بقلم : علي نور الدين
عن موقع : فاناك.
منذ بدايات الصيف المنصرم، توالت الأنباء والتسريبات التي تشير إلى سعي حركة حماس الفلسطينيّة لاستئناف علاقاتها مع النظام السوري، بوساطات وجهود مضنية بذلها حزب الله اللبناني وإيران. وبحسب وكالة رويترز، عقدت الحركة بالفعل مجموعة من اللقاءات على مستويات قياديّة عليا، مع النظام السوري، لتحقيق هذا الأمر.
وفي خلاصة الأمر، أكّدت الحركة خلال شهر أيلول 2022 كل هذه التسريبات، ببيانها الذي أكّد على قرارها “باستئناف علاقاتها مع سوريا الشقيقة”، خدمةً للأمّة وقضاياها العادلة، وفي القلب منها قضيّة فلسطين. وبذلك، ومنذ إصدار البيان الذي أكّد الاتجاه لتطبيع العلاقة مع دمشق، دخلت حماس مرحلة “بناء الثقة بشكل أكبر وأوسع” مع النظام السوري، وفقًا لرئيس مكتب العلاقات العربيّة والإسلاميّة في الحركة خليل الحيّة.
أسباب القطيعة عام 2012
من الناحية العمليّة، يمكن القول إن هذا الحدث يمثّل منعطفا هاما في سياق علاقة النظام السوري بمحيطه العربي، وبأجنحة وفصائل حركة الإخوان المسلمين في الدول العربيّة، وهو ما يستدعي الوقوف عن دلالاته وتبعاته على المدى البعيد. فالنظام السوري كان قد استضاف في الماضي مراكز وقيادات حركة حماس، التي تمثّل الجناح الفلسطيني لحركة الإخوان المسلمين، قبل أن تغادر الحركة دمشق في شباط/فبراير 2012، بعد نحو عام من اندلاع الثورة السوريّة.
انقطاع العلاقة بين حركة حماس ونظام الأسد، جاء بعدما اتهمت الحركة النظام السوري بمداهمة واقتحام مكتب ومنزل رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل، وجرد محتوياته وإقفاله. وفي المقابل، حذّرت وزارة الخارجيّة السوريّة يومها حماس من محاولة زج الفصائل الفلسطينيّة في النزاع السوري، في تلميح واضح إلى تورّط حماس في الأحداث الأمنيّة التي شهدتها سوريا في تلك المرحلة.
لكن بمعزل عن هذه الاتهامات الشكليّة المتبادلة، جاء انقطاع العلاقات بين حماس والنظام السوري كنتيجة لأحداث الربيع العربي، والتي شهدت بروز الإخوان المسلمين كقوّة إقليميّة بلغت سدّة الحكم في كل من مصر وتونس. وكجزء من هذا المشهد، الذي لم يحيّد حركة حماس كتنظيم إخوانيّ العقيدة والإنتماء، كان من الطبيعي أن تقف الحركة على الضفّة المناهضة للنظام السوري، الذي كان يواجه بدوره طلائع الربيع العربي التي حلّت في بلاده سنة 2011.
وكما هو معلوم، كانت أوساط الإخوان المسلمين في سوريا جزءًا لا يتجزّء من الحراك السوري المعارض للنظام، والساعي للإطاحة به على النحو الذي جرى مع نظامي حسني مبارك وزين الدين بن علي.
وبذلك، كان موقف حماس تجاه النظام السوري استكمالًا لموقف الإخوان اتجاهه، والذي تكامل بشكل مثالي مع موقف حلفاء حركة الإخوان المسلمين الإقليميين، أي تركيا وقطر. مع الإشارة إلى أنّ حماس استفادت في تلك المرحلة من الدعم القطري والتركي بشكل كبير، بما انتسق مع تقارب الإخوان المسلمين مع هاتين الدولتين. ولهذا السبب بالتحديد، كانت الحركة تراهن على الاستفادة من دعمهما السياسي والمالي واللوجستي، كبديل عن الدعم الذي أمّنه في مراحل سابقة النظام السوري.
اليوم، تأتي عودة حماس إلى سوريا لتعكس جملة من التبدلات في الخارطة السياسيّة الإقليميّة، وأهمها تلك التي تتصل بانسجام أجنحة الإخوان المسلمين في المنطقة، ومواقف كل من تركيا وقطر تجاه النظام السوري، بالإضافة إلى تبدّل بعض التوازنات داخل الحركة نفسها.
تشرذم الإخوان المسلمين على المستوى الإقليمي
أوّل ما تعكسه هذه التحوّلات، هو تخبّط وتشرذم الإخوان المسلمين كحركة متناسقة التوجهات على المستوى الإقليمي، وهو ما يعود أساسًا إلى سلسلة الصدمات والإخفاقات التي تعرّضت لها الحركة في المرحلة الماضية. ففي مصر، جرت إزاحة الرئيس الإخواني المنتخب محمد مرسي من سدة الحكم عام 2013، بعد مظاهرات 30 حزيران/يونيو. ثم أمضى النظام الجديد سنوات من العمل على اجتثاث تنظيم الإخوان المسلمين وتقليم أظافره، ما أفقده قوّته الشعبيّة المعهودة. أمّا اعتقال قيادات التنظيم الرئيسيّة أو نفيها إلى الخارج، فزاد من وهن التنظيم وضعفه داخل مصر.
بعد ذلك بفترة قصيرة، خرجت حركة النهضة، التي تمثّل الذراع الإخواني في تونس، من الحكم عام 2014، بعد أن حاولت إدارة شؤون الدولة هناك من خلال تحالف عُرف بالترويكا. ومن الناحية العمليّة، مثّلت تجربة حركة النهضة التونسيّة المرتبكة، وخروجها من الحكم لاحقًا، نكسة أخرى لتنظيم الإخوان المسلمين، ما ترك شعورًا لدى كثيرين بأن أجنحة الحركة غير مهيّئة فكريًّا وتنظيميًّا لتولّي الحكم في البلدان العربيّة.
ثم جاءت نكسة الثورة السوريّة، التي راهن عليها تنظيم الإخوان المسلمين أيضًا، لتزيد من تراكمات الفشل التي مني بها التنظيم على المستوى العربي، ومن تضعضعه الفكري والتنظيمي. مع الإشارة إلى أنّ تنظيم الإخوان المسلمين كان يعوّل كثيرًا على نجاح هذه الثورة بالتحديد، نظرًا لتغلغله التاريخي في الأوساط السوريّة المحافظة شمال البلاد، والتي كان بإمكانها أن تعطيه دفعًا في إطار أي مسار ديموقراطي في حال سقوط النظام السوري.
باختصار، فقدت حماس على مراحل عدّة الحضن الإخواني الإقليمي الذي راهنت عليه في بدايات مرحلة الربيع العربي، بعد تشرذم وتخبّط تجارب الأحزاب المحسوبة على حركة الإخوان المسلمين. وبهذا المعنى، بات تفرّد حماس بالعودة إلى حضن النظام السوري، تمامًا كما كان الحال قبل العام 2011، مجرّد نتيجة لفقدانها شبكة الأمان الإخوانيّة التي كانت تعوّل عليها. وهذا تحديدًا ما يعطي حدث عودة حماس إلى سوريا دلالات بالغة الأهميّة، لناحية واقع الإخوان المسلمين اليوم وترابطهم كحالة منسجمة.
من المهم الإشارة هنا إلى أنّ جميع هذه التحوّلات جرت عمليًّا قبل سنوات طويلة. إلا أن تأخّر حماس باتخاذ هذه الخطوة لغاية اليوم، يعود تحديدًا لانتظارها تبدّل معطيات إقليميّة مهمّة، وخصوصًا على مستوى موقفي تركيا وقطر.
براغماتيّة تركيا وقطر:
لفهم ما تقوم به حماس اليوم، لا بد من مراجعة الخطوات البراغماتيّة التي قامت بها كل من تركيا وقطر تجاه النظام السوري، وتبدّل نبرة الدولتين بخصوص الأزمة السوريّة. فتركيا وقطر مثلتا طوال السنوات الماضية الحليف الأساسي للحركات التي تدور في فلك الإخوان المسلمين، وفي طليعتها حركة حماس. مع الإشارة إلى أن حماس حرصت على نقل جزء من مراكزها سنة 2012 إلى كل من أنقرة والدوحة، بعد خروجها من دمشق.
فبعد 11 سنة من المواقف المتصلّبة الرافضة للحوار مع دمشق، بدأت التصريحات التركيّة توجّه رسائل إيجابيّة تجاه النظام السوري، بما يوحي باتجاهها نحو التعاون معه في بعض الملفّات. وهذه التوجّهات التركيّة المستجدة، جاءت اليوم مدفوعة بجملة من العوامل، أبرزها سعي أردوغان لنسج تفاهمات إقليميّة بخصوص ملف اللاجئين، الذي تستعمله المعارضة التركيّة في وجهه. كما يبدو أن أردوغان يحاول التمهيد لتفاهمات معيّنة مع دمشق، يمكن أن تريحه في ملف قوّات سوريا الديموقراطيّة، أي القوّات ذات الغالبيّة الكرديّة التي تحكم شمال شرق سوريا، والتي تعتبرها تركيا خطرا إستراتيجيا عليها.
كل هذه التطوّرات، توجتها أنقرة بمواقف متسامحة مع النظام السوري، أطلها وزير الخارجيّة التركي جاويش أوغلو، الذي اعتبر أن السلام الدائم في تركيا يستلزم مصالحة بين المعارضة والنظام. وهذه التصريحات المستجدة، تلت لقاء سريعا عقده أوغلو مع نظيره السوري، على هامشة قمة عدم الانحياز في بلغراد، ما مثّل أوّل خطوة باتجاه استعادة التواصل الدبلوماسي بين أنقرة ودمشق.
قطر، الحليف الإستراتيجي الآخر لحماس، لم تذهب حتّى اللحظة بعيدًا في المواقف المتساهلة مع النظام، ولم تعطِ أي إشارة إلى اتجاهها نحو تطبيع العلاقة معه. لكن بالتوازي مع الخطوة التركيّة، برزت مؤخرًا إلى الواجهة اتفاقيّة بين اتحادات كرة القدم في كل من سوريا وقطر، ما أشّر إلى براغماتيّة مستجدة في الموقف القطري من نظام الأسد، إذ مثّلت هذه الخطوة سابقة في تاريخ العلاقة بين البلدين منذ اندلاع الثورة السوريّة.
هكذا، بدا أن خطوة حماس جاءت مدفوعة بتحوّلات إقليميّة جديدة، وخصوصًا من جهة علاقة حلفائها في أنقرة مع النظام السوري. مع الإشارة إلى أنّ حماس استشعرت أيضًا خطورة تطورات إقليميّة من نوع آخر، وتحديدًا تلك المتصلة بالتقارب التركي الإسرائيلي المستجد. ولهذا السبب، يبدو أن حماس أرادت توسيع وتنويع شبكة علاقاتها الإقليميّة، تحسّبًا لتراجع الدعم التركي الذي تحظى به اليوم، نتيجة تقارب أنقرة وتل أبيب.
حسابات حماس الداخليّة:
من الناحية العمليّة، بدا من الواضح أن خطوة حماس أتت مدفوعة أيضًا بتصاعد نفوذ الجناح المحسوب على معسكر الممانعة داخل الحركة، والذي يحظى بعلاقة وطيدة مع كل من حزب الله وإيران. ولهذا السبب، لم يكن من قبيل الصدفة أن تشير التسريبات إلى دور واضح لإيران وحزب الله، في تقريب وجهات النظر بين حماس والنظام السوري.
وبذلك، تكون كل العوامل الإقليميّة الضاغطة قد انعكست في انقلاب في موازين القوى داخل الحركة نفسها، ما أدّى إلى انكفاء الجناح الذي أصرّ في الماضي على تكامل عمل الحركة مع تنامي نفوذ الإخوان المسلمين في بدايات الربيع العربي. وعلى أي حال، من المعروف أن الحركة تتأثّر منذ عقود بتحوّل موازين القوى بين الأجنحة المختلفة داخلها، والتي تتوزّع ميولها ما بين القوى الإقليميّة الأساسيّة، كإيران وتركيا وقطر.
في النتيجة، من الأكيد بحسب بيان حماس الأخير وتصريحات قيادييها أن الحركة قررت المضي باتجاه التطبيع مع الأسد، ما سيمهّد لفتح مكاتب حماس من جديد في دمشق، التي تحتضن كتلة وازنة من اللاجئين الفلسطينيين. إلا أنّ هذه الخطوة لن تخلوَ من بعض الإشكاليّات التي يفترض أن تتعامل معها حماس خلال المرحلة المقبلة، وخصوصًا تلك المرتبطة بامتعاض جزء كبير من مؤيديها من التطبيع مع نظام الأسد، بعد كل المجازر التي شهدتها سوريا منذ اندلاع الثورة فيها.
كما ستواجه حماس رفض أوساط الإسلاميين والتيّارات الإسلاميّة لهذا التوجّه، في الوقت الذي يمثّل فيه هؤلاء البيئة الحاضنة الأساسيّة لحماس، كحركة إسلاميّة تعتمد نهج حركة الإخوان المسلمين. باختصار، سيكون على حركة حماس أن تتأنّى قبل مسارعة الخطوات باتجاه التطبيع التام مع نظام الأسد، كي لا تحمّلها هذه الخطوة خسائر وازنة على المستوى الشعبي، وعلى مستوى علاقتها بما تبقّى من تيّارات محسوبة فكريًّا على الإخوان المسلمين