– بقلم: عبدالهادي باباخويا
انتظرت – كغيري- هدوء العاصفة التي خلفتها تصرفات الفنان طه حفصي المعروف بطوطو، على منصة إحدى المهرجانات الوطنية، وما تبعها من تبريرات مشينة.
انتظرت – كغيري- حتى لا ننجر إلى ردود الأفعال المتشنجة، أو نتهم بمعاداة الفن وصناعه، في إبداء رأينا المتواضع، وتقديم مساهمتنا في النقاش الدائر إعلاميا وفنيا.
وبعد هدوء العاصفة، والمسار الذي عرفته قضيتها، من حقنا أن نقول:
إقدام بعض الفنانين على القيام بتصرفات مناقضة لقيم المجتمع المغربي، ومنافية لمرجعيته الدينية وأساسه الدستوري، جعل الكثير من الأسئلة تطرح نفسها بقوة، من قبيل:
ما وجه الإبداع..!؟ وأين هي القيمة الفنية والبعد المهني في شرب الخمر علانية، أو في التعري وخلع الملابس الداخلية على منصة العرض وأمام الجمهور..!؟
هل دافع الإبداع يجعل الفنان يدوس على أعراف وتقاليد وطنه..!؟ أليس للفن ضوابط أخلاقية وشروط قيمية..؟ أم له الحرية في فعل ما يريد دون حدود أو قيود..!!
أليس في شرب الخمر علانية، أو في التعري أمام الجمهور، تجاوز وإساءة في استعمال الحقوق والحريات، واعتداء على حرمات الناس وأعراضهم..؟
إذا كان هناك معنى وذوق فني، في التعري وخلع الملابس الداخلية، فلينادي به فنانونا بخلعها أمام الملأ وفي الأماكن العامة، صيفا وشتاء..!؟ ثم لماذا يتوارى عن الأنظار ويهرب من الجمهور كل فنان تعرى، ولا يستطيع حتى الحضور لعمله الفني..!؟ للتواصل مع الجمهور والدفاع عن إبداعه..!!
ثم إذا كانت النجومية والشهرة، هي دافع الفنان لفعل ذلك. لماذا لا يتم المس بباقي مقدسات البلاد، كالوحدة الترابية مثلا، أو الخيار الديمقراطي أو المؤسسة الملكية..!؟ فثوابت المجتمع ومرتكزات الدولة، كلٌّ لا يتجزأ. أم أن مراكز الإنتاج والتوزيع هي من تفرض هذا النوع من المواجهة مع قيم الوطن ومقدساته.
ثم لماذا تواجه الأعمال الفنية الجادة بالتهميش والإقصاء..؟ ولا تنال حظها من المساعدة والإشادة، كما هو الحال مع الأعمال الهابطة. لماذا يغيب العدل والمساواة بينهما..؟
أليس من حق أصحاب الأعمال الفنية الهادفة، أن ينالوا نصيبهم من المتابعة والمشاهدة، وأن تعطى لأعمالهم فرصة تقييم الجمهور، وتصويبها من طرف الخبراء والمتخصصين من أهل الفن وحراس مبانيه..؟
من خلال هذه التساؤلات وغيرها، يمكننا مناقشة هذه الموجة الجديدة من الفجور الفني، لفهم طبيعتها ومكوناتها، وإدراك أهدافها ومراميها، ومن ثم تحديد الموقف المناسب اتجاهها..
1- الموجة الجديدة للفن بين البداوة والحضارة:
حسب ابن خلدون، فالتاريخ هو “حركة انتقال الإنسان من البداوة إلى الحضارة”، وفي كتابه شروط النهضة، يحدد مالك بن نبي حالات الإنسان مع الحضارة، ويبين أن الإنسان بصفته فردا أو مجتمعا، يعيش إحدى هذه الحالات: إنسان/مجتمع ما قبل الحضارة، وإنسان/مجتمع الحضارة، ثم إنسان/مجتمع ما بعد الحضارة.
فإنسان/مجتمع ما قبل الحضارة هو الطبيعي، أي الذي تحكمه قوانين الغريزة. وإنسان/مجتمع الحضارة هو الذي تحرر من الغريزة، وانخرط في قانون العقيدة الذي يكبح جماحها ويقيدها. أما إنسان/مجتمع ما بعد الحضارة، فهو الذي عاد مجددا لقيود الغريزة وخضع لقانونها.
والفن بصفته من مركبات الحضارة وعناصرها الهامة، يعتبر محفزا لإمكانات الإنسان وعناصر المجتمع، نحو قانون العقيدة وأشواق الروح حتى تكون الاستجابة لإنجاز فعل حضاري قوية وذات فاعلية..
والملاحظ في هذه الموجة الجديدة، هو افتقار أعمالها الفنية للمهنية المطلوبة، مع التسويق لقضايا تافهة، من خلال كلمات تخدش الحياء أو حركات تحض الفاحشة..
فاللباس مثلا كقيمة حضارية وميزة إنسانية، يختزل مضمونا ثقافيا وفكرا عقديا، يعبر عن رؤية الإنسان لنفسه ومجتمعه ومحيطه. وتعتبر ظاهرة العري هي جزء من فلسفة تقديس الشهوات وعبادة الملذات، القائمة على التفسير المادي للكون والحياة، وتشيئ العلاقات الإنسانية، وهي مناقضة لفلسفة ستر الإنسان وإلباسه أخلاق الحشمة والعفة، وتحليته بمعاني الإيمان كسلطة كبرى، في بناء التصورات وصناعة القرارات وتحديد العلاقات..
فصارت بذلك هذه الموجة، جزءًا من مخطط تعطيل نهضة المجتمع ورقيه، ومعولا من معاول إيقاف مسيرته التحررية، ومساعيه نحو التحديث والمعاصرة، بتثبيت قيود الشهوة والتخلف والتبعية في برامجها وأنشطتها..
2- الموجة الجديدة للفن في ميزان الإبداع:
من مواصفات الفنان المبدع أنه شخص غير عادي، يعبر عن أفكاره وخياله بأساليب وطرق لا يلجأ إليها غيره. فيستعمل عقله وفكره وثقافته في أشكال تعبيرية وأعمال تصويرية راقية، لا تخطر على بال الإنسان العادي. فيرى الجمال مثلا في الأشياء المحسوسة، من حيث لا يراها غيره. ماهر في توظيف قدراته لإيجاد حلول مناسبة، للمشاكل المستعصية لبلده. مشارك في فعاليات مجتمعه بإيجابية وروح معنوية عالية، تسمح باغتنام الفرص المتاحة دون تفويتها.
وللأسف الشديد، فالموجة الجديدة للفن الفاجر، لا علاقة لها بالإبداع، لا شكلا ولا مضمونا، بل مجرد لهو وترف ومضيعة للوقت. فأعمال التعري وما يصاحبها من كلمات ساقطة وحركات بذيئة، ليست تعابير فنية أو أساليب إبداعية، بقدر ماهي ممارسات للإثارة والغواية، لتحصيل ما استعصى بالذكاء والفطنة والعمل الجاد..
ولو اعتبرناها كذلك، لكانت العاهرات وبائعات الهوى، فنانات محترفات ومبدعات مقتدرات. فالعري لبساطته التعبيرية وسهولته العملية، أسلوب يسلكه الضعيف وحيلة يتبعها الكسول..
مسار الفنان المبدع الحقيقي، هو خدمة قضايا مجتمعه، والمشاركة في تقديم إجابات حقيقية لأسئلته، وعرض مقترحات مناسبة لتحدياته، وفق مرجعيته ومنظومته التاريخية وانتمائه الحضاري.
والحوار الفكري والتدافع الثقافي الدائر في الساحة الفنية، حول العديد من القضايا المجتمعية، يستلزم تداول أفكار ومقترحات وانتقادات، وليس الاستهزاء والازدراء من قناعات المخالفين، واستغلال فضاءات الفن لتلبية هذه الرغبة بسلاح الجسد وتقنيات الغواية الإفساد..
3- الفن الهادف في مواجهة الموجة الجديدة للفجور الفني:
إذا كان علماء أمتنا السابقين واللاحقين، قد حددوا شروط الاجتهاد وقعدوا له القواعد وربطوها بالمقاصد، فإن أهل الموجة الجديدة للفن الفاجر، في حاجة -للأسف- لمن يضع لهم شروط التقليد ويبين لهم خطوات إتقانه والنبوغ فيه.
فالملاحظ أن هذه الموجة تستورد من فكر الأعمال الدرامية الهابطة، وتقتفي أثار المدرسة الإباحية، في إنتاجها وحوارها وإخراجها.. بسبب فقر موهبتها وانسداد أفقها ومحدودية خيالها. فهي لا تكلف نفسها عناء البحث والتنقيب، أو ملاءمة ما ينتجه الآخر مع واقعنا وظروفنا وقضايانا، أو حتى المحافظة على الموروث الفني للمغاربة، في أصوله الإبداعية وتوَجُّهاته الشعبية، خاصة ارتباطه بتقاليد البلد وأعراف أهله..
نحن أمام واقع فني رديء، يفرض علينا إشكالات وتحديات، ولا نملك في مواجهته إلا خيارا واحدا لا ثاني له. وهو الاجتهاد في إيجاد البديل المناسب، بجودة إنتاجه ومهنية محتواه. وفي غياب هذا البديل المرغوب أو ضعفه، نشجع الموجود منه وندعمه بما ينمي عناصر تطوره، ويقوي مبررات انتشاره وتأثيره. وبما يسمح بتوفير شروط وأسباب بيئة فنية، سليمة من التقليد الفاحش والتبعية العمياء، ومستوعبة للمواهب الأصيلة ومشجعة للأفكار المُنهضة، وحاضنة للتقنيات المعاصرة..