الكاتب : صلاح الدين ياسين
مقدمة: من الإصلاح إلى النهضة:
يُعد كتاب “من الإصلاح إلى النهضة” من أبرز إصدارات الكاتب المغربي المعاصر عبد الإله بلقزيز، والذي صدرت طبعته الثانية المزيدة في العام 2014، عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. في تصدير الكتاب، يكشف المؤلف عن دوافعه من وراء هذا الإنتاج الفكري، والمتمثلة في تسليط الضوء على خطاب الحداثة العربية، الذي شهد اندفاعة غير مسبوقة، منذ ما سُمي بعصر “اليقظة العربية”، هذا قبل أن يدخل طور الانكفاء والانحسار، موازاةً مع تَجَدد الأفكار المستندة إلى التقليد. ومن هنا، يكتسي الكتاب أهميته من إعادة الاعتبار للخطاب الحداثي العربي، الذي طاله التهميش في الساحة الفكرية. فما سياق التأسيس التاريخي لفكرة الحداثة في المجتمعات العربية؟ ما أبرز تصنيفات وأشكال الخطاب الحداثي العربي؟ وكيف يمكن مقاربة حصيلة وصيرورة الحداثة العربية؟
السيرورة التاريخية للحداثة العربية:
يشير المؤلف إلى أن اللحظة التأسيسية للحداثة في الوعي العربي، لم تكن معزولة عن تأثير الحداثة الغربية. إذ شهد القرن التاسع عشر بداية احتكاك العرب والمسلمين بأوروبا وقيمها وثقافتها، في سياق المطامع الاستعمارية الأوروبية، التي دقت ناقوس الخطر في عدة بلدان عربية وإسلامية. واللافت أن دعاة الحداثة العربية، في شقيها الإصلاحي – الإسلامي والليبرالي، لم يجابهوا الخطر الاستعماري بالركون إلى السلبية، والتشرنق على الذات الحضارية المأزومة، وإنما انبروا للتساؤل عن الأسباب التي صنعت للمدنية الأوروبية شوكتها وغلَبَتَها، في مقابل تَخَلف أحوال المسلمين، ليتوصلوا إلى جملة من الأجوبة، من أبرزها تعطيل العقل النقدي، وانسداد باب الاجتهاد، والفقر العلمي والمعرفي، ناهيك بمعضلة الاستبداد السياسي… إلخ.
وبعد أن عرف الوعي الحداثي العربي اندفاعةً غير مسبوقة، طَوال الفترة التاريخية المسماة بـ “اليقظة العربية”، التي امتدت إلى مطالع القرن العشرين، ما لبث أن مُنيَ بانتكاسة أولية، في أعقاب ميلاد إيديولوجية “الإحيائية الإسلامية” ذات المنزع الأصولي، في ثلاثينيات القرن الماضي، والتي نادت بإعادة تأسيس الخلافة الإسلامية على إثر انهيار مركزها العثماني غداة الحرب العالمية الأولى. وهكذا، تَعَرض الخطاب الحداثي العربي إبان تلك الفترة لضروب من الحصار والتضييق، ولا أدل على ذلك المحاكَمات التي خضع لها بعض رموزه، على غرار طه حسين، بمناسبة صدور كتابه “في الشعر الجاهلي” (1926).
ومع بزوغ المشروع القومي التحرري في بعديه السياسي والثقافي، أثناء خمسينيات وستينيات القرن الماضي، سيكتسب خطاب الحداثة زخما نوعيا جديدا، في مقابل انحسار نقيضه، أيْ خطاب الأصالة المرتكز على التقليد، وخاصةً في حقول التعبير الأدبي والفني (= ثورة الشعر الحر، والرواية العربية، والحداثة الموسيقية والسينمائية… إلخ)، دون إغفال أنماط الإنتاج الفكري والنظري، في ظل سطوع تيارات جديدة في الفكر العربي، من قبيل الماركسية، والوجودية… إلخ. إلا أن فشل واحتضار المشروع القومي العربي منذ سبعينيات القرن الماضي (لجملة من العوامل لعل أوضحها النكسة العربية لسنة 1967)، موازاةً مع صعود حركة “الصحوة الإسلامية” وتغلغلها في أوساط المجتمعات العربية، قد آذن بانكفاء الخطاب الحداثي العربي أمام سطوة دعاة الأصالة والتقليد.
تصنيفات وأنماط الخطاب الحداثي العربي:
طَوال عصر اليقظة العربية، الذي امتد من القرن التاسع عشر إلى غاية مطالع القرن العشرين، عرف الخطاب الحداثي تقاطبا بين تيارين ممثلين له: تيار الإصلاحية الإسلامية، والتيار الليبرالي العربي. أما الأول فقد جسده مجموعة من رموز الفكر الإصلاحي الإسلامي، وفي جملتهم رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي. ولعل ما يطبع هذا الصنف من الخطاب عدم جنوحه إلى القطيعة التامة مع الموروث الحضاري الإسلامي، وهو ما انعكس في استحضاره الجوانب الحية في ذلك التراث (=عقلانية ابن رشد، اجتماعية ابن خلدون، مقاصدية الشاطبي… إلخ). كما لم يغفل دعاة هذا التيار الإصلاحي الانفتاح على بعض مكتسبات المدنية الغربية، وخاصةً ذات الصلة بالدولة الوطنية الحديثة، كنقيض موضوعي للدولة الدينية أو دولة الخلافة (انظر كتاب “الإسلام وأصول الحكم” لعلي عبد الرازق، الصادر في العام 1925).
أما فيما يتعلق بدعاة المقولة الليبرالية في السياق العربي، فبوسعنا الإحالة هنا إلى بعض رموزها على سبيل المثال لا الحصر، كفرح أنطون، وأحمد فارس الشدياق، وطه حسين، وأحمد لطفي السيد. لقد كان الليبراليون العرب، قطعًا، أقل صلة بالموروث التاريخي الإسلامي، مقارنةً مع الإصلاحية الإسلامية. وفي المقابل، أمعنوا في الدفاع عن كونية الحداثة، والتماهي مع النموذج الحضاري الغربي، من منطلق أن النسج على منوال الحداثة الغربية، هو السبيل الوحيد أمام المجتمعات الإسلامية للحاق بركب العصر، والانخراط في عملية البناء الحضاري، والفكاك من أوضاع التخلف والانحطاط.
وصولا إلى التيار الفكري الذي يسميه الكاتب ب “العقلانية النقدية” (من أبرز ممثليه محمد عابد الجابري، علي أومليل، هشام جعيط، إدوارد سعيد)، والذي أنهى حالة التقاطب التي عمرت طويلا بين الليبراليين والإصلاحيين الإسلاميين. وهكذا، فقد عنيَت العقلانية النقدية العربية بنقد العقلين الإسلامي – الأصولي والغربي على السواء، صدورًا من رؤية أكثر موضوعية ونسبية، إذ انصرف ممثلو ذلك التيار إلى نقد ومساءلة تراثنا التاريخي (مشروع الجابري في نقد العقل العربي كمثال)، من دون أن يحجموا عن نقد العقل الغربي، الذي نظروا إليه نظرة نسبية بعد تجريده من طابعه المطلق، كما تَمَثله الليبراليون العرب. غير أن ما يؤخَذ على هذا التيار، مثلما يرى بلقزيز، إفراطه في النقد الذي يبلغ أحيانا حد العدمية، فضلا عن غياب التناغم والانسجام، لجهة تَعَدد اتجاهاته الفكرية والنظرية.
مآلات العقلانيات الحداثية العربية:
عند التمعن في حصيلة ومآلات تلك الأنماط الثلاثة من الخطاب الحداثي، يستنتج الكاتب أن العقلانية الإسلامية – الإصلاحية كان تأثيرها وسلطانها أكبر من العقلانية الليبرالية ذات المنزع التبشيري، بحكم انتسابها (أيْ الإصلاحية الإسلامية) إلى المنظومة المرجعية الثقافية للإسلام، وبالتالي كانت أقل عرضة لسطوة ومقاوَمة قوى التقليد. غير أن مشروع الإصلاحية الإسلامية، سرعان ما سيدخل نفقا مسدودا لجملة من الاعتبارات، لعل أهمها انهيار الحاضنة السياسية لذلك المشروع (تجربة محمد علي في مصر على سبيل المثال لا الحصر)، إذ حاولت النخب الإصلاحية في بعض الدول الإسلامية (تركيا، مصر، تونس، المغرب)، إبان القرن التاسع عشر، المبادَرَة بإجراء إصلاحات لـ دفع الخطر الاستعماري، متوسلة (أيْ النخب الإصلاحية) بالإنتاج الفكري للإصلاحيين في مواجهة ممانعة القوى المحافظة. غير أن سقوط تلك الدول في قبضة الاحتلال، أفقَدَ الخطاب الإصلاحي جاذبيته لدى العديدين، مفسحًا المجال لمقولة دفاعية إحيائية متقوقعة على الذات الحضارية.
وهكذا، نخلص إلى أن الحداثة الفكرية لم يتم استنباتها بعد في تربة المجتمعات العربية والإسلامية، لجملة من العوامل الذاتية والموضوعية. وهنا ينبه الكاتب إلى المفارقة التي سبق أن أشار إليها عبد الله العروي، ومفادها أن المجتمعات العربية، وإنْ كانت تقبل بالتحديث (الذي يطال الجوانب المادية، كالإقبال بشراهة على استهلاك أفخم المنتجات الغربية الحديثة من هواتف وسيارات…)، فإنها ترفض الحداثة بما هي رؤية فكرية وفلسفية جديدة، تقطع مع المعتقدات واليقينيات السابقة إزاء جملة من المواضيع (النظام السياسي، العلاقات الاجتماعية، المعرفة، الأخلاق… إلخ). هذا بالرغم من أن التحديث، هو في المحصلة، ثمرة للحداثة (= يعزى التقدم العلمي والتقني، الذي أحرزته الدول الغربية إلى ظهور النظريات العلمية الحديثة، وإسهامات الفلسفة الوضعية في القرن التاسع عشر). كما يشدد المؤلف على وجوب تَجَنب الخلط بين الحداثة والتغربن، الذي يرادف المحاكاة الفجة للغرب والكسل المعرفي، ذلك أن الحداثة تفترض القدرة على الإبداع والتجديد الذاتي، وليس مجرد الاقتصار على استهلاك وتقليد حداثة الآخَرين.