اعداد محمد انين
يضيق معنى الوطن، فيصير بحجم كرةٍ وصورةٍ فوتوغرافية وقميصٍ أحمرَ وهدفٍ في مرمى. يختنق صوتُ الوطن، فيصير صياحا نشازا وشعارا بلا صدى ولازمةَ نصرٍ في خاتمة أغنية شعبية. تضيع تفاصيل الوطن في سطحية الدلالات، وضجر التكرار، فيصير فقط، نشرةَ أخبار طويلة ويومَ عطلةٍ إضافي لأيامنا المعطلة.
مفهوم الوطن في البلدان الديمقراطية هو تعاقد على قيم الحرية والعدالة والتعايش والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. ومفهوم الوطن في وطني هو ضرب على الطبول ورقص بالأعلام وشعارات إقصائية وتخوينٌ للمُختلفين واستعراضٌ عددي للجماهير المبتهجة أمام الكاميرات الرسمية…
لا أدري لماذا ينسون وجودنا كمواطنين حين يوزعون بينهم ثروات الوطن ؟ وكيف يتذكروننا فجأة حين يحتاجون إلى عرضٍ احتفالي لإثبات الشرعية ؟ ولا أفهم كيف يطالبوننا وحدنا بهذه الخدمة الاستعراضية الصاخبة باسم الوطن، في الوقت الذي يُعْفى منها أبناء العائلات الكريمة؟
ذاكرة أغلبيتنا من تلاميذ المداشر والقرى والأحياء الشعبية، لا تزال تحفظ صور الدرس الأول الذي يفرضه علينا حماة الوطن كاختبار إجباري لإثبات صفاء سريرتنا الوطنية. لن ننسى تفاصيل تلك التجربة الاحتفالية في استعراض وطنيتنا بحمل الأعلام والصور والهتاف الهستيري في المواكب الرسمية. فدرجةُ ولائنا كانت تقاس بمدى طاعتنا ونحن نساق كالقطيع في الحافلات لتأثيث رصيف الطرقات تحت الشمس الحارقة. ولما يمر الموكب الرسمي كالحلم ونلوح له من بعيد بأيادينا الصغيرة، يختفي الوطن وتختفي الحافلات، وينسى رجال السلطة وجودنا، ونعود مشيا على الأقدام لواقعنا البئيس وحصتنا الجغرافية الضيقة جدا في خارطة الوطن.
هكذا كان التعبير عن الانتماء للوطن، وهذا هو المعنى الوحيد والمبتذل للمواطنة، باقي التفاصيل الأساسية للدلالة على مفهوم الوطن من مساواة وكرامة وحقوق، كانت مجرد حشو للمعنى وبدع غربية دخيلة تتنافى مع ثوابتنا المقدسة. والمهووسون بتقفي أثرها ليتجلى المدلول الحقيقي للمواطنة، كان مصيرهم زنزانة ضيقة في سجون الوطن.
بين الأمس واليوم، ماذا تغير ؟ ربما صقلنا حروف الوطن لتبدو لامعة في واجهة دستور شكلي، لكن بقي المعنى. المعنى السطحيُ نفسُه، الصورُ النمطية نفسُها، الهتافاتُ الصاخبة والشعاراتُ الجوفاء والشهب الاصطناعية والغبارُ المتصاعد، والمشهدُ نفسُه تعيده الشاشات بالتعليق نفسه بتواريخ مختلفة.
الإضافة الوحيدة المبتكرة في المفهوم الجديد للوطنية والمواطنة، هي تقوية صفوف جوق المادحين وفرقة موزعي الورود في حضرة الوطن، بفيلق المدافعين عن حرمته بـ “شاقور” و “فردي” وحجارة.. ليت التعبير عن حب الوطن ظل فقط، بالفرح والرقص والغناء، للأسف صار بالعنف والسب والقذف وتهديد المطالبين بالحرية وضرب المحتجين من أجل وطن كريم ومواطنة كاملة.
الوطن ليس أشخاصا ولا أعيادا ولا شعارا نردده تَعودا أوخوفا، الوطن ليس صورة ولا راية ولا عملة أو طابعا بريديا، الوطن ليس ضيعة ولا بحرا ولا ثروات سطحية وجوفية. الوطن ليس حدودا وسدودا ومشاريع كبرى وقطارا فائقا للسرعة… الوطن هو أنت وأنا والآخرون حين نتعايش مختلفين ونتنفس الحرية، الوطن هو أن نحيا بكرامة ونتساوى أمام القانون في الحقوق والواجبات؛ وبقية التفاصيل الشكلية والاحتفالية التي يحرص حماة الوطن على تكريسها كدليل وحيد على الروح الوطنية، هي مجرد تحصيل حاصل، ستنفجر تلقائيا بصدق ورقي حضاري حين يُضيء المعنى الناصع للوطن.