الخميس. نوفمبر 21st, 2024

د. عطية عدلان
مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول.
هل يعيبُ المرءَ أن يتراجع عن رأيٍ رآه ويعلن الاعتذار عنه إذا تأكد له بطلانه؟ فإنّني أُعلن اليوم الاعتذار لكل من قرأ لي ذلك الرأي البائد عن الديمقراطية، فقد كنت أقول – ويغفر الله لي – إنّ الديمقراطية تخالف النظام الإسلاميَّ في أمر وتوافقه في آخر، تخالفه في مبدأ السيادة؛ حيث تجعل السيادة للشعب وهي في النظام الإسلاميّ للشرع، وتوافقه في مبدأ الشرعية السياسية، إذْ إنَّ الأمّة في كلا النظامين مصدر السلطات، وصاحبة السلطان، والآن بعدما اطلعت بعمق على أقوال المفكرين الغربيين أنفسهم تأكد لي أنّ مقارنة الديمقراطية بالنظام الإسلاميّ على هذا النحو أشبه ما تكون بمحاولة التقريب بين الأرض والسماء، وأنّ النظامين لا يلتقيان حتى يلتقي النور والظلام، ولا يأتلفان حتى يأتلف الليل والنهار، وليس ثَمَّ نقاطُ اتفاق بينهما، ليس ثَمَّ إلا الافتراق التام والمفاصلة الكاملة.
هذا هو الحقّ ولو أَلْقى المخالفون في وجهي مخلفات الأقاويل المتهافتة المأثورة عن هذا أو ذاك من العلماء والمفكرين (الإسلاميين!)، هذه هي الحقيقة أُعْلِنُها غير عابئ بما قد يتهمني به دعاة التغريب الذين يتخفون في أزياء نهضوية مزركشة أو عصرانية مبهرجة، هذا هو واقع الأمر؛ فلا قيمة عندي لما يبذله هؤلاء وأولئك من اللاهثين وراء سراب: “الإقلاع الحضاري” “الاستئناف الحضاري” “الاستنهاض الحضاري”، لكنّني لن أبرح المقام حتى أقيم الأدلة وأسوق الشواهد من منابع غربية، تنتمي إلى تلك الحضارة البائسة، حضارة الإلحاد والشذوذ والإبادة. لقد أعلنت الديمقراطية في البند الأول من بيانها أنّ السيادة للشعب، والحقيقة أنّ السيادة ليست للشعب مهما كان مستوى تَقَدُّمُهُ ورُقِيُّهُ، وليست للإنسان مهما كان مستوى رشده وعلمه، وإنّما هي لله تعالى بلا شريك، وهذا هو المقتضى الأول والأكبر لحقيقة الإسلام ولجوهر التوحيد ولمعنى ومبنى كلمة الإخلاص “لا إله إلا الله”؛ لذلك أَلْزَمَ اللهُ وأوجب وفرض في آيات كثيرة التحاكمَ إلى شريعته، ونهى وحرم وجَرَّمَ في آيات كثيرة التحاكم إلى غير شريعته، ووصف التحاكم إلى غير شريعته بالكفر والظلم والفسق، وقرر أنّ من له الخلق هو وحده من له الأمر: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: 54)، فالسيادة إذن للشرع لا للشعب، والسيادة تعني عندنا وعندهم: التفرد بالحق في إنشاء الخطاب الملزم.
ومع أنّ الديمقراطية قد ارتكبت خطأً فاحشا وجرما عظيما عندما جعلت السيادة للشعب؛ إلا أنّ الواقع أنّها ليست للشعب على وجه الحقيقة، وإنّما هي لأولئك الذين يقال عنهم إنّهم يمثلون الشعب، بينما هم في الواقع يمثلون أحزابهم التي ليست سوى صناديق استثمار سياسي تابعة للطغمة الحائزة للثروة والسلطة في الغرب، تلك التي يسميها الفكر السياسي الغربيّ “الأوليجارشية”، أو “الأوليجاركية” أي طبقة المنتفعين أرباب المصالح، أمّا فكرة التمثيل هذه فليست ديمقراطية في نظر الديمقراطية ذاتها، إنّها أقرب إلى التمثيلية الهزلية منها إلى التمثيل النيابي.
يقول البروفيسور الفرنسي “جاك رانسيير”: “لم يكن التمثيل أبداً نسقاً تم اختراعه لمواجهة النمو السكانيّ، لم يكن شكلا لتوافق الديمقراطية مع العصور الحديثة ومع الفضاءات الشاسعة، إنه بحق شكل أوليجاركي، تمثيل لأوليجاركيات تتمتع بلقب يتيح لها تولي الشئون العامّة … كما أن الانتخاب ليس في ذاته شكلا ديمقراطياً من خلاله يجعل الشعب صوته مسموعاً، إنه في الأصل التعبير بقبول تطلبه سلطة عليا”([1])، ويذهب البروفيسور الأمريكي روبرت دال إلى الأصل فيقول: “لم تكن فكرة التمثيل في الواقع العمليّ وليدة فكر الديمقراطيين، بل إنّها نمت باعتبارها مؤسسة من مؤسسات الحكم الملكيّ والأرسطقراطيّ، ومن الممكن العثور على بداياتها، خاصة في انجلترا والسويد، في المجالس التي كان الملوك وكذلك النبلاء في بعض الأحيان يجمعونها لمعالجة قضايا الدولة الهامّة، كالواردات والحروب ووراثة العرش وإلى غير ذلك من الأمور”([2]).
فإذا ما جاوزنا بند السيادة الذي يتصدر إعلان الديمقراطية، والذي يغضُّ الطرفَ عنه الزاعمون من علمائنا ومفكرينا بأنّ الديمقراطية من الإسلام، والذين يبذلون وسعهم لإقناعنا بأنّها انسابت في مسارب الإجراءات، مفارقةً أصلها ومنبعها إلى غير رجعة، إذا ما جاوزنا ذلك إلى البند الثاني – الذي كنت أرى أنّه يوافق النظام الإسلاميّ – وهو مبدأ الشرعية السياسية، لوجدناه أكذوبة كبيرة وحيلة ماكرة، فالظاهر للناس أنّ الانتخابات تحقق هذه الشرعية السياسية، وتؤكد مبدأ سلطان الأمة، والحقيقة غير ذلك تماما؛ لأنّ نظام الانتخابات بالشكل الذي تفرضه الديمقراطية يؤدي حتما إلى اجتماع السلطة والثروة في يد تلك الطبقة النفعية التي تسمى الأوليجارشية.
ذلك لأنّ رأس مال الأوليجارشيات هو الذي يمول الإعلام، الذي يمارس بكفاءة عالية صناعة الرأي العام حسبما تريده تلك الطائفة النَّكِدة، وهو الذي يمول الانتخابات، وهو الذي يمول الأحزاب التي تتنافس في الانتخابات، ولا سبيل إلى تمويل الجهات الثلاثة إلا هذا، ومن ثمّ فلا شيء من عناصر العملية الانتخابية يخرج عن السيطرة، لذلك لم يستبعد “فريد زكريا” في كتابه الأكثر قراءة في العالم على مدى عقد كامل “مسقبل الحرية”؛ لم يستبعد صعود دكتاتوريات على أكتاف ديمقراطية وانتخابات صحيحة، وضرب مثلا لذلك بالنازية التي امتلكت زمام الإعلام وصاغت من خلاله الرأي العام”([3]).
عالم الاجتماع الفرنسي “ألان تورين” يقول: “لا يمكن الكلام على الديمقراطية إذا لم يكن أمام الناخبين من خيار إلا بين فريقين من الأوليجارشية أو الجيش أو جهاز الدولة”([4])، ويضيف: “نحن لم نعد نريد ديمقراطية مساهمة، ولا يسعنا أن نكتفي بديمقراطية مداولة، إنّنا بحاجة إلى ديمقراطية تحرير”([5])، وهذا هو عين ما دعا إليه فريد زكريا وسخر له كتابه “مستقبل الحرية”، ويعود “ألان تورين” بعد جولة طويلة في كتابه ليؤكد على أنّ إرادة الاختيار عند الجماهير منقوصة؛ بسبب حصر الخيارات فيمن تقدمهم النخبة الحاكمة على الحقيقة، فيقول: “استنتج عدد كبير من مراقبي الحياة السياسية أنّ الانتخابات تظهر تعبيرا عن الرفض السياسي بدلا من الإيثار السياسي”([6]).
وإلى أبعد من هذا تذهب “غرين بالاست” مؤلفة “كتاب أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراؤها” وهي تتحدث عن صورة من صور التناغم بين السلطة والثروة: “ربما خسر جورج دبليو بوش في صندوق الانتخابات ولكنه ربح فيما يمكن الاعتماد عليه … سار الابن المحظوظ مباشرة نحو البيت الأبيض على خنزير محشو بما يقارب نصف مليار دولار … إنهم يدعونها انتخابات ولا يبدو لي إلا أنها أكثر شبها بالمزاد”([7])، وقريب من هذا يقرره بعموم أوسع فريد زكريا وهو يقول: “إنّ الحزب على الأغلب تحول إلى عربة لجمع التبرعات لصالح مرشح ذي طلة تلفزيونية مميزة”([8]).
ولا ريب أنّهم سيقولون – وكم بالمقولات من ترهات – فما بالُنا نرى الغرب يعيش في ظل هذه الحكومات في رفاهية وحرية؟ فأمّا الرفاهية فدونكم أحد مفكري الغرب الكبار “هارولد لاسكي” يكشف عن السر في التآلف المؤقت بين الرأسمالية الطاغية والديمقراطية الغافلة؛ بما يحقق الرفاه المؤقت الذي تتلهى به الشعوب: “إنَّ ما صار واضحاً فوق كل شيء آخر في السنوات ما بين الحربين هو اعتماد الدول الديموقراطية على اقتصاديات التوسع؛ وبمجرد أن تصير هذه غير متيسرة فإنَّ التناقض بين دلالات الرأسمالية ودلالات الديمقراطية يصبح مما لا يمكن التغلب عليه”([9])، وقد بدأت الرأسمالية بالفعل في سحب البساط من تحت أقدام الديمقراطية، “ويحلل العالم المختص بشئون المستقبل (جون نايزبت) واقع المجتمعات الصناعية، ويتوصل إلى نتيجة مفادها أنَّ عصر المجتمعات الصناعية وما أفرزه هذا العصر من مستوى معيشيّ مرتفع لجمهور المجتمع ليس سوى حدث عابر في التاريخ الاقتصادي”([10])، وقد توصلوا من خلال رصد الواقع وتحليل الأحداث إلى أنَّ معتقد الاقتصاديين المؤثرين في القرار “أنّ النموذج الأوربيّ لدولة الرفاهية قد أكل عليه الدهر وشرب، وأنّه قد صار مشروعاً باهظ التكاليف، مقارنة بما هو سائد في بلدان العالم الأخرى”([11]). أمّا الحرية فأين هي والوضع كما أسلفنا يدار بلعبة واسعة الحيلة؟ وما الجماهير في هذه اللعبة إلا ستار لليد التي تدير المشهد، والتي تعطي الدهماء حرية تامّة في التفسخ والانحلال والشذوذ والإلحاد، إنّها حرية للإلهاء، وهي في الوقت ذاته ميدان رحب لتثمير المال بالحرام؛ فما أخبثها من حرية! وإلى جانب هذا اللون من الحريات هناك لون آخر يستعبدون به الخلق، وهو حرية الرأسمالي في حيازة السلطة والثروة كما يشاء، والعجيب أنّهم يعتبرون هذا من صلب الديمقراطية، يقول “دوفرجيه”: “النظريات الرأسمالية تؤكد أنَّ تأثير المال أمر ديمقراطيّ في آخر تحليل؛ إذ إنَّ جميع الناس يستطيعون في ظل نظام التنافس أن يحصلوا على الثراء وأن يمارسوا به تأثيراً سياسياً، فذلك معنى الكلمة التي قالها (غيزو) رداً على أولئك الذين كانوا يعيبون على الأغنياء أنَّهم يحتكرون السلطة السياسية: (عليكم بالاغتناء)”([12]).
وعلى الرغم من ذلك كله نجد الديمقراطية تضن بنفسها على الشعوب المقهورة، وتأبى إلا أن تعطيهم من نفسها نسخة مزيفة مزورة، ومن تابع التجارب تأكد له أنّ “تعلق طلائع الشعوب المقهورة بأطروحات الديمقراطية الغربية، لم يؤد إلى قيام نظام ديموقراطي في أي قطر من أقطار العالم التابعة، سواء خلال وجود الاحتلال، أو بعد رحيله([13])، وهذا ما قرره حتى بعض مفكريهم، يقول مارتين دودج: «هكذا كانت انجلترا مهداً للديمقراطية، غير أنها لم تمنح مستعمراتها الأمريكية مثل هذا الامتياز، وظلت تعامل سكانها كقطيع من السائمة … السبب الذي شَبَّتْ من أجله نار الثورة الأمريكية»([14])، ويقول نعوم تشومسكي: “نستطيع مما سبق أن نفهم بسهولة سياسة الولايات المتحدة في العالم الثالث؛ نحن نعارض بمثابرة وإصرار الديمقراطية إذا كانت نتائجها خارج نطاق سيطرتنا([15]).
لقد كنت مخطئا عندما شايعت ذلك الوثنيّ الدجال “أرسطو” في تقسيمه السداسي، حيث عدّ ديمقراطية الغوغاء صورة تأتي في مقابل الديمقراطية المعتدلة؛ لتحوز معها ثلث الدورات الزمنية للنظم السياسية، أجل كنت مخطئًا؛ لأنّ الديمقراطية ليست سوى ديمقراطية الغوغاء، ومن أحب أن يتصور الغوغائية فما عليه إلا أن ينظر إلى القطعان البشرية وهي تندفع خلف شخص لا يمكلك من مؤهلات الحكم سوى ادعاءات المظلومية، وليس لديه رؤية إلا ذلك القلب الذي يرسمه بأصابعه في الهواء، ولا مشروع إلا ذلك التحرش الكلاميّ مع الحاكم العادل الذي يبذل قصارى جهده في جلب ما يمكن جلبه من المصالح ودفع ما يمكن دفعه من المفاسد، ويمضي في هذا العالم المليء بالفخاخ على صراط أحد من السيف وأدق من الشعرة وحوله كلاليب وكلاب وذئاب.
شتان بين النظام الإسلاميّ وبين الديمقراطية، وعندما أقول النظام الإسلاميّ فلا أعني به تلك التصورات والتطبيقات الخرفة لدى الغلاة من الدواعش وغيرهم، بل لا أعني به التطبيقات التاريخية التي سميت خلافة بينما كانت ملكا عضوضا أو ملكا فيه رحمة، وإنّما أعني به سنة الخلفاء الراشدين، ولعلي يتاح لي فرصة لأبسط الحديث عن تفاصيله وكيف نَصُبُّه في قالب معاصر، والله المستعان.
———————————————–
([1]) الديمقراطية ونقادها – روبرت دال – ترجمة نمير عباس مظفر – دار الفارس – عمان الأردن – ط 2005م ص56-57
([2]) الديمقراطية ونقادها – روبرت دال – ترجمة نمير عباس مظفر – دار الفارس – عمان الأردن – ط 2005م ص56-57
([3])ر: مستقبل الحرية (الديمقراطية الضيقة الآفاق في الداخل والخارج) – فريد زكريا – ت فادي أديب – ط أولى – دار مجالات – بيروت – ص66-69
([4]) ما الديمقراطية؟ – ألان تورين – ترجمة عبود كاسوحة – منشورات وزارة الثقافة – سوريا – دمشق – ط2000م ص11
([5])ما الديمقراطية؟ – ألان تورين – ترجمة عبود كاسوحة – منشورات وزارة الثقافة – سوريا – دمشق – ط2000م ص17.
([6])ما الديمقراطية؟ – ألان تورين – ترجمة عبود كاسوحة – منشورات وزارة الثقافة – سوريا – دمشق – ط2000م ص198.
([7]) أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها – غرين بالاست – الدار العربية للعلوم – ترجمة مركز التعريب والبرمجة – ط أولى 2004م – ص91.
([8]) مستقبل الحرية (الديمقراطية الضيقة الآفاق في الداخل والخارج) – فريد زكريا – ت فادي أديب – ط أولى – دار مجالات – بيروت – ص201
([9]) تأملات في ثورات العصر – هارولد لاسكي – ترجمة عبد الكريم أحمد – دار القلم القاهرة مصر – بون تاريخ طبع – ص284
([10]) فخ العولمة .. الاعتداء على الديموقراطية والرفاهية – تأليف: (هانس بيتر مارتين ، هارالد شومان) – ترجمة: د. عدنان عباس علي – كتاب “عالم المعرفة” عدد 238 سنة 1990م ص25
([11]) فخ العولمة .. ص 27
([12]) مدخل إلى علم السياسة – موريس دوفرجيه – ت: سامي الدروبي وجمال الأتاسي – دار دمشق – القاهرة – بدون تاريخ – صــــ 174
([13]) الديمقراطية المفاهيم والإشكالات، ناجي علوش (ص76).
([14]) قاموس المذاهب السياسية (ص24).
([15]) ماذا يريد العم سام؟ – نعوم تشومسكي – ترجمة عادل المعلم – دار الشروق – القاهرة – مصر – ط أولى 1998م – صــــ20
الكاتب: د. عطية عدلان

Related Post

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *