اسماعيل الحلواني
لم يعد إفراغ السياسة من معناها النبيل، يتطلب اللجوء إلى تمييعها بواسطة تلك الأفعال المنفرة للمواطنين، مثل صناعة أحزاب إدارية على المقاس، تزوير إرادة المواطنين في الاستحقاقات الانتخابية باستعمال المال الحرام والتلاعب بالنتائج وترشيح الأقارب والمفسدين وما إلى ذلك، بل في تدني مستوى الخطاب السياسي وما تقوم به بعض النخب السياسية من فضائح وتجاوزات، وترجيح المصالح الشخصية والحزبية الضيقة على المصلحة العليا للوطن…
وبعيدا عن الأسباب التي أدت بالسياسة إلى ما هي عليه اليوم من بؤس وانحدار، إذ أصبح الجميع يرى بالعين المجردة كيف أن الواقع السياسي ببلادنا بات أكثر قتامة من ذي قبل في السنوات الأخيرة، وصار الهاجس الانتخابي يسكن عقلية أحزابنا السياسية للحصول على أكبر عدد ممكن من المقاعد، كما أن البرلمان تحول إلى حلبة للصراعات السياسوية وتبادل الاتهامات والتنابز بالألقاب بين ممثلي الأمة، بدل الانكباب على خدمة المواطنين والترافع عن مطالبه الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية الملحة، ناهيكم عن تنامي ظاهرة الفساد في أوساط البرلمانيين ورؤساء الجماعات الترابية ومجالس العمالات…
فلم يمر كثير من الوقت على ما أضحى يعرف إعلاميا بفضيحة “إسكوبار الصحراء”، التي كشفت عن مفاجآت صادمة، ومنها الجمع بين ممارسة السياسة والاتجار في المخدرات وتبييض الأموال، حيث أنها أسقطت عدة شخصيات وازنة وفي مقدمتها القياديان البارزان في حزب الأصالة والمعاصرة المشارك في حكومة أخنوش، وهما سعيد الناصري رئيس مجلس عمالة الدار البيضاء ورئيس نادي الوداد الرياضي البيضاوي، وعبد النبي بعيوي رئيس مجلس الشرق، المتابعان بتهم ثقيلة تتعلق بالتزوير في محررات رسمية، المشاركة في اتفاقيات قصد مسك المخدرات والاتجار فيها، النصب والاحتيال، استغلال النفوذ، حمل الغير على الإدلاء بتصريحات وإقرارات كاذبة عن طريق التهديد، وغيرها…
حتى تفجرت فضيحة من العيار الثقيل من خلال التقرير الأسود للمجلس الأعلى للحسابات حول التدبير السيء للدعم العمومي للأحزاب السياسية، تلتها فضيحة أخرى في حزب “الميزان” أعادت إلى الأذهان موقعة “الصحون الطائرة” خلال مؤتمره السابق. فأثناء انعقاد أشغال اللجنة التحضيرية الوطنية للمؤتمر 18 للحزب يوم السبت 2 مارس 2024 وعلى إثر “مناوشات” جرت بين بعض قياديي الحزب خلال عملية انتخاب رئيس اللجنة التحضيرية، أقدم المدعو “يوسف أبطوي” عضو اللجنة التنفيذية على توجيه صفعة قوية للنائب البرلماني عن مدينة تطوان “منصف الطوب” أمام أنظار الأمين العام للحزب نزار بركة وأعضاء المجلس الوطني، مما اضطر معه مكتب اللجنة التحضيرية إلى استنكار الواقعة وإصدار بلاغ له في إطار صلاحياته، يعلن عبره عن اتخاذه قرارا يقضي بتوقيف كل من “يوسف أبطوي” و”أشرف أبرون” من عضوية اللجنة، بعد استعراض ما صدر عنهما من سلوكات وتصرفات منافية لأدبيات الديمقراطية وفضيلة الحوار.
وهي الفضيحة التي هزت الساحة السياسية وأثارت حفيظة قيادة الحزب، التي ترفض بشدة المس بسمعة المؤسسة الحزبية أمام الرأي العام، ولاسيما بعد أن تم تسريب شريط فيديو قصير يوثق لتلك “الصفعة”، الذي عرف انتشارا واسعا على منصات التواصل الاجتماعي، وخلف ردود فعل متباينة بين ساخر ومستنكر لواقع السياسة والأحزاب السياسية ببلادنا. فضلا عن أن البرلماني “منصف الطوب” سارع إلى وضع شكاية ضد المعتدي عليه لدى الدرك الملكي بمدينة بوزنيقة، معتبرا أن توثيق ما تلقاه من إهانة أضر كثيرا بصورته وأثر على نفسيته، وجعله يرفض بشدة كل الوساطات الراغبة في إجراء عملية الصلح بينه وبين من أساء إليه علانية.
وبما أن “المصائب لا تأتي فرادى” كما يقول المثل، فإنه سرعان ما طفت على سطح الأحداث فضيحة سياسية وأخلاقية أخرى أكبر وأفظع من سابقتها في ذات الحزب “العتيد”، وهي تلك المتعلقة بالتراشق المتواصل بين رئيس الفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية بمجلس النواب وعضو اللجنة التنفيذية، ورفيعة المنصوري البرلمانية السابقة وعضوة مجلس جهة طنجة-تطوان-الحسيمة، على إثر تسجيل صوتي منسوب للأول يتضمن إساءات تمس بعرض وشرف الثانية، مما أدى بقياديين بارزين سابقين وحاليين إلى المطالبة بتجميد عضويته فورا، احتراما لكرامة المرأة، في انتظار أن يفصل القضاء في هذه النازلة ، مادامت المتضررة المنصوري رفعت شكاية عاجلة في الموضوع تتهم فيها مضيان ب”القذف والتشهير”.
وإذ نتساءل بحرقة عبر هذه النماذج السيئة من المتهافتين والانتهازيين وغيرهم من المفسدين الذين يلوثون الحقل السياسي، ويسيئون إلى العمل السياسي وصورة المؤسسات الوطنية والمجالس المنتخبة، عن دور الأحزاب السياسية في تأطير المواطنين وتربيتهم على القيم واحترام حقوق الإنسان، وتعميق الوعي السياسي لدى مناضليها والرفع من كفاءتهم في التواصل وحسن التدبير، علما أنها تتلقى مقابل ذلك دعما سنويا من المال العام يقدر بالملايير؟
فإننا نأسف لما صار عليه المشهد السياسي ببلادنا من ميوعة، جراء تدني مستوى الخطاب السياسي وتنامي بعض السلوكات والتصرفات المشينة الصادرة عمن يفترض فيهم أن يشكلوا قدوة حسنة للأجيال القادمة، من خلال التحلي بالنزاهة والاستقامة واللباقة وتقدير المسؤولية الملقاة على عاتقهم، بما من شأنه أن يعيد للسياسة توهجها، ويكفي أن نستحضر هنا تلك الرسالة الملكية السامية التي بعث بها جلالته إلى المشاركين في الندوة الوطنية التي انعقدت في 17 يناير 2024، بمناسبة تخليد الذكرى 60 لتأسيس أول برلمان مغربي، يدعوهم فيها إلى ضرورة إقرار مدونة للأخلاقيات ذات طابع قانوني ملزم، بهدف تخليق الحياة العامة والارتقاء بالممارسة السياسية…
اسماعيل الحلوتي