بقلم زهير دادي
في التقديم
يشير المعد والمقدم عبد الرحمان زكري في مقدمة هذا الكتاب الذي وسمه بعنوان: هكذا تكلم محمد بنسعيد، إلى إشكالية التجنيس، حيث يعترف بصعوبة ذلك، مؤكدا على أن الكتاب، وإن كان يندرج ضمن السيرة الذاتية، غير أنه يتقاطع مع أجناس أدبية أخرى في إطار التمفصل والتماهي. ومن هنا تبدأ صعوبة التلقي، إذ يجد القارئ نفسه أمام تحدي قائم ألا وهو طبيعة الكتاب الذي هو بصدد قراءته، وما إذا كان يندرج ضمن جنس المذكرات، أم السيرة الذاتية وما بينهما. والحال أن المقدمة كذلك تشير إلى تقاطعات المتن ما بين التاريخي والفكري والسياسي. هذا الخلط وعدم الوضوح، راجع إلى طبيعة الرجل محمد أيت إيدر واهتماماته المتعددة ومساره الحافل، كما يعود كذلك إلى التداخل الحاصل بين مواد العلوم الإنسانية فيما بينها، وبين العلوم الإنسانية من جهة أولى، والعلوم الاجتماعية من جهة ثانية. والخلط كذلك، قد يكون بنية مبيتة من قبل المعد والشخصية المحورية أيت إيدر، وهو تواطؤ جميل، وذلك قصد إضفاء نوع من التشويق على الأحداث التي سيعالجها في الكتاب عبر فقراته المتعددة. إنه خلط محبب يهدف إلى تكريس أفق توقع، يختلف لا محالة من متلقي إلى آخر. والحال، أن المتلقي نفسه، سيعدل أفق توقعه بين الفينة والأخرى، وهو يتابع مجريات النص، إذ سيقرأ أحداثه، على ضوء السيرة الذاتية تارة، والرواية التاريخية تارة ثانية، والشهادة التاريخية تارة ثالثة، وكذا الوثيقة التاريخية مرة رابعة. إنه ارتباك محبوب، تفرضه طبيعة النص على القارئ حتما.
العنوان الأفَّاق
يتضمن الكتاب 428 صفحة، هي عبارة عن سرد طويل، صفحات تخترقها صور المناضل محمد بن سعيد أيت إيدر بمعيّة شخصيات سياسية وفكرية وقامات نضالية، بالإضافة إلى بعض الاعترافات التي ذُيِّل بها الكتاب، وهو كتاب من منشورات مركز محمد بن سعيد أيت إيدر للأبحاث والدراسات بالدار البيضاء، الطبعة الأولى لسنة 2019.
“هكذا تكلم محمد بنسعيد…” العنوان الأثير، الذي يحيل على الكتاب المركزي والمؤسس الذي ألفه الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه “هكذا تكلم زرادشت” والذي يتكلم فيه نيتشه وينشر أفكاره ويرسخها في ذهن المتلقي على لسان زرادشت. طبعا هناك فرق كبير بين الكتابين، بل وبين كل من أيت إيدر ونيتشه، غير أن هذا العنوان المنتقى بعناية كبيرة، يحاول أن يرسخ في ذهن المتلقي مسألة مهمة: محمد أيت إيدر أحد قادة جيش التحرير، المناضل الميداني والسياسي الكبير، يستطيع أن يتجاوز الأحداث العابرة، ليسقط في معين الفكر، حيث لا يقف عند التواريخ والسنوات والأحداث، بقدر ما يحلل ويتحدث عن السياق، ويربط الفكري بالسياسي والنضالي بالتاريخي، من أجل استشراف المستقبل. إن الوقوف عند أحداث بعينها لا يعني العودة إلى الماضي والتقوقع فيه، بل لاتخاذه وسيلة وذريعة لقراءة الواقع والتكهن بما هو قادم.
هكذا تكلم محمد بنسعيد، وهو الذي تكلم فعلا في النص الذي يحمل عنوانُه اسم المؤلف والشخصية المحورية أيضا، وهو ما ينم عن نوع من التماهي بين الكاتب والشخصية الرئيسة والسارد مجازا.
مقارنة لا بد منها
انتظر الفاعل السياسي المغربي كثيرا كي يكتب عبدالرحمان اليوسفي، مهندس التناوب التوافقي والوزير الأول السابق مذكراته. وعندما تحدثت الصحافة المغربية عن شروع اليوسفي في التدوين والكتابة، تساءل الكثير من المتتبعين عن الموعد؛ موعد صدور المذكرات. الفاعل السياسي المغربي، سطحي في أغلب الأحيان، يتماهى مع الواقع المعيش، غير عميق، يتلقف الجاهز من الأجوبة السياسية، دون أن يخوض في عمق الإشكالية.
بعد وفاة الملك الحسن الثاني، صدر عبد الله العروي مذكراته، بعنوان خواطر الصباح بأجزائها الثلاثة، وهي مذكرات تغطي فترة زمنية مهمة من تاريخ المغرب الحديث، وقائع يستهلها العروي بحصول المغرب على الاستقلال، وينهيها بوفاة الحسن الثاني. المؤرخ التاريخاني، وبعين المثقف الشمولي والسياسي المخبر والمعايش لكبار السياسيين، يكتب إذن مذكرات طازجة، في اللحظة نفسها. إن الخواطر، حتى وإن كانت للذكرى وللإيضاح، فإنها ترزح في المقابل تحت ثقل الرجل ومكانته المتميزة في المشهد السياسي والثقافي الفكري. إنها خواطر متابعة للفعل اليومي، لحظة بلحظة، إذ يحيل العروي دائما على الْيَوْم والسنة وكذا المكان الذي دَوَّن فيه الخاطرة، ما يجعلها محايثة للحظة الزمنية للحدث. لم يتخذ العروي مسافة بينه وبين الحدث، كي لا يحُول الزمان بينه وبين الوقائع، ولكي لا ينقله وهو متأثر بالنوستالجيا وثقل التذكر والذكرى. إن الذكرى خائنة، تتلون وتتأثر بالتقدم في السن والابتعاد عن سياق الحدث، وهذا ما لم يسقط فيه العروي المتسلح بالمنهج التاريخاني الهيغلي.
عبد الرحمان اليوسفي، رجل أنهكه الزمن والمرض وثقل التناوب والانشقاقات الداخلية وجيوب المقاومة والتراجع عن المنهجية الديمقراطية. على هذا الأساس، فمذكراته لم تكن بوحا، بل راعت مجموعة من التوازنات وثقل التاريخ، توازن المرحلة ورهانات وسيناريوهات المستقبل. السياسي يكذب، لأن السياسة هي فن الممكن. إن الجلوس لساعات طوال أمام شخص آخر لكتابة المذكرات، هو بمثابة تذكر، والتذكر في حد ذاته يخضع للشجن والأهواء والتأويل. إن البعد عن الحدث، يجعل من تذكره قراءة تأويلية خائنة للسياق الذي أوجد الحدث. التذكر، هو قراءة ثانية للحدث، بل قراءات متعددة، بعد أن كانت له قراءة واحدة ووحيدة من قبل المعني في وقت سابق. وعليه فما جاد به اليوسفي في السنة الماضية، يُحسب له وعليه كذلك. من إيجابيات المذكرات أنها تفتح آفاقا للأجيال الذين لم يعايشوا المرحلة، لكي يتعرفوا عن قرب على حيثيات رجل خبر المعارضة والمشاركة في التدبير، السجن والمنفى والمهادنة أيضا. وفِي المقابل فإن المذكرات هنا، قد خيبت آمال الكثيرين، خاصة سياق القبول بمنصب الوزير الأول، الذي انتظر الكثيرون بوح اليوسفي، خاصة بَعد موت الحسن الثاني، وبُعدِ السياق. غير أن اليوسفي، وكعادته قد قفز على أهم وأدق المراحل الحساسة في تاريخ المغرب الحديث، إنها لحظة انتقال الحكم: لقد مات الملك، فعاش الملك.
صرامة المنهج وسلاسة الأسلوب الأدبي الذي يتميز به عبد الله العروي، جعل مذكراته متميزة، رصينة واحترافية، تتراوح بين الخاطرة والشهادة التاريخية. والحال أن اليوسفي، وهو يعتمد على شخص آخر للتدوين، قد جعل المصطلحات المعتمدة في السرد مشوشة، على الأقل على المستوى النظري الصرف، حيث التفكير شيء، وتفريغه في كتاب اعتمادا على اللغة، شيء آخر. وعليه، فإن الاحتفاء بالمذكرات عِوَض الخواطر، باليوسفي بدل العروي، ينم عن فقر فظيع على مستوى القراءة والتلقي لدى السياسي المغربي. ولقد استطاع محمد بنسعيد أيت إيدر، المزاوجة بين الأسلوبين، أسلوب العروي واليوسفي معًا. لقد كتب بنسعيد المذكرات بنفسه، غير أنه قد كتبها بصيغة التذكر. إن اللغة التي كتب بها بنسعيد هي لغة أنيقة، لكنها لغة مشحونة بالتحولات الكبرى التي عرفها الرجل في حياته، من زمن البندقية، إلى زمن المنفى والسجن، فزمن النضال الجماهيري والمؤسساتي. إن مسار الرجل هو مسار تراكمي غير ملتبس، واضح، ضامن للاستمرارية، غير متضمن للقطائع الإبيستمولوجية. مع ذلك، فإن المذكرات بصفة عامة، تهيمن عليها لغة الرزانة والتعقل وعمق التجربة وشموليتها. إن بنسعيد، هو من الشخصيات القليلة التي يمكن أن تلقب برجل الدولة، وإن لم يتحمل مسؤولية رسمية.
عودة إلى الطفولة واكتساب الوعي الوطني
يصعب اختزال المتن في تخصص واتجاه معين. تتدرج الأحداث رويدا رويدا، من الحديث عن الطفولة وفقد الأم إلى وقتنا الراهن. يحاول محمد بنسعيد استعادة طفولته، من خلال تذكر بعض تفاصيلها، والتي يرى أنها قد ساهمت في تكوين شخصيته. ومن أهم سمات طفولته؛ الاستعمار الفرنسي للمغرب. فقد شاهد أيت إيدر وهو الطفل اليتيم الصغير كيف يبطش المستعمر بالناس وبقيادة المقاومة تحديدًا. إنها الصدمة الأولى، التي ستشكل وعيه الوطني.
وفي مرحلة المراهقة، وبحكم انتماء بنسعيد إلى عائلة كبيرة، يقوم اقتصادها على التجارة، فقد ربط مجموعة من العلاقات مع التجار، وكان يسترق السمع بين الفينة والأخرى إليهم وهم يتحدثون مع العائلة عن جرائم الاستعمار ضد السكان في المناطق التي جاء منها هؤلاء التجار. في هذا السياق بالذات، سينفتح الرجل على مسار المقاومة المسلحة.
سلاح النظرية والبندقية
لعب الرفيق محمد بنسعيد أيت إيدر دورًا محوريًا في تجميع شتات المقاومة المسلحة بالجنوب، خاصة على مستوى قبائل أيت باعمران، حيث كانت له علاقات قوية مع المناضلين هناك. وبعد خطوة التجميع، بدأ يلعب على محور الشمال، حيث قام بالتنسيق بين عناصر جيش التحرير في الجنوب والشمال. وبالرغم من فتوة عمره، غير أن الرفيق، قد استطاع أن يلعب هذا الدور المحوري، بل والتنسيق مع قيادي الحركة الوطنية بالخارج. وبدخول المقاومة عهد السلاح، فقد كان أيت إيدر من بين رجالات المرحلة التي زاوجت بين النظرية والميدان، بين التكتيك اللحظي المتمثل في إعلان استقلال منطقة النفوذ الفرنسي في المغرب وبين الاستراتيجية الطويلة الأمد، والمتمثلة في استمرار المقاومة المسلحة إلى حين تحرير كافة التراب الوطني. هاته اللحظة الفارقة والدقيقة، والتي لعب فيها بنسعيد دورًا أساسيًا في الدفاع عن الخيار الاستراتيجي بدل التكتيك اللحظي، والذي ستكون له تبعات على جيش التحرير وبناء المغرب الحديث.
تتغير الظروف والأزمنة والأحداث الكبرى التي عاشها المغرب، فتبقى شخصية محمد بنسعيد أيت إيدر شاهدة على كل الانتصارات والإخفاقات، يشير فيها إلى السلبي والإيجابي معًا، دون الشعور بالنقص، وهو الرجل الذي ناضل ضد الاستعمار والنظام معا على فترات متباينة، يختفي برهة من الزمن، ليظهر قويًا منظمًا قادرًا على العطاء والمقاومة. لقد كانت المقاومة في نظر بنسعيد تزاوج بين الدبلوماسية والسلاح. ومن غير الحكمة المزاوجة بينهما دائما. ففي اللحظات المفصلية التي تتطلب السلاح وحده، يكون بنسعيد رجل البندقية بامتياز. ولأن المجاهد محمد بنسعيد أيت إيدر، ما يزال مقاوما مدافعا عن خياراته السياسية والفكرية وإن تغيرت الظروف واللبوس، فإنه يبقى شخصية وطنية استثنائية في زمن استثنائي. مناضل وطني بحزب الاستقلال، مقاوم وقيادي بجيش التحرير، مؤسس لليسار الجديد، ومكمل ومتمم لما سبق بالمنظمة والحزب الاشتراكي الموحد. وما يوحد بين هذا الفسيفساء هو الوطنية والحب.