* الشيخ كمال عمارة
رئيس المجلس الأوروبي للأئمة
جمال اللغة العربية وتميزها بين اللغات | اللغة العربية بين شرف الأصل وتحديات العصر.
لا يمكن الحديث عن جمال اللغة العربية وتميزها عن سائر اللغات دون ربطها بالقرآن الكريم وذكر ما ورد في شرفها في الذكر الحكيم. فشهادة الله لها هي أزكى شهادة واختيارها لتكون وعاءً للقرآن الكريم هو أعظم تزكية وأبلغ دليل على التميز والريادة. وقد وردت الإشادة باللغة العربية من خلال التذكير بأنها لغة الذكر الحكيم في أحد عشر موضعا في القران الكريم كقوله تعالى:
{قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 28]
{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3].
{إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3].
{وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103].
كما شَرُفت العربية بأن كانت لسان خاتم الأنبياء وسيد الحكماء، وخير من صاغ الكلام وأحكم الأحكام وعلّم الأنام، محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وصدق أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:
إن الذي ملأ اللغات محاسنا * جعل الجمال وسره في الضاد
قال مصطفى صادق الرافعي، رحمه الله: “إن هذه العربية بنيت على أصل سحري يجعل شبابها خالداً عليها فلا تهرم ولا تموت، لأنها أعدت من الأزل فَلكاً دائِراً للنيِّرين الأرضيين العظيمين (كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ومِن ثَمَّ كانت فيها قوة عجيبة من الاستهواء كأنها أخذة السحر”، ( تحت راية القرآن، مصطفى صادق الرافعي) .
وقد اتسعت العربية بجمال نظمها واتساق لفظها وثراء مادتها وتوسع اشتقاقاتها، إلى أن تحتوي أجمل ما خلدته الإنسانية من من موادَّ أدبيةٍ وإبداعات فنية وكشوفات علمية، فبقيت البشرية دهرا من الزمن عالةً على ما تقدمه هذه اللغة من كشوفات وفتوحات، واتخذتها اللغات الأخرى جسراً تعبر من خلاله إلى الثورات والإنجازات اللاحقة في ميادين العلوم والمعرفة، بعد أن تنكر أهل العربية للغتهم وجدبت قرائحهم من أن ينهلوا من معينها أو يستنطقوا مكنونها، ولقد صور شاعر النيل حافظ إبراهيم، رحمه الله تعالى، الحال الذي آلت إليه اللغة العربية بعد أن تنكر لها أغلب أهلها وتوجهت لها سهام الهدم والتشكيك فقال على لسانها:
رَجَعتُ لِنَفسي فَاتَّهَمتُ حَصاتي * وَنادَيتُ قَومي فَاحتَسَبتُ حَياتي
رَمَوني بِعُقمٍ في الشَبابِ وَلَيتَني * عقِمتُ فَلَم أَجزَع لِقَولِ عُداتي
وَلَدتُ وَلَمّا لَم أَجِد لِعَرائِسي * رِجالاً وَأَكفاءً وَأَدْتُ بَناتي
وَسِعْتُ كِتابَ اللَهِ لَفظاً وَغايَةً * وَما ضِقْتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ
فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ * وَتَنسيقِ أَسْماءٍ لِمُختَرَعاتِ
أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ * فَهَل سَاءلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي
إلى أن يقول رحمه الله:
إِلى مَعشَرِ الكُتّابِ وَالجَمعُ حافِلٌ * بَسَطتُ رَجائي بَعدَ بَسطِ شَكاتي
فَإِمّا حَياةٌ تَبعَثُ المَيْتَ في البِلَى * وَتُنبِتُ في تِلكَ الرُموسِ رُفاتي
وَإِمّا مَماتٌ لا قِيامَةَ بَعدَهُ * مَماتٌ لَعَمري لَم يُقَس بِمَماتِ
لقد تيسر للغة العربية من أدوات الحفظ وعوامل البقاء ما لم يتيسر لغيرها من اللغات، فقد تكفل الله بحفظها من خلال حفظ القران الكريم، هذا الكتاب الذي يحفظه الناس على اختلاف أجناسهم وألوانهم وألسنتهم، وكانت معرفتها شرطا لتذوق القران وفهم درره والغوص في أعماقه، مما جعل تعلمها يخرج من دائرة الحاجة المعرفية إلى نطاق الوجوب الديني والسلوك التعبدي.
رُوي عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال:
” تَفَقَّهُوا فِي السُّنَّةِ، وَتَفَقَّهُوا فِـي الْعَرَبِيَّةِ، وَأَعْرِبُـوا الْقُـرْآنَ فَإِنَّهُ عَرَبِيٌ”، (مصنف ابن أبي شيبة).
وقال ابن تيمية – رحمه الله تعالى-: “اعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيراً قوياً بيناً، ويؤثر أيضاً في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق، وأيضاً فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”. (اقتضاء الصراط المستقيم ، أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ النُّمَيْرِيُّ الْحَرَّانِيُّ ت 728هـ)
وقال أبو منصور الثعالبي: ” والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال عليها وعلى تفهمها من الديانة، إذ هي أداة العلم”. (فقه اللغة وسر العربية، أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي ت 429 هـ)
ولقد كان ارتباط العربية بالقران عامل قوة ونماء، وامتداد تأثيرها لسائر اللغات، فلا تجد اليوم لغة إلا وبها أثر من العربية، حتى اللغة اللاتينية، الأم الكبرى للغات الأوروبية الحديثة، ففيها الكثير من الكلمات ذات الأصل العربي. ومن آثار هذا الارتباط أيضاً، تلك الشعوب والأجيال التي عربها الإسلام وسخرها لحمل رايتها، بل إن أعظم علماء العربية الذين أصلوا لها وقعدوا قواعدها كانوا من المتعربين الوافدين عليها عبر الإسلام من الشعوب الأخرى والألسنة المختلفة، كسيبويه ( عمرو بن عثمان بن قنبر ت180هـ، فارسي الأصل ) الذي يضرب به المثل في إتقان العربية، وابن أبان الفارسي ( الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، فارسي أيضاً، ت 377هـ)، وابن جني ( أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي، من أصل رومي ت392هـ )، وابن فارس ( أحمد بن فارس بن زكريا بن محمد الرازي، القزويني ، ت395 هـ )، والزمخشري، (أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمرو الخوارزمي الزمخشري، ت 538 هـ)، وغيرهم ممن ألفوا فيها أو بها وأَثْروا التراث الإنساني بحروفها ومفرداتها.
قد يطول الكلام في شرف اللغة العربية وسموها، ولا يتسع لذلك المقام، غير أن ذلك لا يحجب حقيقة معيشة اليوم، وهي أن اللغة العربية تعيش حالة إهمال من أهلها، واستهداف من خصومها، في ظل الركود الحضاري الذي يعاني منه العرب. غير أن فيها من مقومات الصمود ما يجعلها مستعصية على الإضعاف أو الإفناء فهي خالدة خلود القرآن ومتجذرة في أعماق الوجدان.
أبناؤنا في أوروبا واللغة العربية:
ومن التحديات التي تواجه بعض العرب والمسلمين في علاقتهم باللغة العربية، تلك المترتبة على الحياة في الغرب، وما يفرضه عليهم ذلك من صعوبات في الارتباط بلغتهم والتشبع بها وتنشئة الأجيال عليها، فقد راينا شباباً منهم لا يستطيعون فهم الجمل البسيطة ولا يقدرون على التعبير عما يختلج في نفوسهم بلغتهم العربية الأم، ويندر أن يقام نشاط للشباب باللغة العربية في بلد أوروبي دون الاستعانة بمترجم، يترجم للعرب ما يقال بلغتهم إلى اللغة الأوروبية! بل لقيتُ ابنةَ اثنتي عشرة سنة لم تفهم تحية الإسلام ولم تستطع لها جوابا! وهذا مما ينذر بالخطر ويوجب أشد الحذر.
كما يحتم على المعنيين بالأمر، في خاصّة أنفسهم أو فيمن يلون أمرَهم، أن يجدوا الحلول لتجاوز هذه الصعوبات وتوفير البدائل المناسبة لملء الفراغ في ممارسة اللغة العربية وتعلمها وتعليمها. ومن خلال التجارب المتلاحقة للمسلمين في الغرب، يمكن الإشارة إلى هذه المقترحات العملية للحفاظ على الهوية اللغوية والدينية لأطفال العرب والمسلمين في البيئات غير العربية.
أولًا: توجيهات للأسرة للحفاظ على اللغة العربية لدى الأطفال والشباب:
تعتبر الأسرة المحضن الأول للتربية والتأهيل اللغوي، وترسيخ الهوية الدينية واللغوية للأطفال، وإن كان ذلك قاعدة عامة في كل زمان ومكان فهي مهمة اشد أهمية وأكثر إلحاحاً للأسر الموجودة في بيئة لا تدين بدينها ولا تتحدث لغتها، ومن أهم المسأئل الواجب مراعاتها في هذا السياق:
تنشئة الأطفال على حب اللغة العربية وتشجيعهم على الاعتزاز بها، وترسيخ فكرة جمالها وتميزها بين اللغات.
الحرص على التحدث باللغة العربية في البيوت، وأن تكون أول ما يفتح الأطفال عليها أبصارهم وتتشنف بها أسماعهم وتتحدث بها ألسنتهم، ويجب أن يكون لدى الأولياء من الحزم والصبر ما يجعل ذلك قاعدة أسرية لا يسع الأطفال مخالفتها، وبخاصة في المراحل العمرية المتقدمة عندما تتمكن منهم اللغات الأخرى عبر التعلم في المدارس والبيئة الخارجية.
الحرص على أن لا يتحدث الطفل غير العربية في سنواته الثلاث الأولى، وتجنب إدخاله إلى رياض الأطفال غير العربية، حتى لا تتشوه لغته وتنحرف سليقته اللغوية. وليعلم الأولياء أن هذا من أفضل الاستثمار في الحياة فلا يقدموا عليه مكاسب مالية أو طموحات مهنية، وقد رأينا بعض الأولياء قد آثروا الاهتمام بمعادلة شهاداتهم أو تنمية أعمالهم ورموا بأبنائهم في حضانات الأطفال، فريسة للانفصام اللغوي والنفسي والانحراف الفكري، ولم يجنوا بعد ذلك إلا الندم والحسرة.
تعليم الأطفال الحروف والمبادئ الأساسية للغة العربية منذ نعومة أظفارهم والاستعانة على ذلك بالوسائل المحببة والوسائط الإلكترونية والتطبيقات الحديثة. ويعتبر متن القاعدة البغدادية أو النورانية من أفضل ما يُبتدأ به في هذا المجال، مع الحرص على اختيار النسخ الحديثة الميسرة.
توفير القنوات التلفزيونية العربية الخاصة بالأطفال.
تحفيظ الأطفال القرآن الكريم وتعويد أسماعهم عليه، فهو أحسن وسيلة للتمكن من اللغة العربية والتعود عليها نطقا وسماعاً، ويجب المبادرة الى ذلك منذ السنوات الأولى من العمر حتى قبل ان يستوي نطق الطفل، لأن الاستماع والمتابعة يرسخ في ذاكرة الطفل أحرف العربية ومفرداتها ونسقها، ويسهل انطلاق اللسان بها في وقت أبكر وطريقة أجود. ويعتمد في المراحل الأولى، عند عدم القدرة على القراءة أسلوب التلقين، ثم أسلوب القراءة المباشرة والتكراروقد ثبت بالتجربة أن دوام سماع الأطفال للقران الكريم قبل مرحلة النطق ومتابعة المصحف بالنظر يساعد على سرعة الحفظ وسعة الذهن في المراحل العمرية المتقدمة.
تشجيع تكوين الصداقات بين الأطفال الناطقين باللغة العربية، وتيسير السبل لذلك.
تسجيل الأطفال في مدارس آخر الأسبوع التابعة للمراكز والجمعيات الإسلامية، والخاصة بتعليم اللغة العربية والثقافة الإسلامية.
توفير الكتب والمجلات العربية الخاصة بالأطفال وتشجيعهم على قراءتها.
الحرص على المشاركة في مسابقات اللغة العربية المحلية والدولية.
الحرص على قضاء العطلات في البلدان الناطقة باللغة العربية، وتخصيص جزء من العطلة لدراسة اللغة في الدورات المتخصصة والنشاطات المتنوعة.
تسجيل الأطفال في المدارس التي تخصص حصصا إضافية لتعليم اللغة العربية.
قضاء سنة دراسية أو أكثر في بلد عربي في المراحل العمرية الأولى ما بين ست سنوات واثنتي عشرة سنة، وهذه من أكثر الوسائل فعالية في التمكن من اللغة العربية نظريا وعملياًّ، وربط الأجيال المولودة في الغرب بالثقافة الإسلامية. وقد ثبت بالتجربة أن هذا لا يؤثر سلباً على التحصيل الدراسي للأطفال عند عودتهم إلى مقاعد الدراسة في بلدان إقامتهم، وبخاصة إذا حرصوا في هذه الفترة، على متابعة برامج تكميلية لتدارك الانقطاع المؤقت عن المنهاج الدراسي باللغة الأجنبية.
تشجيع الشباب على الاستفادة من برنامج التبادل الثقافي بين الدول، وقضاء سنة دراسية باللغة العربية، أو في بلد عربي.
ثانيًا: توجيهات للمؤسسات والمساجد للمحافظة على اللغة العربية للاطفال والشباب وتدعيمها
تحتل المساجد والمراكز الإسلامية مكانة مهمة في حفظ هوية المسلمين ورعاية مصالحهم وتحصين الناشئة من الانحرافات العقائدية والأخلاقية، كما تضطلع بدور متقدم في تعليم اللغة العربية وتوفير المناهج التعليمية الخاصة بالأطفال. ومن أهم ما يجب أن يهتم به القائمون عليها في هذا المجال:
تنظيم تدريس العربية للمراحل العمرية المختلفة أواخر الأسبوع في أيام العطل
توفير المناهج المناسبة والطرق البيداغوجية التي تواكب العصر وتضاهي تلك المعتمدة في المدارس الأجنبية، وذلك لتحبيب الأطفال في اللغة العربية وتحفيزهم على تعلمها.
تأهيل المدرسين وتكوينهم لمراعاة خصوصية واقع الأطفال العرب في البيئة الغربية وما يقتضيه ذلك من تطوير الوسائل وتحديث المناهج واعتماد الحكمة والمرونة في تنزيل البرامج ومتابعتها.
إنشاء المدارس القرآنية والحرص على تعليم القران وتحفيظه لكل الفئات العمرية.
الاستفادة من الامتيازات المادية والعلمية التي تقدمها الدولة للبرامج التعليمية الرديفة، والعمل بمقتضى الأنظمة المعتمدة، وعدم مخالفة القوانين بأي شكل من اأشكال.
توفير الكتب والمجلات والبرامج الإلكترونية باللغة العربية.
تخصيص قاعة للمطالعة وإنشاء مكتبة لبيع المواد باللغة العربية.
إقامة المسابقات في مجالات المطالعة والكتابة والخطابة لكل المراحل العمرية.
إقامة معارض للخط العربي وما يتعلق باللغة العربية وعلومها.
إقامة دورات تعليمية للخط العربي.
تيسير المشاركة في المسابقات العالمية للخط والمطالعة وغيرها من فنون العربية، كمسابقة تحدي اللغة العربية العالمية المقامة سنويا في دبي.
عقد اتفاقات تعاون مع المؤسسات التعليمية في البلاد العربية للاستفادة من مواردها وإمكاناتها.
تزيين المراكز بلافتات لعيون الحكم ونفائس الكلم باللغة العربية، مما يسهل حفظه ويكثر نفعه.
المحافظة على إقامة الجمعة والمناشط الدورية باللغة العربية، وأن تكون البرامج باللغة المحلية رديفة لها لا بذلا منها.
إنشاء فرق إنشاد للأطفال والشباب باللغة العربية.
قد تبدو هذه الحلول صعبة، وتحتاج كثيرا من الجهد والوقت والمال، لكن لا مندوحة عنها إذا أردنا الحفاظ على هوية المسلمين الدينية واللغوية في البلاد الغربية، وترسيخ الاعتزاز بالانتماء لدى الأجيال الناشئة، ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر.
*الشيخ: كمال عمارة «رئيس المجلس الأوروبي للأئمة»