بقلم: ذ. أحمد الريسوني .
قبل أربعة عقود، وفي مثل هذه الأيام من شهر ذي الحجة، كنت أجلس مع صديقي الملحد… -ونحن يومئذ تلاميذ بالثانوية المحمدية بمدينة القصر الكبير– وإذا به يبادرني بقوله: ألا ترى أن عيد الأضحى يتسبب كل سنة في نكبة اقتصادية وخسارة فادحة للثروة الحيوانية؟
نظرت إليه وهو يمص سيجارته، وقلت له متهكما: وهذه السجائر التي تستهلكها أنت وأمثالك، أليست كارثة وخسارة حقيقية بجميع المعاني؟
واستمر النقاش بيننا واحتد، وأسمعني صديقي ما عنده وأسمعته ما عندي، ثم مضى كل منا في طريقه…
كنا يومها مجموعة من الأصدقاء المتألقين على صعيد مدرستنا الثانوية، وكنا مثقفين ومسيسين في وقت مبكر من أعمارنا. لكننا في النهاية انقسمنا إلى مجموعتين: مجموعة مؤمنين، ومجموعة ملحدين. وطالت المناظرات والسجالات في لقاءاتنا لعدة سنوات، إلى أن تفرقنا في الجامعات ودروب الحياة.
في ذلك الوقت كان أصدقاؤنا الملحدون، ومِن ورائِهم بعض الأساتذة المغربيين والفرنساويين، يقصفوننا وسائرَ التلاميذ، بوابل من المقولات المزلزِلة، خاصة تلك الصادرة عن فلاسفة مشاهير يقام لهم ويقعد. فهذا نبي الاشتراكية العلمية كارل ماركس يطلق مقولته المدوية: “الدين أفيون الشعوب”، وهذا فريديريك نيتشه الفيلسوف المتمرد يعلن “موت الإله”، وأنه على ذلك من الشاهدين. وذاك تشارلز داروين “يكتشف” أن الإنسان ليس سوى حيوان متطور تطورا طبيعيا، ويقرر بناء على ذلك بطلان عقيدة الخلق والمخلوق والخالق…
كان عدد من فلاسفة النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والنصفِ الأولِ من القرن العشرين، يسيرون في هذا الاتجاه، ويعلنون موت الإله ونهاية الأديان، وبداية عصر ألوهية الإنسان، الذي أصبح الإله الفعلي الوحيد في هذا الكون. ثم يأتي بعض أصحابنا يلهثون وراءهم ويرددون صداهم… وكان أبرزهم وأجرأهم في ذلك هو الكاتب المصري سلامة موسى، الذي سَوَّق في كتاباته كل الأفكار والنظريات الإلحادية السائدة في أوروبا. ولما ألف نجيب محفوظ روايته الشهيرة (أولاد حارتنا)، اعتبرها بعض النقاد بمثابة الإعلان العربي عن موت الإله، وأنها لأجل ذلك استحقت جائزة نوبل للآداب عن سنة 1988.
ثم جاء دور الشاعر السوري أدونيس -واسمه الحقيقي “علي أحمد سعيد إسبر”- الذي خاطب جمهوره ذات يوم قائلا: “لم يعد لله ما يقوله لنا”. أي أن الله والدين لم يبق لهما دور، ولم يبق لهما مكان في عالم اليوم.
ثم دار الزمان سريعا، فإذا أدونيس هذا يتحدث مؤخرا لقناة “سي إنْ إنْ” الأمريكية، حول الربيع العربي وما يجري في سوريا خاصة، فقال: “يشكل الدين والشعر المحور العصب الرئيسي لثقافتنا، ولكنهما كانا بحالة صراع على الدوام، وللأسف فإن الدين اليوم يتغلب على الشعر”.
هل الدين في حالة صراع مع الشعر، كما يرى صاحبنا، أو هو في صراع مع الفكر الإلحادي؟ أم أن الشعر كله حل في شاعرنا العتيد، وأن أدونيس هو الشعر نفسه؟
وسواء كان الدين يتغلب اليوم على الشعر، أو على الإلحاد واللادينية، فالمهم أن أدونيس الذي أعلن بالأمس أن “الله لم يعد له ما يقوله لنا”، هو نفسه الذي يتأسف ويعترف أن “الدين اليوم يتغلب…”.
والحقيقة أن الدين متغلب على الدوام، حتى في أزهى فترات الإلحاد. فنحن حين نتحدث عن الإلحاد والملحدين، إنما نتذكر أسماء محدودة ونظريات محددة، وربما قرأنا عن أقطار معينة، قد يكون فيها اليوم من الإلحاد واللادينية أكثر مما فيها من الإيمان والتدين. ولكن ما موقف البشرية كلها؟ وأين شعوب الأرض من هذا وذاك؟ أين ملايين العلماء والعقلاء والمثقفين والمفكرين؟
ونحن في المغرب أيضا، نسمع بين الفينة والأخرى عن شباب لادينيين ينشطون على شبكة الإنترنت، بعضهم يرفعون شعار: “ما صايمينش”، وآخرين -أو هم أنفسهم- يقولون: “ما مصليينش”، وهم كذلك يعلنون: “ما معيدينش”…1، ولكن هذا الصيحات كلَّها لم تخفف من الاكتظاظ في المساجد المغربية، ولم تغير شيئا من نمط الحياة في رمضان، ولم تؤد إلى بوار الأكباش أو انهيار أسعارها في الأسواق.
وقبل سنوات تحدثَتْ بعض الصحف المغربية عن شخص مغربي الأصل، وهو لاجئ بأوروبا، أعلن أنه شرع في ترجمة القرآن الكريم إلى العامية المغربية، بغية تجريده من قداسته ومن هالته العربية الفصحى، التي هي ميزته وعنصر قوته الوحيد في نظره… وقد اتصل بي يومها أحد الصحفيين يسألني عن مدى خطورة هذا الأمر وعن تداعياته المحتملة، ويطلب مني الرد عليه… فقلت له ما معناه: هذه فقاقيع وبالونات أطفال لا اقل ولا أكثر، وعما قريب سيختفي خبرها وأثرها، ويبقى القرآن هو القرآن والدين هو الدين.
ولقد نسي هذا المترجمُ العاميُّ، أن القرآن مترجم فعلا إلى كل لغات الأرض المنتشرة، ولم يؤثر ذلك على قداسته ومكانته وهالته عند أهل تلك اللغات، وأن الذين يحفظونه ويتلونه من غير العرب هم أكثر بكثير من العرب، وهؤلاء لم تجذبهم إليه لا فصاحته ولا بلاغته ولا هالته البيانية.
1- بمعنى أنهم يرفضون الصلاة والصيام وعيد الأضحى، أي يرفضون الدين والتدين.