اسماعيل الحلوتي
في خضم ما بات يعرفه قطاع التعليم من ترد وتعدد الاختلالات الهيكلية والبنيوية العميقة على مدى عقود من الزمن، بفعل إسناد المسؤوليات لغير مستحقيها من ذوي الكفاءات العالية، التدبير السيء وتفشي الفساد. والذي لم تجد نفعا في إصلاحه كل ما بذل من جهود مضنية وأنفق من ميزانيات ضخمة من أموال دافعي الضرائب، حيث لم تزدد الأمور إلا سوء وتعقيدا والأوضاع تأزما، في غياب الإرادة السياسية القوية والحس الوطني الصادق والحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة.
بيد أن الحكومة الحالية التي يصفها رئيسها عزيز أخنوش قائد حزب التجمع الوطني للأحرار بحكومة الكفاءات، تشدد على أنها خلافا لسابقاتها قادرة على كسب الرهان في النهوض بالمنظومة التعليمية، من خلال ما اعتمده وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة شكيب بنموسى من وصفة فريدة وواعدة. حيث أبرز في معرض كلمته أمام المجلس الحكومي الذي انعقد يوم الخميس 10 نونبر 2022 أن وزارته رسمت خارطة طريق 2022/2026 لمدرسة عمومية ذات جودة للجميع، مؤكدا على أن الإصلاح الحقيقي يكمن فيما أتى به من إجراءات جديرة بإرساء نموذج جديد لتدبيره في أفق عام 2026، أي مع نهاية عمر الولاية التشريعية الحالية…
فالمغاربة يجمعون على أن التعليم قطاع استراتيجي هام، لا يمكن أن نضع على رأسه أي شخص دون أن يكون متوفرا على ما يكفي من قدرات ومؤهلات عالية، وعلى ارتباط وثيق بمجال التربية والتكوين. فهو التاريخ والحاضر والمستقبل، وهو قاطرة التنمية الذي بدونه لا تستطيع بلادنا تحقيق التطور المنشود. لأجل ذلك ظلت الخطابات الملكية السامية تتضمن في عديد المناسبات توجيهات واضحة وانتقادات صريحة للحكومات المتعاقبة، التي فشلت في النهوض بالقطاع لعدم إعطائه ما يلزم من اهتمام بالغ، ومواصلة البرامج والمخططات الرامية إلى وضع قطار الإصلاح على سكته الصحيحة. حيث أن جلالة الملك محمد السادس وضع منذ توليه الحكم الأصبع على مكمن الداء، وأبرز الأسباب التي تدفع بعدد كبير من الأسر المغربية إلى تدريس أبنائها بالقطاع الخاص أو بمدارس البعثات الأجنبية…
إذ أن من الصعوبات والمشاكل التي بات قطاع التعليم يواجهها إلى جانب الاختلالات الناجمة عن تغيير لغة التدريس في المواد العلمية من العربية في المستوى الابتدائي والثانوي، إلى بعض اللغات الأجنبية في التخصصات التقنية والتعليم العالي، مما يستدعي تأهيل التلميذ أو الطالب لغويا قصد تيسير متابعته للتكوين الذي يتلقاه، هناك كذلك اعتماده على برامج ومناهج تعليمية غير مناسبة لمتطلبات سوق الشغل، كما أكد ذلك العاهل المغربي محمد السادس، الذي طالما ذكر بالدور الذي يقوم به شخصيا للنهوض بالمنظومة التعليمية، من خلال حرصه الشديد على تمكين المدرسة من الوسائل الضرورية للقيام بدورها الإشعاعي في التربية والتكوين، والسهر على توفير البنيات التحتية الضرورية بمختلف جهات ومناطق المملكة المغربية، سواء تعلق الأمر بالطرق أو الربط بشبكة الماء الصالح للشرب والكهرباء أو مساكن المعلمين أو دور الطالبات والطلبة وغيرها.
ترى هل بمقدور رئيس لجنة النموذج التنموي الجديد شكيب بنموسى أن يعيد للمدرسة العمومية بريقها والثقة للأسر المغربية، التي أثقلت كاهلها مصاريف مؤسسات التعليم الخصوصي؟ لا نعتقد أن هناك من يرد بالإيجاب في ظل ما عرفته المنظومة التعليمية من عمليات الإصلاح المتوالية منذ فجر الاستقلال، إذ تكاد الوعود لا تتوقف بدون جدوى، حيث أنه كلما حل وزير جديد بالقطاع إلا وجاء محملا بمخططات ومقاربات تنسخ سابقاتها، لكن سرعان ما تبدأ شعلة الحماس في الخفوت إلى أن تنطفئ بالكامل مع نهاية الولاية الحكومية، لتنطلق محاولات إصلاح أخرى مع الحكومة الموالية، وهكذا دواليك…
بيد أنه بالرغم مما وجهت لبنموسى من انتقادات بسبب القرار الجائر حول تسقيف سن الترشح لمباراة أطر الأكاديميات الجهوية في 30 سنة، الذي دشن به سنته الأولى من تولي حقيبة وزارة التربية الوطنية بحرمان آلاف الشباب العاطلين خريجي الجامعات من حقهم الدستوري والقانوني في الشغل. فإن مغاربة كثر يتوسمون الخير فيما جاء به من خارطة الطريق، تشكل خلاصة مشاورات موسعة شملت المستفيدين الأوائل من المدرسة: تلاميذ وأسرهم وأساتذة وكذا الفاعلين والمتدخلين الأساسيين حول أولويات الإصلاح. وهي الخارطة التي حدد لها سقفا زمنيا لا يتجاوز خمس سنوات، وتستهدف تمكين التلاميذ من التحكم في التعلمات الأساسية، وضمان استكمالهم للمسار التعليمي الإلزامي، مما سيساهم في تعزيز تفتحهم وتأهيلهم لتحرير طاقاتهم وقدراتهم وتحقيق ذواتهم، إضافة إلى تحفيز المدرسين وتثمين أدوارهم وتجويد تكوينهم، بما يقوي انخراطهم في الرفع من جودة المدرسة، وتزويد تلامذتهم بالمعارف والمهارات والكفايات المطلوبة، فضلا عن توفير مؤسسات تعليمية حديثة ومنفتحة، تسهم في إكساب المتعلمين المهارات الحياتية والقيم الوطنية والكونية…
إننا وبعد أن أرهقتنا التجارب والإصلاحات الفاشلة التي استنزفت الكثير من الجهود التدبيرية والموارد المالية الهامة، دون أن تكون في مستوى رفع التحديات وتجاوز الاختلالات والأعطاب المتعددة الأوجه: الاكتظاظ، الهدر المدرسي، ضعف الكفايات والمهارات، التفاوتات المجالية، انعدام الجودة وعدم ملاءمة البرامج والمناهج لمتطلبات سوق الشغل… مما جعل المدرسة العمومية عاجزة عن الاضطلاع بأدوارها، نأمل صادقين أن تكون خارطة طريق بنموسى تلك الوصفة السحرية التي من شأنها إنهاء معاناة المغاربة وإخراج منظومتنا التعليمية من دائرة الرتب المخجلة في تقارير المؤسسات الدولية الوطنية من قبيل اليونيسكو والمجلس الأعلى للتعليم.