعيات المجتمع المدني للشفافية والضوابط القانونية ،فبالإضافة لعمل الدولة لاحتواء نشطاء المجتمع المدني، تكونت لوبيات وشبكات ادارية وحزبية واقتصادية لها نفوذ قوي في المجتمع المدني تتحكم في الموارد وفي مختلف أشكال الدعم الموجه للجمعيات. الشيء الذي عمق التفاوتات في الإمكانات، بين نزر من الجمعيات ذات نفوذ وعلاقات مع مصادر القرار، وبين كثرة من الجمعيات التي لم تتح لها الفرصة كاملة للاستفادة من هذه الامكانيات. فهناك تحالف بين نفوذ السلطة المحلية ونفوذ أشخاص محسوبين على العمل الجمعوي المحلي ، وهو ما تؤكده معطيات دراسة المندوبية السامية للتخطيط، إذ تشير إلى أن 4 جمعيات من أصل 10 تأسست بعد 2005 ، تاريخ انطلاق المبادرة الوطنية للتنمية هذه المعطيات تهم 2007 فما بالك الان ؛ وتشير أيضا الدراسة التقييمية التي أعدها المرصد الوطني للتنمية البشرية حول الفترة الأولى من عمر هذه المبادرة، أن اختيار الجمعيات داخل أجهزة الحكامة الترابية يخضع في أغلب الأحيان إلى توجيه السلطة وإلى معايير غامضة تستند إلى منطق المقاربة الأمنية وإرادة التحكم في قرارات واداء الفاعلين بالمجتمع المدني .
4- اكراهات ومعيقات مرتبطة بالشروط الذاتية وواقع للمجتمع المدني
لاعتبارات ظروف النشأة والتطور وباستثناء بعض الجمعيات العاملة على الواجهة الحقوقية، والنسائية ،لا زال المجتمع المدني المغربي يعيش واقع الهشاشة ،ويتعايش مع اكراهات بنيوية وصعوبات ذاتية ، تتمثل في ضعف التكوين، و الديمقراطية الداخلية ،والشفافية المالية، والحكامة الجيدة ،كما يعاني من مظاهر القصور في الثقافة المدنية، ووجود هوة سحيقة بين الخطاب والممارسة ،ونزوعه إلى العمل الفردي غير المنظم، حيث يحتكر رئيس الجمعية غالبا خيوط اللعبة وهو مصدر القرار ،حيث غياب الاجتماعات الدورية (هناك جمعيات لا يجتمع مكتبها بتاتا ) مع ما يرتبط به من إشكالية الديمقراطية الداخلية، وعدم وجود نظام للشفافية في التدبير الإداري والمالي والمراقبة والمحاسبة.
من جانب اخر هناك جمعيات ذات تاريخ عريق كانت مجالا خصبا لعمل الحركة الوطنية والديمقراطية ، فانعكست تناقضات هذه الاخيرة وازماتها على المجال الجمعوي ( – سيادة البيروقراطية داخل الجمعيات الثقافية.
– سجن العمل الجمعوي ضمن استراتيجيات ضيقة.- عدم احترام ضوابط العمل ومحدداته.- الخلط بين العمل الجمعوي و العمل السياسي- تحويل الجمعيات إلى إطارات ونوادي مغلقة نخبوية في انعزالية شبه تامة عن الشباب وهمومه…).
إذا كانت هذه بعض تجليات أزمة العمل الجمعوي المترتبة عن أزمة الحركة الديمقراطية لبلادنا، فالأزمة تتحدد في غياب التصور العلمي للعمل الجمعوي، وغياب تحديد دور هذا الأخير في الصراع ووظيفته الاجتماعية .
العمل الجمعوي … أية مهام ؟
في مجتمع لا زال يتلمس خطواته الأولى نحو الديمقراطية وبناء دولة المؤسسات حيث يتقاطع العمل الثقافي والجمعوي و السياسي و الاجتماعي الى حد يصعب الفصل بينها يجعل من كل القوى السياسية تحاول بكل الوسائل ان تجد لها موقعا في المشهد العام وضمنه واجهة العمل الجمعوي الذي اصبح مجالا للصراع من اجل تطويعه وجعله في خدمة الأطراف المتصارعة داخل المجتمع وبالتالي فان العمل الجمعوي احببنا ام كرهنا يظل في وضع كهذا ملتصقا بشكل وثيق بالنضالل العام من اجل دمقرطة المجتمع وبناء دولة الحق والقانون انه بوابة مشرعة على هذا المجتمع ينفذ منها المناضل السياسي للاسف بغاية الاستقطاب المباشر الفج من اجل التجييش العددي للمواطنات والمواطنين لجعلهم تحت تصرف الحزب في المعارك الانتخابية. في حين ان دور المناضل المدني هو نشر قيم التضامن والتحفيز على التطوع والاهتمام بالشأن العام والمشترك والتربية على المواطنة والديمقراطية وحقوق الانسان وبناء المواطن(ة) الواعي(ة) العارف(ة) بحقوقه (ا) وواجباته(ا).
المناضل المدني مطالب بمد الجسور وتقويتها لإعادة الارتباط بالمجتمع ليكون في صلب معركة الدفاع عن حاجياته ومطالبه وطموحاته معبرا عنها ومناضلا من اجلها مع وضع اليات خاصة لتنظيم المواطنات والمواطنين ومراجعة طرق ومفاهيم تأطيرهم من خلال الاشراك المباشر لهم وتحميلهم مسؤولية تدبير وتسيير شؤونهم هم انفسهم دفاعا عن مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنضال معهم وبهم وقيادتهم من اجل حقهم الدستوري في تأسيس الجمعيات والعمل المستقل بها بعيدا عن كل احتواء او استغلال.
ان دور المناضل المدني يتحدد من خلال الصعوبات والاكراهات التي اشرنا لها سابقا والتي يصعب على غير المتمرس الغير الواعي بما يعتمل في الحقل الاجتماعي والسياسي ان يوجهها لوحده دون ان يسقط في أحضان القوى الرجعية واللوبيات الاقتصادية والحزبية ومراكز القرار التي تطوع العمل الجمعوي لخدمة اهداف بعيدة عن أهدافه النبيلة .
ان اول انطباع للملاحظ والمتتبع للشأن الجمعوي هو الغياب الشبه كلي للنخبة المثقفة الواعية عن العمل بواجهة المجتمع المدني الذي تحتكره القوى المحافظة من جهة ومن جهة أخرى
تزايد نفوذ السلطة والأحزاب المتحكمة في تدبير الشأن العام عبر الدعم الذي توفره للجمعيات سواء عن طريق دعم الجماعات الترابية والمؤسسات العمومية او عن طريق صندوق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وما تبقى من الجمعيات يعمل في ميادين البر والإحسان والعمل الخيري وتقديم بعض الخدمات مما يكرس ثقافة تقليدية تحافض على السائد والمتعارف عليه. اما الجمعيات التي تحاول ان تمتلك ناصية قرارها فتتعرض للتضييق .
انطلاقا مما ذكر ومما سبق فان مهام المناضل المدني يمكن تلخيصه في مرحلة اولى في:
1- العمل حسب ميولات المناضلين المدنيين على المساهمة في تأسيس الكثير من الجمعيات حيث يلاحظ خصاص مهول على جميع المستويات (جمعيات الاحياء –جمعيات البيئة-الجمعيات الرياضية- الجمعيات التي تهتم بالفن والمسرح والثقافة بصفة عامة.-جمعيات اباء واولياء التلاميذ …..الجمعيات التي تقدم خدمات للمواطنين والمواطنات….الخ)
2- المساهمة في تأسيس المزيد من الجمعيات المهتمة بالمرأة والطفل والفئات الهشة والانخراط في الموجود منها من اجل دمقرطتها وانتشالها من أحضان اللوبيات والمتحكمين في مراكز القرار
3- الدفاع عن حق النساء في تأسيس جمعيات نوعية تهتم بقضايا المرأة (النساء العازبات-السيدا- النساء المتعرضات للعنف- حماية “عاملات الجنس” من الامراض…الخ) ومواجهة الأفكار المحافظة في هذا المجال.
4- الانخراط في الجمعيات واتحادات الملاك الموجودة والعمل على دمقرطتها وتوجيهها بما يخدم الأهداف النبيلة للعمل التطوعي
5- تأسيس فروع للجمعيات الوطنية العاملة في مجال حقوق الانسان والحفاض على المال العام والبيئة….الخ
6- العمل على توحيد جهود جمعيات المجتمع المدني عبر التشبيك سواء على المستوى المحلي او الإقليمي (تنسيقيات- فيدراليات- مجموعات )
7- متابعة طرق صرف الدعم المقدم للجمعيات ومصير الأموال التي تحصل عليها وفضح اللوبيات المتاجرة بالمال العام في هذا المجال لمتابعتهم قضائيا
8- النضال من اجل احترام القانون ومراجعته بما يسهل الدور المنوط دستوريا بالعمل الجمعوي
9- مرافقة المناضلين الجمعويين لحل مشاكلهم مع المؤسسات والسلطات المختصة
10- فضح المتاجرين بالعمل الجمعوي اما لاسباب انتخابية او مكاسب ومصالح خاصة
* محمد فتحي فاعل جمعيات