بقلم: ستار الزهيري.
“إعادة بناء مفاهيم “الإنسان، الدين، الكرامة”
كتاب”الدين-والكرامة-الإنسانية- عبد-الجبار- الرفاعي
لا أعرف ما الذي دفعي إلى استحضار عدة استفهامات وأنا أقرأ كتاب (الدين والكرامة الإنسانية) للدكتور عبد الجبار الرفاعي. تساءلت عن عنوان هذا الكتاب: هل ثمة ما يقلق في هذا الشأن؟ أو ما المساحة التي تشغلها الكرامةُ من الدين؟ هل من حدود لتلك الكرامة؟ وتكرّرت (هل) معي وأنا أقرأ الكتاب لأجد إجابات لبعض استفهاماتي، وأجد تعميقًا لبعضها الآخر ينفتح على أسئلة أخرى؟
يجعل الرفاعي الكرامةَ القيمةَ المركزية التي تتفرع عنها كلُّ القيم، مثل: المساواة والحرية واحترام المختلف في الدين والمعتقد، كل ذلك في ضوء تفسيره لآيات القرآن الكريم، يقول الرفاعي: (الكرامة هي القيمة المركزية في حياة الكائن البشري، الإنسان الأصيل يضحي بحياته من أجل ان تُخلِّد ذاكرةُ الوجود كرامتَه، الكرامة مكوّن لهوية الإنسان الوجودية، عنوان تكريم خلق الإنسان هو كرامته لا شيء آخر سواها. انتهاك الكرامة يفضي إلى انتهاك كل حريات الإنسان وحقوقه). لا نقرأ هذا الكلام في مدونات تجاهلت أشكالَ الاستعباد المفضوحة، وباتت مدعاة للاستثمارات الأيديولوجية ومقاولات الجحيم باسم الدين.
عوّدنا الرفاعي في كتاباته أنه يثير الأسئلةَ عن بديهياتنا عن الإنسان والدين ومنشئها، إذ يتساءل عن طبيعة الإيمان، ومنشأ الحاجة إلى الدين، وكيف يفسّر فهمُنا العميق للتضادّ في طبيعة الإنسان حاجتَنا إلى الدين، يقول: (لا يمكن أن نفهمَ الدينَ قبلَ أن نفهمَ الإنسانَ أولًا، وحاجتَه لمعنى لحياته، وحاجتَه للكرامة والمساوة والحرية. إعادةُ تعريف الإنسان هي المدخلُ الصحيح لإعادةِ تعريف الدين وكيفيةِ فهمه وتفسيرِ نصوصه، بالشكل الذي يصيرُ الدينُ فيه مُلهِمًا للعيش في أفق المعنى).
إذا فهمنا شيئًا عن الإنسان، ففي ضوء هذا الفهم للإنسان يمكن أن نتحدث عن حاجته العميقة للدين الذي يفرض حضورَه في كلّ عصر مهما اشتدّت مناهضتُه ورفضُه.
يتمحور كتابُ الدين والكرامة الإنسانية حول إعادة بناء ثلاثة مفاهيم مركزية، هي:
الإنسان.
الدين.
الكرامة.
يحتلّ الحديثُ عن الإنسان المساحةَ الأوسع في هذا الكتاب، ففي الفصل الثاني والرابع والسادس كان الإنسانُ محور الحديث، بدأ الرفاعي الحديثَ عن الإنسان في الفقرة الأولى من مقدمة كتابه. وبموازاة الحديث عن الإنسان ظل يلازمه حديثُه عن الدين، وأفرد للحديث عنه الفصل الرابع، ببحث الحاجة للدين وأشكال التدين بتفصيل منتزع من الواقع، لم أجده في مؤلفات إسلامية أخرى. يرى الرفاعي الحاجةَ الى الدين مستودعةً في أعماق الكينونة الوجودية للكائن البشري، إذ يقول: “لا يصنع الإنسانُ حاجتَه للدين، الحاجةُ للدين مستودعةٌ في أعماق الكينونة الوجودية للكائن البشري. ما يصنعه الإنسانُ هو أنماطُ تدينه. كان الدينُ مع آدم الأول وسيبقى مع آدم الأخير في الأرض، الدينُ كائنٌ حي لن يموت مادام هناك إنسان يعيش على الأرض، كلُّ الظنون والتوقعات والآراء بأفول الدين وانسحابه من الحياة بتقدم العلم وتطور معارف الإنسان يكذّبها الواقع. ما يموت هو نمط معرفة بالدين تنتمي للماضي. والدليل على حضور الدين بقوة هو الازدياد المتواصل لعدد أتباع الأديان الذي ينمو كلَّ يوم في العالم”.
وخصص الرفاعي الفصلين الثالث والأخير من كتابه للحديث عن الكرامة الإنسانية، جاء الفصل الثالث بعنوان: “الكرامة جوهر إنسانية الدين” وهو بحث اعتمد فيه على القرآن الكريم. والفصل السادس تناول: “الكرامة الإنسانية والاستعباد”.
يدرس عنوان الكتاب: الكرامة والإنسان، وعلاقة الدين بهما، في مستويين، يحاول فيهما أن يعيد بناء مفهوم الكرامة قرآنيًا:
المستوى الاول: يعيد النظر في فهمنا للكرامة، فيكشف الرفاعي أن منشأ الكرامة مرتبط بوجود الإنسان، وليس بالمعتقد الذي يعتنقه، الكرامة ذات أصل يلازم الكينونة الوجودية له لأنه المستخلَف في الأرض، لذلك أوجد الله الكرامة ملازمة لوجوده، بغض النظر عن معتقده وعرقه وثقافته وبلده. يكتب الرفاعي: (ينفرد الإنسان في تكريمِه وتشريفه وتفضيله على ما سواه من الخلق كما جاء في الآية: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وفَضَّلنَاهُم عَلى كَثِيرٍ مِمَّن خَلَقنَا تَفضِيلَا”. التكريمُ هنا تكريمٌ عامٌّ يتسع لكلِّ بني آدم، وهو مقامٌ وجودي، أي إنه مكوّنٌ ذاتيّ للكينونة الوجودية للإنسان مطلقًا، بغضّ النظر عن جنسه ولونه ومعتقده، وغيرِ ذلك مما هو خارج كينونته الوجودية. وهو غيرُ التكريم العرضيّ المُضاف الذي هو استحقاقٌ يناله الإنسانُ بعملهِ وسعيهِ للكمال، وجهودهِ الخيرة من أجل إسعاد الناس، والمساهمةِ في اثراء القيم وترسيخها، وخلقِ عالَم أجمل المستوى الثاني: مادامت الكرامة ملازمة للكينونة الوجودية للإنسان، وهي مشترك جوهري بين كل البشر، فهي قيمة كونية عابرة للزمان والمكان. الكرامة تنفي مفهوم العبودية بمختلف أشكاله ومراتبه، يقول المؤلف: (لم يتنبه أكثر المتكلمين الى أن القران بوصفه كتابًا مقدسًا، يؤسس قيمًا انسانية كونية عابرة للزمان والمكان، تنظر للكينونة الوجودية للإنسان). ويبين الرفاعي في معرض تناول مفهوم الحرية، فشلَ المنظومة الكلامية القديمة في تقديم فهمٍ صحيح للحرية، إذ يقول: (نرى هذه المراتب الوجودية السامية للإنسان على الضد من مفهوم العبودية، بالمعنى الذي أنتجه المتكلمون المسلمون بمختلف فرقهم وما انتهى إليه ذلك المفهوم من سلب حرية الإنسان ومصادرة حقوقه التي كانت استحقاقًا ربانيًا لوجوده من حيث هو إنسان).
أدركتُ حينها أنه لا يمكن أن يفصح كتابٌ واحد عن فهم الآلية التي يشتغل فيها مبضع التشريح لدى الرفاعي، بل لا بدّ من استحضار المنهج الذي يشتغل عليه الرفاعي برمته، كي تتسنى للباحث معرفةُ الأهداف المتوخاة لأي كتاب يصدر عنه، وتتكامل معه معالُم رؤيته لتجديد الدين.
الكرامة هدف الفكر الإنساني بكلّ محطاته، فلو تتبعنا مؤلفات العظماء لوجدنا (الكرامة) مرافقًا حميمًا لمسيرة الكلمات والأفكار لديهم، كما نقرأ ذلك لدى فولتير وتسامحه، وليسنج وتربيته، وروسو وعقده الاجتماعي، وكانط وسلامه الدائم… والقائمة تطول.
أراد عبد الجبار الرفاعي وضعَ بصمته في قائمة أولئك الذين يشيدون أسس الكرامة ويعملون على بناء عمارتها، جعل الرفاعي الكرامةَ القيمةَ المركزية كما نراها لدى الفلاسفة والمفكرين الذين أشادوا بنيانَ الحريات والحقوق في العصر الحديث.
الأطروحة المركزية التي يحاول المؤلف شرحَها وبيانها في كتابه مهمة جدًا، وهي ضرورية لأنها تهدف إلى إكمال بناء سلسلة المفاهيم المحورية في “علم الكلام الجديد” الذي مازال مصرّا على مواصلة الطريق رفقةَ مفكرين آخرين في بنائه. الفكرة الأساسية في هذا الكتاب وغيره من كتابات الرفاعي التي تمثّل أحدَ أسس الكلام الجديد عنده، يلخصها بقوله إنه: “يعيد بناء القيم المركزية في حياة الإنسان مثل الكرامة قرآنيًا، بوصف الكرامة مكونًا للكينونة الوجودية للإنسان، أعيد بناؤها خارج علم الكلام والمعتقد والفقه الموروث، بمعنى تفكيك الكرامة والقيم الكونية عن علم الكلام والمعتقد والفقه، بعد تحرير فهم القرآن من سلطة المقولات الكلامية القديمة يستطيع المسلم الاعتراف بالمختلف في المعتقد واحترامه وتكريمه”.
قد يلجأ المتتبع لأفكار الرفاعي الى التدوين، وكتابة الملاحظات، لا لحفظها بل لدمجها مع بعض، وذلك لكي يفهم طبيعةَ المركب المعرفي، والمنهج الذي يختطّه لنفسه في كلّ مدوناته. لا يمكن أن يفصح كتابٌ واحد عن فهم الآلية التي تعدّ المنهجَ والمحرّكَ لكلّ مؤلَف لدى الرفاعي، بل لابدّ من استحضار المنهج الذي يشتغل عليه الرفاعي برمته، كي تتسنى للباحث معرفةُ الأهداف المتوخاة لأيّ كتاب يصدر عنه.
الرفاعي يرفض أدلجة الدين، لكن تجريد الإنسان من الأدلجة عملية في غاية الصعوبة، من حيث إنها تحُدث تغييرًا جذريًا في المتبنيات، وتجرّد التفكيرَ مما التصق به من موروثه الاجتماعي، وقد تسالمت عليه بنيتُه الذهنية، فالواقع والمعيشة متقدّمة على الفكرة لا العكس، والناس يسعون إلى تطبيق أذهانهم على الواقع الخارجي لا تطبيق الواقع على أذهانهم، فيرون حياتَهم ومعيشتَهم بعيون عقولهم، وهذا التزيين والتبرير العقلاني هو الذي يسمى أيديولوجيا.
السرّ في قبول الناس للأيديولوجيا والمفاهيم اللاعقلانية يكمن في أن الكثيرَ من الناس لا يرغبون أساسًا في تحريك عقولهم والاستفادة منها، إعمالُ العقل والاستفادة منه يثيران فيهم الوحشةَ والخوف، والسرّ في هذه الوحشة هو أننا لم نستثمر عقولَنا بشكل كامل، والحقيقة إذا تحركت من موقع العقلانية المحضة، ودخلت الميدان، واتبعت أحكام العقل فقط، فإن ذلك التحرك ربما يسوقك إلى وادٍ مخيف. الاستفادة من العقل تثقل كاهلَ الإنسان لأنها تجعله مسؤولا، ذلك ما قام به المفكرون العظام فهؤلاء قاموا بعمل عظيم يتلخص في تركيزهم الجادّ على استعمال عقولهم، والتواصل في هذا الميدان أثقل وأشدّ من ميدان القتال. يقول إيمانويل كانت: “تجرّأ على استعمال فهمك الخاص”، هذه خلاصة دعوة التنوير، أكثر الناس لا يستعملون فهمهم الخاص. هنا تكمن المشكلة والأهمية في الوقت نفسه، كيف يتجرأ المرءُ على اللجوء إلى عقله واستعمال فهمه الخاص، وكيف نجرّد المرءَ من تراكمات التاريخ، وإنقاذ كرامته المنتهَكة تاريخيًا وحاضرًا، ونحن أمام ذاكرة جمعية لا تقول إلا مزيدًا من محاصرته، وقد عملت ذاكرتُه، وهو حبيس الأيديولوجيا، على تزييف الأمور. من دون ذاكرة، ومن دون هذا التفسير الذي يبقى على الدوام مختلفًا جوهريًا عن الحياة اليوم المعبَّر عنها بسذاجة، ما كان لذلك الماضي أن يبقى محفوظًا لنا، كان من شأنه أن يحررنا من الحبس المؤبد. الذاكرة الأيديولوجية هي التي حفظت لنا الماضي، ذلك الماضي الذي رسم لنا صورةً للإنسان ليست إنسانية، صورة تحطّ من كرامته ومقامه الذي وضعه الله فيه، وكأن الإنسان بالنسبة إليها إنسانًا مفبركًا. وقد تمّ التعاملُ مع الدين والكرامة والإنسانية على أساس معادلة: إن الدين يساوي الشريعة، والشريعة تساوي الأحكام فقهية، والكرامة تدور مدار هذه الأحكام، والإنسان هو المسؤول عن تطبيق كلّ ما ورد في هذه الأحكام الفقهية، بعنوان أنه مكلَّف، لا بعنوان أنه إنسان مكرم! لابد من التميز بين الإنسان بما هو إنسان، والإنسان التاريخي (المكلَّف) بما هو مادة للدرس الفقهي، كما شرح ذلك الرفاعي في كتابه هذا. يتحدث الرفاعي عن صورة للإنسان في ضوء تفسيره للقرآن الكريم، فيكشف (عن بُعدين للإنسان، كلُّ بُعد منهما يُتخَذ موضوعًا لنوع من أحكامه: الأول: الإنسانُ الذي يعبر عن هوياته المتغيرة تبعًا لتغيّر الواقع الذي يعيش فيه، الإنسانُ بالمعنى الفيزيائي والانثربولوجي المتحول بوصفه صيرورةً وتشكّلًا مستمرًا في هوياته المتغيرة، الإنسانُ الذي يخضع لتحولات الظروف والأحوال وأنماط العيش. والثاني: الإنسانُ من حيث هو إنسان أبدي لا يتغيّر في كلِّ الظروف والأزمنة والأحوال، الإنسانُ بغض النظر عن هوياته المتغيرة. الإنسانُ خارج كلّ الهويات المجتمعية، الإنسانُ بوصفه كينونةً وجودية كونية لا تتغيّر مهما تغيّرت الظروف والأحوال والأزمان، ومهما تغيّر الواقع). ويرى الرفاعي بأن الإنسانَ بالمعنى الذي يعبر عن هوياته المتغيرة هو (الموضوع للأحكام الخاصة بعصر البعثة الشريفة وامتداداته الظرفية في زمان الخلفاء وأزمنة لاحقة مماثلة له، تشترك معه في مستوى تطور العلم والمعرفة والثقافة ونمط العيش ومختلف المعطيات السائدة في الواقع). والإنسان (بمعنى ما يكون به الإنسانُ إنسانًا بغضِّ النظرِ عن أي شيءٍ آخر يتدخل في تصنيفِه عرقيًا أو جغرافيًا أو اقتصاديًا أو ثقافيًا أو دينيًا… هو موضوعُ الكرامة والقيم الأخلاقية والروحية والجمالية الكونية المشتركة بين الناس كلّهم).
هذا هو المفتاح الأساسي في منهج الرفاعي الذي يعتمده في تفسير القرآن الكريم، وتقديم فهم لآياته يظل يتحدث للإنسان كل يوم.
وهنا ينبغي أن نشير إلى هذه النقطة المهمة، وهي أنه لا شيء من المعرفة أكثر ضررًا وألمًا من أن يتبدّل البحثُ الفكري إلى بحثٍ لفظي لا حاصل له، وذلك باستخدام ألفاظ واصطلاحات فضفاضة، أو بشكل مبهم وغامض بحيث تحتمل كلَّ معنى. اتباعَ مثل هذا المنهج في التعامل مع الدين والإنسان، ينتج صورةً لشبح الإنسان وليس حقيقة الإنسان. يكتب المؤلف: (في لاهوت المتكلمين يغترب الإنسان وجوديًا عن الله، لأن ذلك اللاهوت يبرع في نحت صورة لله تحاكي علاقة السيد بالعبد المكرسة في مجتمعات الأمس، الله في هذا اللاهوت تسلطي كما الملوك المستبدين، نمط علاقته بالإنسان كأنها علاقة مالك برقيقه، فهو يمتلك الناس كما يمتلك الأسياد الرقيق، ويمتلك أقدارهم، ويمتلك التصرف بكل شيء في حياتهم، وقد وُلدت عقيدة الجبر في أفق هذه الرؤية مبكرًا، وأصبحت منبعًا لشرعنة الأشكال المتنوعة للاستبداد في تاريخ الإسلام).
وقد أشاح الفقهُ بوجهيه القديم والحديث، عن أيّ مسعىً يستهدف قراءةَ النصّ الديني قراءة انثروبولوجية وهرمنيوطيقية تراعي السياقَ التاريخي السوسيولوجي والانثربولوجي والقيمي بحيث يأتي تفسيرُ تلك الآية (محايثاً) وليس (مفارقاً) لطبيعة الواقع الاجتماعي المعيش ذلك الوقت، ولم تقرأ بما ينسجم ومنهجية القراءة التاريخية لحضور الدين في الحياة الإسلامية.
غاب الإنسانُ وكرامتُه على وفق هذا الفهم في مدونات الفقه والكلام، لم يراجع أحدٌ ذلك، وأعادت المؤلفاتُ اللاحقة شرحَ المؤلفات السابقة، وكان الإنسانُ وكرامته ضحيةَ ذلك.
من هنا تكمن أهميةُ عمل المؤلف في استنقاذِ مفاهيم الدين والكرامة والإنسان في ضوء ما تقوله آياتُ القرآن الكريم، وتحريرِ فهمها مما طالها من تفسير يتحدث عن التاريخ، لا عن الواقع الذي يعيش فيه الإنسان اليوم زمن الحقوق والحريات.
أكتفي بهذا القدر من التعبير عن أهمية كتاب عبد الجبار الرفاعي الجديد، وإن كان المؤلفُ بحاجة إلى دراسة مستفيضة، تأخذ في اعتبارها المشروعَ الكامل لكلّ مؤلفاته للتعريف بالمنهج الذي يسير عليه، وقد ذكرتُ في مقال سابق أن مشروعَ الدكتور الرفاعي كُتب عليه ألا ينتهي، ولا يتوفر على إجابات نهائية، ذلك ما أخذه على نفسه، وهي ميزة تقرّ بها العلومُ الحديثة، اذ لا توجد أجوبة نهائية في حياتنا، وهو المنهج الذي يترجم احترامَ العقل وإمكانياته، بأن لا تفرض عليه إجابةٌ تغلقه، وتغلق عليه أبواب المعرفة الرحبة.
على وفق هذا الاستنتاج لا يمكن معرفةُ هذه المفاهيم باعتماد القراءات القديمة والتي لا تميز بين الإنسان بما هو إنسان، والإنسان التاريخي بما هو مادة للدرس الفقهي.
هذا الإنسان الذي أرّق الراحل د. حسن حنفي في تساؤله عن غياب الإنسان في تاريخنا الإسلامي، وهو ما جعل الرفاعي منزعجا مما تمّ تعريفُه وبيانه لماهية الإنسان في منظومتنا الفقهية والكلامية، وهو ما دفعه إلى تأليف هذا السِفر المهم الذي نأمل أن تهتمّ بموضوعاته معاهدُ التعليم الديني في الأزهر والزيتونة والقرويين والحوزات وكليات الدراسات الإسلامية.